فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18) 1 - بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11: 1-12: 16) ب - عصيان الشعب وتذمُّره، وطلب موسى من الرب إعفاءه من حمل نيرهم (عد 11: 16-35) لقد ضاق موسى ذرعاً بحمله لمسئولية هذا الشعب الغليظ الرقبة الذي لم يكف عن التذمُّر والشكوى منذ خروجه من مصر، وطلب من الرب أن يعفيه من حمل هذا النير الثقيل، وخاصةً أن مشاعره الرقيقة لم تحتمل رؤية أولاده يبكون بين يديه طالبين ما لا حول ولا قوة له على تحقيقه لهم، وهو أن يوفِّر لهم لحماً يكفي هذه الملايين في البرية. ولشدَّة ضيقه طلب من الرب أن يُعيِّن له مَنْ يعاونونه، وإلاَّ فخيرٌ له أن يموت من أن يحيا معذَّباً حاملاً نير هذا الشعب وحده. ورغم أن موسى لم يستطع في شدَّة كربته أن يتذكَّر أعمال الله السابقة معه، وإنقاذه للشعب من كل المخاطر التي واجهتهم منذ خروجهم من مصر وحتى هذه اللحظة، إلاَّ أن الله بطول أناته العجيبة على خدَّامه الأمناء، التمس كل العذر لموسى، وكانت إجابته ممتلئةً حنوًّا واهتماماً بمساعدته: + "فقال الرب لموسى: اجمع إليَّ سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين تَعْلَم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه، وأقْبـِلْ بهم إلى خيمة الاجتماع، فيقفوا هناك معك. فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثِقْلَ الشعب، فلا تحمل أنت وحدك." (عد 11: 16و17) تعيين السبعين شيخاً: سبق لموسى أن عيَّن للشعب رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خمسين ورؤساء عشرات ليساعدوه في النظر في قضايا الشعب، وكان ذلك بناء على مشورة يثرون حميه (خر 18: 17-27). كما سبق أن أمر الرب موسى بأن يأخذ معه هارون وناداب وأبيهو وسبعين شيخاً ليصعدوا معه إلى الجبل ليسجدوا للرب من بعيد ويكونوا شهوداً لمجد الرب (خر 24: 1). وفي هذه المرة استجاب الرب لطلب موسى بناء على شكواه من ثقل المسئولية الملقاة على عاتقه، فأمره بأن يجمع إليه سبعين شيخاً مشهوداً لهم بالحكمة والمعرفة: "الذين تَعْلَم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه"، حيث الشيوخ هم المتقدمون في السنِّ والحكمة، والعرفاء هم المعروفون بالدراية والحنكة واتساع المعرفة. ولكن ليس كل شيخ هو مَن تقدَّم في السن أو مَنْ خطَّ الشيبُ شعره، بل الشيخ الحقيقي هو مَن علَّمته الأيام الحكمة وزادته السنين خبرةً وفهماً ورزانة. ولم يكتفِ الرب بأن يكونوا شيوخاً، بل اشترط على موسى أن يكونوا عرفاء أيضاً. وكلمة "عرفاء" في العبرية "شَطَريم" ومفردها "شَطَر"؛ ومنها الكلمة العربية "شاطر" المستعملة في لغتنا الدارجة. و"الشاطر" عند العوام هو الشخص الحاذق الذكي العارف بدقائق عمله. كما أطلقت الكنيسة اسم "العريف" على المرتـِّل لكونه يلزم أن يكون مُلمًّا بكل طقوس الكنيسة وترتيباتها ومواسمها وألحانها. وكـان على موسى أن يأخذ هؤلاء السبعين شيخاً إلى باب خيمة الاجتماع لكي يمثلوا أمام الرب، ولكي يراهم كل الشعب باعتبارهم نائبين عن الشعب ومختارين من وسطهم لخدمة الشعب؛ تماماً مثلما كان يتم رسامة الكهنة واللاويين عند باب خيمة الاجتماع، ومثلما كان يحدث للذبائح التي كانت تُقدَّم للرب تكفيراً عن خطايا الشعب أو اعترافاً بمراحم الله والشكر على إحساناته لهم. فقد كان يلزم أن ينبع كل شيء من عند الرب ويبدأ كل شيء من أمام حضرة الرب، حيث كانت خيمة الاجتماع هي مسكن الله في وسط شعبه. وكما كان على موسى تعيين السبعين شيخاً وإحضارهم إلى خيمة الاجتماع، كان على الرب أن يعدَّهم للخدمة التي دعاهم إليها، حيث قال لموسى: + "فـأنزل أنـا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثِقْلَ الشعب، فلا تحمل أنت وحدك." (عد 11: 17) لقد وعد الرب موسى بأن ينزل بنفسه ويتكلَّم معه هناك عند خيمة الاجتماع. وهذا الوعد يُبيِّن استعداد الرب للنزول والتنازل إلى شعبه، وهو تمهيد ودليل على عزمه على النزول إلى عالمنا وتجسده من أجل خلاصنا في ملء الزمان. وإن كان نزول الرب هنا مغلَّفاً بعمود السحاب ومختفياً عن الأعين، لكي يتكلَّم مع موسى فقط كوسيط ينقل كلام الرب إلى الشعب؛ فإن نزول الرب في ملء الزمان كان بأخذه طبيعتنا وتجسُّده في بطن العذراء وحلوله فينا وسيره وسطنا، وكلامه المباشر معنا، لأن "الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه." (عب 1: 1) وهنا أخذ الله من الروح الذي على موسى لكي يضعه على أولئك الشيوخ فيحملون معه ثقل الشعب؛ أما في العهد الجديد فقد حلَّ الله بروحه على التلاميذ لكي يلبسوا قوة من الأعالي ويحملوا الكرازة باسمه إلى أقصى الأرض. ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً: [قال الكتاب إن الله أخذ من الروح الذي على موسى وأعطى منه للسبعين شيخاً. ولما حلَّ عليهم الروح تنبَّأ الجميع (عد 11: 25). وليس معنى هذا أن الله أخذ من موسى شيئاً من جوهره المادي والجسدي ووزَّعه على السبعين وأعطى لكل واحد من الشيوخ جزءًا صغيراً. فإنه من عدم التقوى أن نفهم هذا الأمر هكذا عن طبيعة الروح القدس. ولكن هوذا شرح تصويري لهذا النص السرِّي: فموسى، والروح الذي كان عليه يمكن تشبيهه بمصباح ذي لمعان شديد الإضاءة، ومنه أضاء الله سبعين مصباحاً آخرين، وهكذا انتشر لمعان المصباح الأول على السبعين مصباحاً الآخرين دون أن ينقص شيء من لمعان المصباح الأصلي... إذن، فقد حلَّ الروح القدس على الذين تنبَّأوا، ولكنه لم يستقر عليهم كما استقر على المخلِّص. لذلك كُتب عنه "يخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله، ويحلُّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الـرب" (إش 11: 1و2)... ويوحنا المعمدان كذلك قال عنه: "الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو..." (يو 1: 33)]( ) وَعْد الرب لموسى بأن يُعطي الشعب لحماً ليأكلوا حتى يُتخموا: بعد أن أمر الرب موسى بأن يجمع إليه السبعين شيخاً من عرفاء الشعب لكي يأخذ من الروح الذي عليه ويضع عليهم فيحملون معه ثقل الشعب، مما يُبيِّن أن الروح الذي على موسى كان كافياً بأن يجعل موسى أهلاً لأن يحمل ثقل الشعب وحده، لأنــه "لا بـالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (زك 4: 6)؛ فبعد أن أجاب الرب موسى إلى مطلبه من جهة مَن يُعينه في حمل مسئولياته حسب رغبته، عاد الرب إلى السبب الأصلي الذي من أجله ضعف موسى واشتكى للرب من ثقل المسئولية، وهو طلب الشعب منه أن يأكلوا لحماً. فكان الحلّ الذي قدَّمه الرب لموسى هو قوله له: + "وللشعب تقول: تقدَّسوا للغد فتأكلوا لحماً، لأنكم قد بكيتم في أُذنَي الرب قائلين: مَن يطعمنا لحماً. إنه كان لنا خيرٌ في مصر، فيُعطيكم الرب لحماً فتأكلون. تـأكلون لا يوماً واحداً ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يوماً؛ بل شهراً من الزمان حتى يخرج من مناخِرِكم، ويصير لكم كراهـةً لأنكم رفضتم الرب الذي في وسطكم وبكيتم أمامه قائلين: لماذا خرجنا من مصر؟ فقال موسى: ست مائة ألف ماشٍ هو الشعب الذي أنا في وسطه، وأنت قد قلت أُعطيهم لحماً ليأكلوا شهراً من الزمان! أيُذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يُجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم؟! فقال الرب لموسى: هل تَقْصُر يد الرب؟ الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا؟" (عد 11: 18-23) كان أمر الرب للشعب أن يتقدَّسوا لليوم التالي لأن الرب سيُعطيهم لحماً ليأكلوا. والتقديس هنا هو لاستقبال عطايا الرب مهما كان نوعها. فقد تقدَّس الشعب من قبل ثلاثة أيام لكي يمثلوا أمام الرب ويسمعوا صوته وهو يُلقِّنهم الوصايا العشر (خر 19: 10و11). والآن كان الرب مزمعاً أن يُعطيهم اللحم الذي طلبوه بطريق المعجزة التي لا يتصوَّرها عقل. فكان على الشعب أن يتقدَّسوا معترفين بخطاياهم، ويغتسلوا متطهِّرين بالماء ويغسلوا ثيابهم ويستعدوا لاستقبال عطايا الرب. إلاَّ أن استجابة الرب لهم بإعطائهم لحماً ليأكلوا لم تكن تعني أنه راضٍ عنهم، فهوذا الرب يُبكِّتهم على شكواهم وبكائهم في أُذنيه وقولهم بأنه كان لهم خير في مصر!! هل نسوا سريعاً كيف أنقذهم الرب من العبودية التي كانوا يرسفون تحتها؟ فإن كان الرب يُعطيهم اللحم ليأكلوا منها طوال شهر من الزمان، فلكي يسأموا من اللحم وتعافه نفوسهم، لأنه لا يمكن لشهوات الجسد أن تعطي الإنسان السعادة إذا أُشبعتْ، لأنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4). وهوذا إرميا النبي يقول: "وُجـِدَ كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي." (إر 15: 16) لقد هـال موسى قول الرب إنه سيُعطيهم لحماً لمدة شهر مـن الزمان، وعَجَز إيمانه عن إدراك قـدرة الرب على تنفيذ مـا وعــد بـه. ومــرة أخـرى يتعطَّف الرب على موسى ويحتمل ضعف إيمانــه ويوبِّخه قائلاً: "هل تقصر يد الرب؟ الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا"؟! تكريس السبعين شيخاً: + "فخرج موسى (من حضرة الرب) وكلَّم الشعب بكلام الرب، وجمع سبعين رجلاً من شيوخ الشعب وأوقفهم حوالي الخيمة. فنزل الرب في سحابة وتكلَّم معه، وأخذ من الروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلاً من الشيوخ. فلما حلَّت عليهم الروح تنبَّأوا ولكنهم لم يزيدوا. وبَقِيَ رجلان في المحلة: اسم الواحد ألداد، واسم الآخر ميداد، فحلَّ عليهما الروح، وكانا من المكتوبين لكنهما لم يخرجا إلى الخيمة. فتنبَّآ في المحلة. فركض غلام وأخبر موسى، وقال: ألداد وميداد يتنبَّآن في المحلة. فأجاب يشوع بن نون خادم موسى من حداثته وقال: يــا سيدي موسى اردعهما. فقال له موسى: هـل تغار أنت لي؟ يـا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم." (عد 11: 24-29) كتب موسى أسماء السبعين شيخاً الذين وقع اختياره عليهم، وأرسل مَن يستدعيهم للاجتماع إليه عند الخيمة. ولابــد أنهم كانوا مـن رؤساء الأسباط الذيـن ذُكروا في الأصحاح الأول مــن هذا السفر، والباقي مِمَّن سبق اختيارهم ليصعدوا معه إلى الجبل الذين ذُكروا في سفر الخروج 19. وربما بعضهم من الذين كانوا يُساعدونه في النظر في قضايا الشعب. ونزل الرب في عمود السحاب وتكلَّم مع موسى وحـده، ثم أخذ مـن الروح الذي عليه وجعل على السبعين، "فتنبَّأوا ولم يـزيــدوا". ومـوهبة التنبُّؤ هنا قد تعني التنبُّؤ بالمستقبل، وتسبيح الله وتمجيده بالروح، كما تعني القدرة على التعليم والنطق بأقوال الله. أما قوله: "ولكنهم لم يزيدوا"، أي أنه لم يُعطَ لهم موهبة أخرى غير التنبُّؤ. أما ألداد وميداد اللذان يبدو أنهما كانا أخوين، فلم يستطيعا الحضور إلى الخيمة، ومع ذلك فقد حلَّ عليهما روح الله وتنبَّآ وهما في مكانهما في المحلة، مما يؤكِّد أن روح الرب غير محدود بمكان أو زمان. ويُعلِّق على ذلك القديس بروكوبيوس قائلاً: [لقد تنبَّأ الشيوخ كلهم معاً، ليس كما لو كانوا ينافسون موسى، ولكن بطريقة تبيِّن فقط أنهم نالوا نصيباً من الروح. وكلُّ الذين ذُكِرَت أسماؤهم قبلوا عطية الروح، سواء كانوا في مكان ما أو في مكان آخر، لأن الريح الإلهية ليست مُقيَّدة بمكان ولا بعدد... أما خادم موسى (يشوع بن نون) فقد احتج، ليس من قبيل الغيرة، ولكن اهتماماً منه بكرامة مُعلِّمه.]( ) كانت غيرة يشوع بن نون لكرامة سيده شبيهة بغيرة تلاميذ يوحنا المعمدان لمجد سيدهم، لذلك قالوا له: "يا معلم هوذا الذي كان معك في عَبْر الأردن، الذي أنت قد شهدت له، هو يُعمِّد، والجميع يأتون إليه" (يو 3: 26). ولكن يوحنا أجابهم قائلاً: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أُعطِيَ من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلتُ: لستُ أنا المسيح بل إني مُرْسَلٌ أمامه. مَن له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كَمَلَ. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص." (يو 3: 27-30) وما أشبه ردّ موسى النبي على تلميذه يشوع بردِّ يوحنا المعمدان على تلاميذه: "هل تغار لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم". هذا هو رجاء كل خدَّام الله الأمناء، فإنهم يسرُّون بنجاح أولادهم ونمو رعيتهم، ويودُّون لو أنهم ينالون مواهب أعظم منهم، فكلُّ همِّهم هو انتشار ملكوت الله وتمجيد اسم المسيح. إرسال السلوى لإشباع رغبة الشعب في أكل اللحم: ثم اتجه موسى نحو خيام الشعب مع الشيوخ الذين اختارهم، وهو في انتظار إتمام وعد الرب لهم بإرسال السلوى ليأكلوا منها إلى الشبع. + "ثم انحاز موسى إلى المحلة هو وشيوخ إسرائيل. فخرجتْ ريحٌ من قِبَل الرب، وساقت سلوى من البحر وألقتها على المحلة نحو مسيرة يومٍ من هنا ومسيرة يوم من هناك حوالي المحلة، ونحو ذراعين فوق وجه الأرض. فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد وجمعوا السلوى، الذي قلَّل جمع عشرة حوامر (الحومر مكيال يُقدَّر بحِمْل حمار)، وسطَّحوها لهم مساطح حوالي المحلة. وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم قبل أن ينقطع، حَمِيَ غضب الرب على الشعب، وضرب الربُّ الشعبَ ضربةً عظيمة جداً. فدُعِيَ اسم ذلك الموضع قبروت هَتَّأوَة، لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا." (عد 11: 30-34) يعتقد المفسِّرون أن السلوى كانت نوعاً من الطيور المهاجرة التي كثيراً ما يتعبها السَّفَر الطويل، فتطير على ارتفاع منخفض. ولكن هبوطها بهذه الوفرة العظيمة كان عملاً إعجازياً بتدبير من الله، الذي أرسل ريحاً ساقت السلوى من البحر وألقتها بين خيام بني إسرائيل. وكان اتساع الرقعة التي شغلتها مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك، أي ما يقرب من مساحة خمسة أميال مربعة. كما كانت كثافة السلوى بارتفاع ذراعين فوق الأرض، شيء عظيم ومهول جداً. هذه هي قدرة الله، وهذا هو سخاؤه الزائد في العطاء. ولكن يا ليتهم طلبوا ما ينفعهم لخلاص نفوسهم، "بل اشتهوا شهوة في البرية وجرَّبوا الله في القفر. فأعطاهم سؤلهم وأرسل هُزالاً في أنفسهم." (مز 106: 14و15) وأمام هذه الوفرة العظيمة لهذا الطعام الذي اشتهوه، انكبُّوا على جمعه بكل همة ونشاط وجلسوا يأكلون منه بشراهة ونهم. وفي شراهتهم تحدُّوا مقاصد الله معهم باستهانتهم بالمنِّ الذي أرسله إليهم. ولابد أنهم في انغماسهم بإشباع شهوتهم نسوا تقديم الشكر لله على عطاياه التي أغدقها عليهم. وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم، وقبل أن ينقطع من أفواههم، أي قبل أن ينتهوا من مضغه وابتلاعه، ضربهم الرب ضربة عظيمة جداً. فربما كان إفراطهم في أكل اللحم قد أدَّى بهم إلى السقوط أمواتاً ليحصدوا ثمرة شراهتهم. وهكذا وقع الكثيرون أمواتاً ودفنوهم في المكان الذي كانوا فيه، ودعوا ذلك المكان "قبروت هتَّأوة"، أي مقابر الشهوة. (يتبع) |