دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

 

 
مَثَل الوزنات
محاكمة العبد الكسلان والشرير

 (مت 25: 24-30)

 

24:25و25 «ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ».

هنا اعتبار الخادم أن الديَّان هو سيده يعني مباشرة أنه مسيحي. بل وهذا هو الذي جعله يلوم السيد على سلوكه بسبب تعرُّفه على الديانة المسيحية من وجهة نظر خاطئة وبتقدير سيئ للغاية. فالعبد هنا بدأ يدين السيد على سلوكه وأخلاقه ويلصق به بناءً على ذلك تهمةً أنه السبب في كونه مضى وأخفى الوزنة في الأرض، فلا هو انتفع بها ولا نفَّع أحداً. علماً بأن الله لا يقبل قط أن يعتذر إنسان عن أعماله المخالفة بسبب أي موقف أو ظرف أو إنسان آخر. وها هو موقف آدم لمَّا قال للرب دفاعاً عن نفسه كونه أكل من الشجرة المحرَّمة: «آدم ... أين أنت؟ فقال: سمعتُ صوتك في الجنة فخشيتُ لأني عريان فاختبأتُ. فقال: مَنْ أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت» (تك 9:3-12). هذا العذر ولو أنه صحيح شكلاً ولكن لم يَعْفِه من اللعنة، فقد أدان الله لأنه أعطاه امرأة تعينه، وأدان المرأة لأنها أعطته فأكل. ولكن هنا في هذا الخادم المسيحي الذي أدان الديان كان دفاعه أشنع، إذ تمسَّك عليه السيد بهذا الدفاع وعامله بما ظنَّه وبما اتهمه به.

«يا سيِّد، عرفتُ»:

والفعل اليوناني يفيد أنه وصل إلى معرفة وكأنها محصِّلة بحث، وهذه المعرفة التي تأكَّد منها هي التي ألجأته إلى أن يدفن موهبته في الأرض خوفاً منه، على مثال (تك 3: 10): ”خشية آدم“.

«إنسان قاسٍ»:

واضح لنا جداً أن غياب المحبة في قلب هذا العبد هي التي فصلت قلبه وذهنه عن سيِّده، كذلك عدم الأمانة وعدم الثقة جعلت الخوف يطغى على الطاعة ويضحِّي برضا السيد. ثم إن وصفه للسيد بالقسوة هو مجرَّد تبرير لسلوكه غير الأمين وشعوره غير المحب ولا الخاضع لأوامر السيد. فهو اتهام جزافي ليس عنده ما يبرِّره إلاَّ عجزه عن أن يكون خاضعاً وأميناً ونشيطاً.

ونحن يستحيل أن نبرِّر هذا العبد في قوله عن السيد إنه قاسٍ مهما كانت الأسباب التي يتذرَّع بها، لأن سيده علم أولاً أن لديه الطاقة والإمكانية والقدرة على تحمُّل مسئولية إدارة وزنة واحدة، ثم هو أُعطي بالفعل وزنة تساوي طاقته وإمكانياته تماماً. فهو محاصر بين دراية السيد بإمكانياته وطاقته، وبين عطية الوزنة التي تساوي طاقته وإمكانياته. هذا فيما يخصّه تماماً، فكونه يخرج بعذر جديد، فهذا ليس له علاقة بالمسئولية التي ألقاها السيد عليه، وهي مسئولية فيها تكريم ووعد جيد بالمجازاة. هذا شيء يذهلنا، إذ بدلاً من أن يدين نفسه ويطلب الرحمة والمعذرة، انطلق يبرِّر نفسه وسلوكه بأن يأتي باللوم على السيد أنه رجل قاسٍ. هذا أضاف إلى قضيته، التي تنحصر في التهاون والكسل وعدم الأمانة والاستهانة بأوامر السيد، عنصراً خطيراً في الحكم، إذ تعدَّى على شرف السيد كقاضٍ، وذمَّه علناً بأنه قاسٍ، وكأنها محاولة منه لردِّ القاضي عن أن يكون صالحاً للحكم والقضاء، وهذا يُحسب للعبد شناعة: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل مَنْ يدين. لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك.» (رو 1:2)

«تحصد حيث لم تزرع»:

تطلب أكثر مما يحق لك، وتطالب بأكثر مما نحتمل، وتُسخِّر جهدنا ظلماً، وتطالب بنتائج ليس ما يبرِّرها في الاتفاق أو العقد، وقد شرحها المسيح في الآية (26) أنه يجمع من حيث لم يبذر. وصوت الرب في مِثْل هذا الادعاء الكاذب واضح في سفر أيوب: «لعلَّك تناقض حكمي، تستذنبني لكي تتبرَّر أنت؟» (أي 8:40)

ومهلاً عزيزي القارئ، فلا تتحامل كثيراً على هذا العبد الشرير الكسلان، فهو أنا وأنت!! لأن قضية العبد الذي خبَّأ وزنته في التراب وعاد فاستذنب الله ليتبرَّر هو، هي قضية كل خاطئ يرفض الاعتراف بخطيته أو التوبة عمَّا يصنع، لأنه يقتنع أن الحياة بلا خطية مطلب إلهي غير عادل، فإن كان الله لم يزرع في الجسم الطهارة والتقوى فكيف يطالب أن يحصد ما لم يزرعه؟ وإنها - كما نفكِّر أحياناً - قسوة من الله أن يطالبنا أن نرتفع فوق طبيعتنا التي صنعها لنا. بهذا نكون قد وضعنا أنفسنا موضع العبد الشرير الكسلان الذي لم يتاجر بموهبة النعمة من أجل الطهارة، بل طمرها في الجسد (التراب) وعاد يبرِّر نفسه أمام الديَّان - فقد دَفَنَ المعمودية والمسحة والشركة والنعمة وأعادها بلا فائدة!! ولكن يضيع منَّا منطق قضيتنا ولا يبقى لنا دفاع العبد الكسلان الشرير الذي يمكن أن يختفي وراءه، حينما نعلم أن العبد الصالح الأمين صاحب الخمس وزنات الكبرى - الإيمان والرجاء والمحبة ومعها القداسة والصبر - تاجر وربح وفاز، وأُعطي من حصيد زرع الله ملء الأغمار والأحضان. كذلك زميله المبارك صاحب الوزنتين: الحب والاتضاع، كيف ملأ بيت الله من ثمار حبه واتضاعه، وصار زينة لكل أهل البيت! فعطَّرت رائحة المعمودية أرجاء الملكوت وازدانت شركته في الروح بأقواس النصر.

26:25و27 «فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً».

«الشرير والكسلان»:

أمَّا كونه شريراً فلأنه عصى أمر سيده عصياناً مبيَّتاً، وهي نفس خطية آدم التي جلبت الخراب على بني جنسنا. فأمر الله يُطاع حتى الموت ولا عذر إطلاقاً لعصيان أمر الله. لأن ذلك معناه القطع من الحياة والحكم بالموت. أمَّا كونه كسلاناً ومتوانياً، فواضح لأنه لم يحاول ولو محاولة أن يعمل بالموهبة التي استأمنه عليها سيده، وقد أعطاها له بحكمة ودقة وعدل بما يساوي طاقته وإمكانياته. فسيِّده يعلم أن لا عذر له على الإطلاق.

«عرفت أني أحصد حيث لم أزرع وأجمع من حيث لم أبذر»:

المسيح هنا يعيد ويستزيد من حجة العبد الشرير الكسلان لكي يفتضح دفاعه، كما فعل الرب مع أيوب على مدى أربعة أصحاحات كاملة. وهذا تعجَّب له الله وأوضحه لأيوب، إذ كيف يختصم الله أو يخاصمه؟ «هل يخاصم القديرَ (مفعول به) موبِّخُهُ (فاعل) أم المحاج اللهَ (مفعول به) يجاوبه (الشخص)» (أي 2:40). أي لسان حال الله أو السيد هنا أنه أمرٌ فائق الشناعة أن الإنسان الذي تحت التوبيخ من الله يرفع صوته وكأنه يتخاصم معه ويجاوبه بوقاحة!!

ولكن عاد السيد وقَبـِلَ هذا الادعاء الكاذب والخوف المصطنع، وأنه فعلاً قاسٍ ويحصد حيث لم يزرع، رَضِيَ بهذه الأعذار كلها ولكن لم يرضَ إطلاقاً أن تُردَّ له مواهبه عاطلة بلا عمل ومتاجرة. إنها إهانة أشد الإهانة لتدبير السيد (الرب). فكلمة الله لا تُرَدّ فارغة بل حتماً تأتي ببركاتها: «هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سررتُ به وتنجح في ما أرسلتها له.» (إش 11:55)

وأعطى السيد مخرجاً للعبد الشرير الكسلان لكي يبرِّر نفسه أمام الديَّان لكي يعيد الوزنة ومعها ربحها. فإن كانت أموالاً فيمكن أن توضع عند الصيارفة (أي البنوك بلغة اليوم)، فكان يستعيدها ويقدِّمها للسيد مع الربح. أمَّا إن كانت موهبة، فعليه أن يلتحق بجماعة رابحي النفوس الذين يعملون بالمواهب ليربحوا النفوس السائرة في طريق الموت والهلاك، ويستعيدونها مكرَّمة وممجِّدة للمسيح: «والذين ردُّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور.» (دا 3:12)

28:25و29 «فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».

«الذي لا يعمل لا يأكل». الذي تاجر وربح وأثبت جدارة فهذا عنده الإمكانية للمزيد، فهو الذي يأخذ الموهبة التي بقيت عاطلة وليس مَنْ يعمل بها. أمَّا الذي ثبت أن ليس عنده الرغبة والإرادة على العمل فالذي أخذه يؤخذ منه. هذا هو ”عدل العمل“ أو قانون المواهب: ”الشجرة التي لا تصنع ثمراً جيِّداً تُقطع وتُلقى في النار.“ (راجع مت 10:3؛ 19:7)

واضح لدينا الآن أن عين المسيح مسلَّطة على العمل والجهاد والنشاط والربح فيما يخص المواهب التي سكبها على التلاميذ والكنيسة. فغياب المسيح المؤقت هو فترة العمل والجهاد العظمى لتكميل الخدمة والبلوغ بالفداء والخلاص إلى أقصى طاقة البشرية في الخدَّام الذين سيسكب المسيح عليهم مواهبه باستمرار، وبقدر طاقتهم وإمكانياتهم في الخدمة. والذي يُبدي نشاطاً أكثر سينال مواهب أكثر، والذي يتراخى ويهمل تُسحب منه المواهب. والمسيح يركِّز على أن فترة انتظار مجيء الرب هي فترة العمل بالمواهب. فالسهر ينبغي أن يكون سهراً عمَّالاً ومنتجاً. على أنه قد تبيَّن لنا أن المكافأة على أمانة الخدمة والعمل بالمواهب ستكون مزيداً من العمل والمواهب فوق، مع فرح لا يُنطق به.

30:25 «وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ».

هنا أخذ العبد فوق صفاته الأُولى «الشرير والكسلان»، صفة ”البطَّال“ أيضاً التي تعني بلا عمل ولا قيمة، أخذ المسيحية بمواهبها وخرج منها فارغاً، وعلاقته الفريدة بالرب السيد أنهاها رافضاً مرفوضاً. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ”ليس من يأتي السيئات فحسب يُدان بل ومَنْ لا يعمل الصالحات أيضاً يُدان بشدة.“( )

أمَّا الظلمة الخارجية فهي الحرمان الأبدي من الله والمسيح النور الحقيقي، حيث حماقة الجهالة التي أحبَّها وفضَّلها على خدمة السيد في نور قديسيه. كَرِهَ النور فسعت إليه الظلمة، وتعالى على تعب النعمة فغطس في طين البطالة بأن انتُزِعت منه طاقة العمل وقدرة الخدمة. استهان بالفرح الأبدي في نور قديسيه وملكوت الأبرار فاكتسب كآبة الندم والبكاء على ما فات. ومرَّة أخرى بكى المسيح على أُورشليم وذكَّرها كم مرَّة أراد أن يجمع أولادها تحت جناحيه، فلم تُرِدْ. لم يشأ الرب أن تخرب أورشليم أبداً بوعود صادقة، ولكنها خانت كل مواعيده ولم تعرف زمان افتقادها. أحبَّها من كل قلبه، أمَّا هي فنقمت عليه من كل قلبها. سعى إليها معلِّماً، فسعت إلى قتله ولم ترحم. هكذا، فالله لا يُسرُّ بموت الخاطئ، بل أن يتوب وتحيا نفسه (حز 11:33).

والقارئ لا يمكن أن يفوت عليه دعاء السيد للعبد الذي أطاع وعمل: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين... ادخل إلى فرح سيِّدك»! هذا هو يسوع المسيح بالأساس المبشِّر بالأفراح لبني الإنسان. فإن هو أرسل العبد البطَّال إلى الظلمة الخارجية، فلأن العبد قد سعى إلى ذلك وصمَّم على طلبه!

الأب متى المسكين

*********************************

دير القديس أنبا مقار

أخذت المجلة تصريحاً من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، والذي يعوله دير القديس أنبا مقار بإشراف الأب متى المسكين منذ عام 2000، ورقم الحساب كالآتي:

438907-104-02

دير القديس أنبا مقار

البنك المصري الأمريكي ــ فرع النيل هيلتون

*********************************

**** غِنَى الكنيسة وميراثها *********************************

+ الكنيسة غنية، دائماً تفيض بعطاياها بكل سخاء، في كل وقت، بسبب استحقاقها المستمر. والكنيسة مستحقة لكافة عطايا المسيح بسبب كونها مختارة وجديرة بالاختيار معاً. فالمسيح اختار الكنيسة من وسط العالم وفداها بدمه ليُعلن فيها غِنَى لطفه وعمق محبته وصِدق مواعيده وأسراره. والكنيسة بدورها أبرزت للعالم بواسطة قديسيها وأتقيائها، شهوداً أثبتوا جدارة الكنيسة باختيار المسيح لها، بسيرتهم وحياتهم ونسكهم وصومهم ومحبتهم التي فاقت حدود الموت! وحتى الآن وإلى الأبد لا تزال الكنيسة تأخذ من غِنَى لطف المسيح وعمق محبته وأسراره، وكذلك ميراث قديسيها ومجدهم المذخور في كنزها، بآنٍ واحد، وتُفرِّق على أولادها.

*************** (عن كتاب: ”أعياد الظهور الإلهي“، للأب متى المسكين، الطبعة الثالثة 1992، ص 11)