يظل العهد القديم بالنسبة للمسيحيين يحمل التقدير اللائق، لأنه يشمل عدداً لا بأس به من النبوَّات عن "المسيَّا"، وكذا الأقوال الموحَى بها فيما يتعلَّق بشخص وعمل المسيح الممسوح.
"المسيَّا Messiah"، والكلمة العبرانية Mashiah تعني "الممسوح"، والسبعينية التي هي أقدم ترجمة باليونانية للعهد القديم (250 ق.م) تُترجم هذا الاسم بكلمة crist?j (المترجمة باللغة العربية "المسيح")، وهي الكلمة التي تُعطي نفس المعنى للمقابل العبري. كان الذين يُمسحون في العهد القديم هم الملوك والكهنة والأنبياء، أي قادة إسرائيل المتوشِّحين بالمواهب، والذين كان سلطانهم ممنوحاً لهم من الله. لذلك فالنبوَّات عن المسيح تُمثـِّل الفترة الزمنية التاريخية قبل مجيء ربنا يسوع المسيح. ويقول يوحنا الرسول: "وأما هذه فقد كُتِبَت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه." (يو 20: 31) ويتميَّز تاريخ العهد القديم بتسلسل ثابت دائم، يبدأ بالعالم الذي خلقه الله (تك 1)، عبوراً بدعوات مختلفة (مثل دعوة إبراهيم في تـــك 12)، ثم عقد العهود (مثل عهد سيناء في سفر الخروج - أصحاح 19)، حيث تبلغ هذه العهود ذروتها بيوم مجيء المسيَّا، والذي فيه تعود كل الخليقة لتخضع لخالقها. ومن خلال الأزمنة والأمكنة التي ذُكرت في العهد القديم، نجد المسيَّا - حتى قبل أن يتجسَّد - في رحلة مستمرة عَبْرَ التاريخ، ولكن مُغيِّراً اسمه ومظهره ولقبه، يهمس بلطف وهدوء، أو يَظهر بظهور مُبْهَم، مُخفياً نفسه بعلاماتٍ وأشكال سرِّية كظلال لحقيقة التجسُّد العظيم الذي كَمُل في المسيح يسوع. لقد كان موجوداً دائماً هناك، في قلب التاريخ الخافق، حيث يظهر أنه عبد يهوه (وهو الاسم الشخصي لله في العهد القديم، والذي يعني: "الكائن الذي يكون")، الإله الوحيد الموجود هنا وهناك، الآن وفي كل زمان، بالنسبة لكَ وبالنسبة لي، ولكلينا معاً عندما نكون في عمق الاحتياج وشدَّة الحزن. إنه قريبٌ جداً من يهوه أبيه والذي مسحه، حتى أنه في أوقات كثيرة كانت أسماؤهما متبادلة. فمثلاً في (خر 3: 2) يَظهر ملاك يهوه (الذي هو مثال للمسيَّا) لموسى في العلَّيقة المشتعلة في حوريب، بينما في عدد 4 نجد أن يهوه نفسه هو الذي يتكلَّم معه. وفيما يتعلَّق بالعلاقة بين المسيَّا الموجود قبل ظهوره، وبين صُوَره وأشكاله التي ظهر بها سابقاً؛ فإن المرنِّم يكتب في (مز 45: 6و7): "كُرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب مُلكك. أحببتَ البرَّ وأبغضتَ الإثم، فعن حقٍّ اختارك الله إلهك ليمسحك بدُهن الابتهاج أكثر من رفقائك". والمقصود بـ "رفقاء" الممسوح المذكور في هذا النص يعود إلى أشكال وأمثلة الأنماط التي ظهر بها المسيح. والمرنِّم يُشير إلى المسيَّا، الذي بسبب طبيعته الإلهية يفوق كل أشكال (رفقائه). ومن حيث إن المسيَّا يشترك في نفس الطبيعة الإلهية التي لله الذي مسحه ليُتمِّم به عمله الخلاصي في العالم، فإن أي وصف له إنما يستخدم لغة تبدو في مضادة ظاهرية. وهذا الافتقار الظاهر للدقة والإحكام، والذي قد يصل أحياناً إلى درجة عالية من الغموض، هو ذات التعبير عن التداخُل (باليونانية pericèrhsij) بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص المسيَّا. فبينما الطبيعة الإلهية قد تُغلَّف في لغة بشرية، إلاَّ أن هذه الطبيعة الإلهية تنفلت من أية قَوْلَبة محدودة للتعبيرات. وفي السطور القادمة، سوف نتمعَّن في بعض الأمثلة من نبوَّات العهد القديم التي توضِّح كيف أن الكُتَّاب الموحَى إليهم يستخدمون لغة بها مضادة ظاهرية يحاولون بها أن ينقلوا ويوصِّلوا ما هو فائق عن الوصف.
1 - نسل المرأة: يحوي سفر التكوين (3: 15) أول الأخبار السارَّة ( والمسمَّاة في اللغة الآبائية Protoevangelium - الإنجيل المُسبق) التي أعطاها الله لآدم وحواء فورَ تعدِّيهم لوصيَّته. هنا الله يخاطب حواء قائلاً إنه سوف يُقيم عداوة بين "المرأة" و"الحيَّة" (أو الشيطان). إن أداة التعريف في الكلمة العبرية ha-ishah أي "المرأة" والتي يُعنَى بها "امرأة محددة"، جعلت الكُتَّاب المسيحيين الأوائل يَرَوْن في هذه المرأة المُحاطة بالعناية الإلهية سَبْق إشارة لشخصية القديسة مريم والدة الإله. والصفة الماسيَّانية لهذا النص اعترف بها أيضاً المفسِّرون اليهود. فالترجوم المنحول ليوناثان (وهي ترجمة تفسيرية للأرامية) في الفصل الخاص بسفر التكوين (3: 15) ينتهي بالملاحظة: "في أيام الملك المسيَّا". ولكن ما يُحيِّر أكثر في هذه الآية، هو ذِكر كلمة "نَسْل" مع كلمة "المرأة". لقد كان يجب أن يكون الكلام عن نسل "الرجل" كأمر طبيعي بدلاً من نسل "المرأة". هذه الكلمات المضادَّة للوضع الطبيعي تؤكِّد على حقيقة أن المسيَّا (الذي هو النسل) سوف يولد بطريقة تسمو على الطبيعة العادية، أي بدون أبٍ بشري، ولكن النص لا يُفصِح عن كيف سيكون هذا "النسل" هو نسل "المرأة". إنه يُقحِم ببساطة هذه التضادة الأولى داخل هذا التصوير المتشابك للمسيَّا. 2 - عذراء تصير والدة الإله: انقضت قرون عديدة منذ فجر البشرية، منذ أُلقي هذا الخبر السارّ (المسمَّى باللغة العلمية: الإنجيل المُسبق protoevangelium)، وذلك في القرن الثامن قبل الميلاد عندما بدأ النبي إشعياء خدمته. لقد ترك لنا نبي أورشليم العظيم نبوَّة من أعظم النبوَّات الماسيَّانية المعروفة والتي طالما اقتَبَسَها الناس، ويؤكِّد إشعياء في نبوَّته (7: 14) على نفس نبوَّة سفر التكوين (3: 15)، أي الحَمْل الفائق للطبيعة للمسيَّا. ويضيف النص تفاصيل قليلة جديدة: أولاً: "فالمرأة" توصف بدقة أنها "العذراء" (قارن ذلك مع الإعلان المُلهَم للترجمة السبعينية للعهد القديم، والتي تُترجـِم الكلمة العبرية المُعرَّفة بأداة التعريف ha-almah "المرأة الصغيرة" أو "الفتاة" بالكلمة اليونانية ¹ parq?noj أي "العذراء"). كما يشير حرف النداء والتعجُّب hinneh والمترجم لليونانية "do? وبالإنجليزية behold وبالعربية "ها هوذا"، إلى حقيقة متضادَّة؛ وهي أن "عذراء" تُعطِي ميلاداً لله. يقول إشعياء تحت إلهام الروح القدس، إن العذراء سوف تحبل (هذا التفصيل يتوازى مع كلمة "نسل المرأة" المذكور في تك 3: 15)، وإنها سوف تلد ابناً وتسميه "عمانوئيل" (وهذا الاسم يعني "الله معنا")، وحينئذ يستنتج المرء أن أُم عمانوئيل هي عذراء سواء وهي في لحظة الحَمْل أو وهي أثناء الحَمْل. وبعد قرنين تقريباً يكون حزقيال (44: 2و3) قد رأى رؤيا باب الهيكل الشرقي في أورشليم الذي سوف يظل مغلقاً. وقد رأى الكُتَّاب المسيحيون هنا تصويراً مُسْبقاً لدوام بتولية العذراء (متضمِّناً في ذلك بتوليتها بعد الولادة). فيقول حزقيال النبي: "هذا الباب يكون مُغلقاً لا يُفتح ولا يدخل منه إنسان، لأن يهوه إله إسرائيل دََخَل منه، فيكون لذلك مُغلقاً. الرئيس prince نفسه هو يجلس فيه ليأكل أمام يهوه" (والاسم "الرئيس" هنا هو مثل عبارة: "رئيس السلام" المذكورة في إش 9: 6 وهو لقب للمسيَّا). والتضادة الثانية: في إش 7: 14، وهي أن المسيَّا بالرغم من أن طبيعته إلهية، إلاَّ أنه سوف يسكن بين البشر، حيث يكون اسمه الرمزي هو "عمانوئيل". (يتبع) |