|
|
|
كلمات مُضيئة عن ميامر مار إسحق(1): + يقول الأب يوسف الصامت من الجبل المقدَّس - آثوس باليونان (1895-1959م):
[لو فُقِدَت جميع كتابات آباء البراري التي تُعلِّمنا عن التيقُّظ والصلاة، وبَقِيَت لدينا كتابات القديس إسحق السرياني وحدها، فهي تكفي لتعليم الإنسان عن حياة السكون (الهيزيخيا) والصلاة من البداية إلى النهاية. إنها الألف والياء عن حياة التيقُّظ والصلاة الداخلية، وهي وحدها كافية لأن تُرشد الإنسان وتقوده من خطواته الأولى حتى الكمال].
+ يقول الأب يرونيموس الكبادوكي الذي من إيجينا (1883-1966م):
[لا تنسَ مار إسحق. كل يوم صفحة واحدة من كتابه ليس أكثر. فهو المرآة التي ترى فيها نفسك. في هذه المرآة نرى إن كان فينا أي نقص أو أيَّة وصمة على وجوهنا أو عيوننا، لكي نُزيلها ونُنظِّف أنفسنا. في كلام مار إسحق ترى أفكارك أين تجول! وقدميك إلى أين تذهب! وعينيك إن كان فيهما نور وبصيرة! فيه تجد طُرُقًا كثيرة أكيدة وغير مُخطئة لكي تُعينك. فقط صفحة واحدة من مار إسحق في اليوم: في الصباح أو في المساء أو في أي وقت. تكفي صفحة واحدة].
+ وتقول بعض المدايح الكنسية عن القديس مار إسحق السرياني:
[يا مار إسحق حامل الإله الممسوح بنعمة المُعزِّي، يا مَن اخترتَ سُكنى البريَّة، وقد استحققتَ أن تكون مُرشدًا للرهبان ومُوجِّهًا للنسَّاك. لذلك فأنت تستحقُّ أن نُكرِّم ذِكْرك ونصرخ قائلين: المجد للمسيح الذي مجَّدك، المجد لِمَن قدَّسك، المجد لِمَن منحنا إيَّاك كمُدافع قدير].
[إننا نُهلِّل لك كحامل الإله، ومُعلِّم بار، وكمواطن للبريَّة، يا مار إسحق المُدافع عنَّا، أيها الكاشف المُوضِّح للأمور المقدَّسة. فباعتبار ما لك من جراءة ودالَّة عند الرب، توسَّل إليه من أجل جميع الذين يُكرِّمونك ويهتفون قائلين: افرح أيها الأب الحكيم في الأمور الإلهية].
[من عُمْق الحكمة والتقوى، قد أَفضتَ مياهًا تنبع إلى حياةٍ أبدية. إننا نتغذَّى من هذا الينبوع الموجود في كتاباتك المُبارَكة، يا مار إسحق ذو القلب الشامخ المرفوع إلى العُلا، فنذوق من نعمة المسيح إلهنا].
موجز للمُقدِّمة:
مثل نسيم الربيـع، ومثل ”الصوت المُنخفض الخفيف“ الذي تكلَّم به الله إلى إيليا النبي على جبل حوريب (1مل 19: 12)؛ هكذا أيضًا هي ”الميامر النسكية لمار إسحق السرياني“ للنفس العطشانة التي هي كالإيَّل الذي يلهث مُشتاقًا إلى المياه الحيَّة (انظر مز 42: 1). إنَّ إلهنا الصالح: الآب أبو الأنوار، وربنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح، والروح القدس الرب مُعطي الحياة وروح الحق؛ قد أعطانا على يدَي القديس أبَّا إسحق، الإناء المختار، هذه الميامر وكأنها زمن الربيع لنفوسنا التي أحب الله لها أن تُزهر في هذا الربيع الروحاني بما يكنزه في داخلها من تعاليم لكي نتمتَّع بجمالها.
لقـد ظلَّت هـذه الميامر مُرشـدةً للرهبان والراهبات لعدَّة قرون حتى الآن، وإنْ كانت قد كُتِبَت أولاً للمُتوحِّدين. والهـدف منها، كما قال كاتبها نفسه، هو: ”لكي يتعلَّم الإنسان ما هي حياة السكون وعملها، وأيَّة أسرار قـد أُخفِيَت في هذه الحياة...“ (انظر ميمر 65 إنجليزي).
ولذلك فقد يسأل البعض: لماذا هذا التعب في إعداد ونَشْر هذا الكتاب طالما أنه لا يوجد إلاَّ القليل جدًّا، بل النادر من المُتوحدين في البراري الذين يعيشون في السكون في العالم اليوم؟ والإجابة يمكننا أن نجدها في كتاب: ”سُلَّم الفضائل“ للقديس يوحنا كليماكوس (الدَّرجي)، حيث يقول: ”الملائكة هم نورٌ للرهبان، والحياة الرهبانية هي نـورٌ لكـلِّ البشر“ (الدرجة 26: 31).
وعلى ذلك، فكلٌّ من رهبان المجامع (الأديرة) والعلمانيين يمكنهم التقاط تعاليم نافعة لخلاصهم من الذين يعيشون حياة السكون الملائكية! كما أنه واضحٌ من الأسفار المقدَّسة نفسها والكتابات المُلهَمَة من الله، أنها تصف لنا حالات بطولية روحانية، لا لكي تُسقطنا في اليأس، بل لكي تُثير فينا اشتياقًا مُقدَّسًا إلى ما هو مكتوب، وتستحثُّنا لنتقدَّم ”من قوَّةٍ إلى قوَّة“ و”من مجدٍ إلى مجد“. كما أنها وسيلة مُقدَّمة إلينا، بها نقيس أنفسنا ونرى ما يُعوزنا في طريقنا الروحي، وبذلك تحمينا من أن نصير مُكتفين بجهاداتنا الضعيفة الهزيلة. وهكذا فإنَّ الأسفار المقدَّسة وكتابات الآباء، تجعلنا مُتضعين وتكشف لنا مقدار نقصنا وعوزنا في العالم الروحاني. فهي رصينة ومُعتدلة.
والأب إسحق يكتب من واقع خبرته، وهذا هو سبب القوَّة في كلامه. لا يوجد شيء نظري في تعاليمه، كما في كتابات الفلاسفة والمُجادلين. إنه يكتب عن حياة السكون التي عاشها هو نفسه ومِمَّا سمعه من آخرين عاشوها أيضًا، فهو يُسجِّل مُلاحظاته ونتائج خبراته. إنه يُقرِّر أنه خارج البريَّة وحياة السكون (هيزيخيا hesychia)، لا يوجد إلاَّ قليل من الرجاء في التحرُّر من أوجاع النفس ومُعاينة وجه الله. وفي ذلك يُوضِّح القديس: كم هو مُضرٌّ لمَن يعيش في السكون أن يخرج منه تحت أي ظرف إلاَّ للضرورة المُلحَّة. إنَّ القديس يوحنا الدَّرجي يُدعِّم ويُشجِّع الذين يعيشون في حياة الشركة في الأديرة ويُرتِّلون تسابيح المجمع. أمَّا مار إسحق فهو يمدح البريَّة، لأنه من سُكَّان البراري، ولا يوجد تعارُض بين الحياتين؛ بل إنَّ الحياة الرهبانية لها درجات تمامًا كما في الفضائل.
في العصر الذهبي للرهبنة الفلسطينية في القرن السادس، عيَّن بطريركُ أورشليم القديسَ مار يوحنا سـابـا (الشيخ الروحـاني) رئيسًا للمُتوحِّـديـن ”أرشمندريت“ الساكنين في البراري، وعيَّن القديسَ ثيئودوسيوس رئيسًا لرهبان الأديرة، لذلك كان لقبه: رئيس المجامع Coenobiarch. وإن كـان القديس يوحنا الدَّرجي قـد ترك لنا كتابه المُلهَم لرهبان الأديرة، فإنَّ القديس مار إسحق ترك لنا كتابه المُلهَم لسُكَّان البراري! ليس من شكٍّ في أن التوحُّد أسمى من حياة الشركة، وهو مُكرَّمٌ جدًا في الكنيسة. وحتى القديس يوحنا الدَّرجي يؤمِّن على ذلك في ميمره (رقم 27) وعنوانه: ”عن السكون المُقدَّس للجسد والنفس“، لأنه هو نفسه عاش حياة السكون لمدَّة أكثر من الأربعين سنة السابقة على صيرورته أبًا لبريَّة سيناء.
لقـد كان مار إسحق مُحارِبًا جريئًا وجسورًا للربِّ، أحبَّ الله من كل قدرته وكل كيانه، وكان يطلب مـن سامعيه نفس الصفات. لقـد فَهِمَ جيدًا كـلام المُخلِّص: «مَرْثَـا مَرْثَـا، أَنْتِ تَهْتَمِّـينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِـدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لو 10: 42،41). وفي الحقيقة هذا هـو مفهوم الإنجيل: فالرب يسوع لم يُشارِك في الأمور السياسية والاجتماعية في عصره، بل كان جُلُّ تعليمه عن ”الواحد“ الذي نحتاج إليه، وأن نتوب ونطلب أولًا ملكوت الله وبرَّه. لقد أشفق الرب على الإنسان وشفى أمراض نفسه وجسده؛ ولكنه كان يعتزل حتى عن تلاميذه ويقضي الليل كله في الصلاة، وأحيانًا في النهار أيضًا، مُعطيًا إيَّانا مثالاً (انظر مـت 14: 23؛ مـر 1: 35). وكان يُعلِّم أنَّ مملكته (أو ملكوته) ليست من هذا العالم (يـو 18: 36)، وأننا ليس لنا هنا مدينـة باقية لكننا نطلب العتيدة (عـب 13: 14)، وأننا مواطنون سمائيون (في 3: 20).
لقد رفض المسيح أن يكون قاضيًا لأمور هذا العالم (لو 12: 14،13)؛ أمَّا اليوم فـإنَّ الكهنة والرهبان يجعلون مـن أنفسهم قضاةً في الأمور المادية والسياسية والاجتماعية!! ونجد نفس هـذه الروح وهـذا المفهوم في حياة الرسل، إذ لمَّا وجـدوا أنفسهم مُقصِّريـن في خدمة المُحتاجين، عيَّنوا سبعة شمامسة «مَمْلُوِّينَ مِـنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ» لهـذا العمل، وتفرَّغـوا هـم ”للصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ الْكَلِمَةِ“ (أع 6: 2-4)! إذن، فهـذا هو دائمًا فكر الكنيسة: كل عضو فيها عليه أن يسلك حسب دعوته وتعهُّداته التي اتَّخذها على نفسه كوكيل أمين. فالإكليروس في خدمتهم الروحية، والرهبان والراهبات في حياة الصلاة والطاعة كما نذروا في بداية دعوتهم، والعلمانيون في حِفْظ وصايا الله حسبما تعهَّدوا في معموديتهم! وبهذا المفهوم يدعـو مار إسحق جميع سُكَّان الأديـرة والبراري، بصفةٍ خاصة، أن يسهروا ضد الأفكار التي قد تجعلهم ينحرفون عن هدفهم الأصلي يوم أن تركوا العالم. فهـو يقول مثلاً عـن الصدقة بالنسبة للراهب (في ميمر 21):
[عُيِّر أحـد الرهبان على عـدم إعطائه صدقة، فـأجاب بجرأة: ”الرهبان ليس عليهم أن يعطوا صدقة، لأن الراهب يمكنه أن يقول للمسيح يوم الدينونة بكـلِّ ثقة: «هَـا نَحْنُ قَـدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». إنَّ الراهب لا يملك أكثر مـن احتياجاته الضرورية الحاضرة تمامًا مثل الطير الذي ليس له مخازن للغـد. فـالراهب له عملٌ أسمى من الصدقة... كما أنه كيف يُعطي لآخر شيئًا قد تحرَّر هو من ملكيته إلى الأبد؟!“].
كما أنَّ مار إسحق يُوضِّح (في الميمر الرابع) أن ليس كل إنسان يُمكنه أن يعيش في سكون البريَّة، ولكنـه يُوصي الإنسان الذي لا يستطيع ذلك ألاَّ يحتقر هـذا الطريق، لئلا يحرم نفسه من نصيبه في أيِّ طريقٍ مـن طُرُق الحياة الروحية! إن كُنَّا نحـن جادِّين في حياتنا فسنتعرَّف على الحقِّ الذي في كلام هـذا القديس، وسنكتشف كم أننا ابتعدنا عـن مفاهيمه الروحانية في عصرنـا هـذا وجنح الكثيرون مِنَّـا - حتى الرهبـان والراهبات - إلى الخدمات الاجتماعية والعلمية؛ بـل إنـك تجـد حتى التليفزيـون في الأديـرة الغربية...!!
تقابََـل مـرَّةً الأب الروحـاني لديـر التجلِّي الأرثوذكسي في أمريكا (هـذا الدير الذي ترجم هذه الميامر إلى الإنجليزية) مع راهبٍ يونـاني من جبل آثوس في لندن، وعَلِمَ منه أنه جاء من جبل آثوس المُقدَّس في اليونان لكي يدرس في الجامعة عن أحد آباء الكنيسة. فتعجَّب الأب وسأله: ”أَلم تقـرأ ميامر مـار إسحق السرياني“؟ فـأجاب بالنفي. فلخَّص له بعض ما كتبه مار إسحق عن درجات المعرفة، ثم قـال له: ”أيها الأب العزيز، في الجامعة اللاهوتية ستتعلَّم عن الله؛ أمَّا إذا مكثتَ في جبلك المقدَّس في قلايتك وصلَّيتَ بلا انقطاع فستصل إلى معرفة الله نفسه الكلِّي الحكمة، والذي عرفه آباء الكنيسة الذين جئتَ لتدرس واحدًا منهم“!
رُوِيَ عـن أحـد الأساقفة أنـه كان يقضي ساعاتٍ طويلة ساهرًا في الكنيسة. وكـان يُسمِّيه البعض: ”القديس السهران“. فسألوه: لماذا كـان يسهر كثيرًا في الكنيسة؟ فأجابهم بكلِّ بساطة: ”كم ساعة تقضونها أنتم في أشغالكـم اليومية؟ إذن، فمكاني هو دائمًا في الكنيسة أمام مذبح الله“!
إننا نستمدُّ مـن قلب وفكر طاهرَيْن ومُستنيرَيْن بالروح القدس لإنسانٍ قدِّيس مثل مار إسحق، هـذا الذي اجتاز فعلاً القيامة مع المسيح إلى خليقة جديدة؛ نستمدُّ الأولويات والقِيَم الروحية مُوضَّحة ومُبسَّطة لنا بدون خطأ. كم هي قيِّمة وثمينة ميامر مار إسحق ولا يمكـن الاستغناء عنها، لأنهـا تُعلِّمنا الكثير وتُشجِّعنا في وسط ظلمة هذا العصر!
الذيـن كتبوا هـذه المُقدِّمة مـن رهبان دير التجلِّي في أمريكا، يفتخرون بأنَّ هناك آباء وقادة روحيين يونـانيين مُعاصرين رقدوا منذ سنواتٍ قليلة، كانوا يحملون معهم - أينما ذهبوا – نُسخةً مـن كتاب مـار إسحق. (ولا يزال بعض الآباء الروحيين والقادة المُلهَمين في مصر أيضًا يفعلون ذلك)(2). كل هـذا من واقع تقديرهم لأهمية هذا الكتاب باعتباره أساسًا للحياة الرهبانية التي يصير فيها الراهب مُتحرِّرًا من كلِّ أوجاع النفس، فلا يُعطِّله شيء عـن الانطلاق بحرارة الروح في عشرة الله.
(يتبع)
(1) اهتم دير التجلِّي اليوناني الأرثوذكسي في بوسطون بالولايات المتحدة الأمريكية بنشر ”الميامر النسكية للقديس مار إسحق السرياني“ باللغة الإنجليزية تحت عنوان:
The Ascetical Homilies of St. Isaac the Syrian.
وقـد تَمَّت الترجمة بعد الرجوع إلى اللغات اليونـانية والسريانية والروسية، وذلك في عام 1984م. ونحـن ننشر في هذا المقال ترجمة مُقدِّمة هذا الكتاب.
(2) هذه الجملة الأخيرة أضافها المُترجم إلى العربية.