في الحديث عن النعمة والناموس لابد أن نتعرَّف أولاً، باختصار، على ما هو المقصود بكلمة الناموس. 1 - قوانين العهد: وهي التي تعود إلى موسى النبي والتي تلقَّاها من الله على جبل سيناء. وفي سفر الخروج نجد مجموعة هذه القوانين في إطار تاريخي محدد، هو تاريخ عقد الميثاق والعهد عند سيناء. ولكن هذه القوانين لا تغطِّي كل المجالات القانونية للشعب، بل هي بمثابة العمود الفقري أو مقتطفات من القوانين، وهي تمثِّل معالم قوانين العهد التي تقدست بأمر الله وصارت هي الشريعة المعطاة منه لشعبه. 2 - قوانين السلوك الشخصي: ونجدها في سفر التثنية من أصحاح 5-11، وهي تبدأ بالوصايا العشر وتنتهي بهذا الاختيار الصعب: البركة أو اللعنة، ”البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم“، و”اللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم“. ثم يتبعها القوانين من أصحاح 12-25، لتنظيم عبادة الله، والعلاقات الشخصية والعائلية بين الشعب. وتنتهي بأن التزام الشعب هو حفظ هذه الوصايا: «قد واعدتَ الرب اليوم أن يكون لك إلهاً وأن تسلك في طرقه وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته»، أما الوعد فهو: «وواعدك الرب اليوم أن تكون له شعباً خاصاً كما قال لك وتحفظ جميع وصاياه». وهذا هو معنى الميثاق أو العهد بين الله وبني إسرائيل: حفظ الوصايا مقابل أن يصيروا لله شعباً خاصاً، وهو يكون لهم إلهاً. 3 - قوانين التقديس: ونجدها في سفر اللاويين من أصحاح 18-26، وهي تسمى ”قوانين التقديس“ بسبب قول الله فيها: «... لأني قدوس، أنا الرب مُقدِّسكم» (لا 21: 8). وهذه القوانين تتضمن أساساً التعليمات والأوامر المختصة بالقدس والكهنة وجماعة العهد. وكل هذه الأوامر يجب أن تُحفظ من بني إسرائيل، وهي تُعتبر مقدسة وأوامر إلهية. وتتضمن أيضاً قوانين التطهير من خلال الذبائح الحيوانية، ونجدها من أصحاح 1-17. ومن كل هذا يظهر أن تنفيذ هذه الأوامر والوصايا والفرائض من جانب بني إسرائيل كان شرطاً لدوام العهد والميثاق مع الله، وإلاَّ فالعهد والميثاق ينفصم وينحل، وبالتالي تنتهي العلاقة مع الله: «يكونون لله شعباً خاصاً»، فحفظ الوصايا والقوانين ضروري لتأمين استمرار بركة الرب. ويضع الله وعداً على فم موسى النبي: «إنه يكون لنا برٌّ إذا حفظنا جميع هذه الوصايا لنعملها أمام الرب إلهنا كما أوصانا» (تث 6: 25). ومن هنا أتى المفهوم القديم عن البرِّ، أنه يُقتنى بتنفيذ جميع هذه الوصايا. ولاحِظ كلمة ”جميع“ هذه الوصايا، أن تنفيذها جميعها هو الذي يُعطي للإنسان البرَّ أمام الله، أي البراءة والقبول الكامل لدى الله، وهذا ما لم يتمكن أحد من تحقيقه تماماً. هذا هو ملخَّص معنى ومضمون الناموس أو الشريعة أو التوراه. المسيح والناموس لقد كان المسيح المولود ”تحت الناموس“ مُطيعاً لناموس موسى سواء بواسطة والديه وهو طفل (لو 2: 22-24 و27و29)، أو بواسطته هو شخصياً بعد بدء خدمته. ولكنه في نفس الوقت كان يتصرَّف باعتبار أن له حقوقاً أعلى في تفسير الناموس أو حتى في تنحية بعض قواعده جانباً. وعلى هذا الأساس كان يحكم على التطوير الذي حدث للناموس في شكل التعاليم الشفاهية التي وضعها الشيوخ والكتبة، والتي تُركِّز على الحرفية القاتلة التي كانت تنكر جوهر الناموس وقصد الله من إعطائه. المسيح هو رب الناموس، ومُعطي الناموس: لقد وضح من تعاليم المسيح وسلوكه أن المسيح لم يكن مجرد مُفسِّر للناموس، بل صرَّح بأنه هو ”رب الناموس“ بقوله هو ”رب السبت“ (مت 12: 8، مر 2: 28، لو 6: 5). وفي تقليد الكنيسة، يُعتبر المسيح هو ”مُعطي الناموس“: [لأن كلمة الله الحي الذي للآب، الذي نزل ليُعطي الناموس على جبل سيناء، وغطَّى رأس الجبل بالدخان والظلام والضباب والعاصف...؛ هو أيضاً نزل عليكِ أيتها الجبل الناطق بوداعة ومحبة بشرية.] (ثيئوطوكية يوم الثلاثاء) لقد أعلن المسيح هذا وهو يلغي بعض قواعد ووصايا في الناموس، بإعلان مستقل وسلطان شخصي في إعلان مشيئة الله لتلاميذه. فباعتباره المسيَّا وابن الله يقف المسيح أعلى من الناموس، إلاَّ أن المسيح لم يُهاجم الناموس بتاتاً، بل كان يؤكِّد على شرعيته الدائمة، إلى أن حُكِمَ عليه بالموت بمقتضى الناموس بحسب حُكم الشيوخ ورؤساء الكهنة اليهود. وهنا تحوَّل الأمر، لأن مُعطي الناموس ورب الناموس حُكِمَ عليه بأنه ”مجدِّف“ و”فاعل شرٍّ“، وبسبب ذلك فإنه ”بحسب ناموس اليهود يجب أن يموت“ (يو 19: 7). وبناءً على هذا الحُكم الجائر من حَفَظَة الناموس والقوَّامين عليه، قال بولس الرسول فيما بعد: «وأما الآن فقد تحرَّرنا من الناموس، إذ مات الذي كنَّا مُمْسكين فيه، حتى نعبد بجدَّة الروح لا بعِتْق الحرف»، «... أنتم أيضاً قد مُتـُّم للناموس بجسد المسيح، لكي تصيروا لآخر، للذي قد أُقيم من الأموات لنُثمر لله.» (رو 7: 6و4) وبعد قيامة المسيح وصعوده إلى السموات وإرسال الروح القدس على التلاميذ، قام وضعٌ آخر لناموس موسى، بعد أن فَقَدَ الناموس دوره كوسيط بين الله وشعب الله، وصار المسيح مُعطي الناموس القديم هو نفسه وسيط العهد الجديد (1تي 2: 5، عب 8: 6؛ 9: 15؛ 12: 24)، وبصليبه وموته وقيامته وصعوده إلى السموات ودخوله إلى عرش الله متشفِّعاً من أجلنا؛ صنع العهد الجديد. لقد فشل إسرائيل في طاعة الناموس ونكث بشروط استمرار عهد الله معهم. ولكن الله أكَّد على أمانته المستمرة لشعبه ولوعوده، فأعلن أنه سوف يؤسِّس عهداً جديداً مع شعبه من خلال ”ناموس الله“ الذي يُكتب في القلب (إر 31: 31-34)، حتى من خلال هذا الناموس الجديد تتحوَّل هذه القلوب لتجعل شعب الله مُطيعاً لعهد الرب (حز 36: 24-28)، فيعودون مرة أخرى شعباً لله ويكون الله إلهاً لهم. المسيح في سلوكه تجاه الناموس: تخبرنا الأناجيل أن الرب يسوع كان - بوجه عام - مُطيعاً لناموس موسى، فكان يحضر الأعياد الكبرى في أورشليم، وكان يدفع ضريبة الهيكل (مت 17: 24-27)، ويضع الأهداب في ذيل ثوبه حسب تعليمات الناموس (مت 9: 20 - كوصية الرب لكل بني إسرائيل عدد 15: 38-41). إلاَّ أنه كسر السبت ليُطهِّر المرضى (وسنرى أن ما فعله الرب يسوع لم يكن كسراً حقيقياً للسبت)، ولَمَسَ الأبرص خلافاً لتعليمات الناموس بعدم لمس النجس، وترك المرأة نازفة الدم تلمس هُدْب ثوبه (مت 8: 3، مر 1: 41، لو 5: 13، مت 9: 20، مر 5: 27، لو 8: 44). وكل هذا لم يكن عن كسرٍ حقيقي للناموس بل عن تطبيق لجوهر الناموس. ولكنه كان يتصرَّف باعتباره رب الناموس، ومُعطي الناموس، وهو الله الذي سيُعطي للناموس كماله. موقفه من التعاليم الشفاهية للكتبة: ويختلف الأمر بالنسبة للتعاليم الشفاهية لليهود. فالرب يسوع كان يُخالِط ويُجالِس الناس المعتَبَرين في نظر اليهود المتمسِّكين بالتعاليم الشفاهية للشيوخ أنهم أنجاس (غير طاهرين) مثل العشارين والخطاة (مت 9: 10-13، مر 2: 15-17، لو 5: 29-32). وكان يؤدِّي عمل الرحمة والمحبة في السبت للمرضى الذين على وشك فقدان حياتهم (مر 3: 1-6، مت 12: 9-13، لو 6: 6-11؛ 13: 10-17؛ 14: 1-6، يو 5: 1-47؛ 9: 1-41). ولم يكن المسيح يتفاخر بهذه التعاليم الشفاهية، ومع ذلك كان يحضر المجمع يوم السبت، ويُمارس العادات عند الأكل والصلاة المرتبطة بها. ولكن المسيح الذي لم يكن يكسر التقاليد اليهودية في عصره، كان يعتبر نفسه حُرًّا في أن يتخطاها إذا استدعت الضرورة. المحبة والناموس: والمبدأ الذي كان يؤكِّد عليه المسيح هو وصية المحبة. لقد حدَّد المسيح المحبة لله والمحبة للقريب باعتبارهما الوصيتين العُظميين (مت 22: 34-40، مر 12: 28-34، لو 10: 25-28، يو 13: 34و35)، ووصفهما أن: «بهاتين الوصيتين يتعلَّق الناموس كله والأنبياء.» (مت 22: 40) أما القاعدة الذهبية فهي: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم»، وبسبب هذه القاعدة قال المسيح: «هذا هو الناموس والأنبياء.» (مت 7: 12) وتأكيد المسيح على أن ”الرحمة“ أفضل من ”الذبيحة“ (مت 9: 13؛ 12: 7)، وتفضيله خلاص الإنسان على حِفظ يوم السبت (مت 12: 3، مر 2: 27، لو 6: 9)، وإعلاءه وصية المحبة؛ كل هذا لكي يُعرِّفنا أن هذه الوصية ذات شأن هام جداً في تطبيق الناموس. وهكذا كان المسيح يرتكن إلى المحبة لإظهار معنى وقصد تطبيق الناموس. وبعكس الكتبة الذين كانوا يؤكِّدون على المراعاة الحرفية المُدقِّقة للوصايا، كان المسيح يطلب النية من وراء تنفيذ الوصايا، وفهم معناها، والطريقة التي تُطاع بها في ضوء هذه النية. هذه النية هي ”محبة الله“ و”محبة القريب“، وهذا هو معنى ما قاله المسيح: «الناموس كله والأنبياء»، أنه يتعلَّق بهذه الوصية ”المحبة لله“ (تث 6: 5)، و”المحبة للقريب“ (لا 19: 18). وهاتان الوصيتان هما المحك والمقياس اللذين بهما تُختبر نية ومعنى كل الوصايا الأخرى. وهناك أحداث كثيرة متعددة تُعلن دور وصية المحبة في تفسير يسوع للناموس: - حينما كان الرب يسوع يُدافع عن العشَّارين والخطاة ويرجع إلى نبوَّة هوشع 6: 6: «إني أريد رحمة لا ذبيحة» (مت 9: 13)، فقد كان يُعلن أن إخفاق الإنسان في أن يفهم قصد الله من الناموس فيعتمد على التعليم الشفاهي الذي يقضي بتحريم مخالطة ”غير الطاهرين“ على حساب إظهار رحمة الله على الخطاة؛ هو أمرٌ مرفوض. - ونفس الوضع في حادثة قطف تلاميذه من سنابل الحقل (مت 12: 7)، حيث كان الرب يسوع يقتبس من نفس آية هوشع 6: 6 ليُدافع عن تلاميذه ضد إدانتهم بكسر السبت. فالتلاميذ بلا خطية كسر السبت بسبب قطفهم من سنابل الحقل، لأن هذا ليس ضد قصد الله من وصية حِفظ السبت. وفي نفس الموضع يُعطي الرب يسوع شهادة من قصة داود وتابعيه (1صم 21: 1-6) الذين بينما كانوا يهربون من غضب شاول، أكلوا من ”خبز الوجوه“ «الذي لا يحلّ أكله إلاَّ للكهنة» (مت 12: 3-4، مر 2: 25-26، لو 6: 3-4). ويذكر المسيح هذه الحادثة ليُظهر أن احتياج الإنسان المُلحّ يأخذ دور الأولوية في الطاعة للناموس. وإنجيل متى يشير إلى أن التلاميذ كانوا جائعين في هذه الحادثة، فمدُّوا أيديهم وأكلوا من سنابل الحقل. - وفي إنجيل مرقس (2: 27)، يرجع الرب يسوع إلى سفر صموئيل الأول 21: 1-6 بالتصريح: «السبت إنما جُعِلَ لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل السبت» (مت 12: 12، مر 3: 4، لو 6: 9)، ويُصرِّح قائلاً: «إذاً، يحلُّ فِعل الخير في السبوت». فوصية حِفظ السبت يجب أن تُفهم على ضوء قصد الله الأساسي هذا من إعطاء الله للوصية. فوصية السبت تُطاع بحق حينما يكون قصد الإنسان السائد هو مساعدة أخيه الإنسان. وهذا هو السبب في أن شفاء المسيح لامرأة يوم السبت لم يكن كسراً لوصية حِفظ السبت، بل هو تنفيذ حقيقي للناموس حسب قوله: «وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أَمَا كان ينبغي أن تُحلَّ من هذا الرباط في يوم السبت.» (لو 13: 16) فالمسيح كان يوصي بأن ”محبة الله“ و”محبة القريب“ من حيث أنهما هما مطلب الله من وراء إعطاء الناموس، يجب أن توضعا موضع الاعتبار حينما نُفسِّر معنى الناموس. (يتبع)
|