|
|
|
يرتبط سفر إشعياء بالعهد الجديد ارتباطاً شديداً: فالمسيح لما دخل مجمع الناصرة حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، دُفِعَ إليه سفر إشعياء النبي [«وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ". ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لو 4: 17-21)]. هذا المقطع جاء في آخر سفر إشعياء (إش 61: 1و2)، وهكذا تنبأ إشعياء عن معمودية الرب قبل عماده بسبعمائة سنة، حيث يذكر: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي».
وفي موضع آخر من إنجيل ق. يوحنا (يو 12: 37-41) يقول: «وَمَعَ أَنَّه كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هذَا عَدَدُهَا، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الَّذِي قَالَهُ: "يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟". لِهذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: "قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ". قَالَ إِشَعْيَاءُ هذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ». وهذه يُقابلها النص الذي جاء في إشعياء (إش 53: 1؛ 6: 9و10).
كما جاء ذكر مقطع آخر في رسالة ق. بولس الرسول إلى أهل رومية (رو 9: 27-29): «وَإِشَعْيَاءُ يَصْرُخُ مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ: "وَإِنْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ الْبَحْرِ، فَالْبَقِيَّةُ سَتَخْلُصُ. لأَنَّهُ مُتَمِّمُ أَمَرٍ وَقَاضٍ بَالْبِرِّ. لأَنَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ أَمْراً مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الأَرْضِ". وَكَمَا سَبَقَ إِشَعْيَاءُ فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ"». وهذا يقابله النص في إشعياء (إش 10: 22 و23؛ 1: 9).
وأيضاً يقول في رسالة رومية: «ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ: وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِراً لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي» (رو 10: 20). ويوردها إشعياء هكذا: «أَصْغَيْتُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: هَأَنَذَا، هَأَنَذَا. لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِاسْمِي» (إش 1:65).
كذلك جاء في سفر أعمال الرسل هذا الخبر: «ثُمَّ إِنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ كَلَّمَ فِيلُبُّسَ قَائِلاً: "قُمْ وَاذْهَبْ نَحْوَ الْجَنُوبِ، عَلَى الطَّرِيقِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى غَزَّةَ الَّتِي هِيَ بَرِّيَّةٌ". فَقَامَ وَذَهَبَ. وَإِذَا رَجُلٌ حَبَشِيٌّ خَصِيٌّ، وَزِيرٌ لِكَنْدَاكَةَ مَلِكَةِ الْحَبَشَةِ، كَانَ عَلَى جَمِيعِ خَزَائِنِهَا. فَهذَا كَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ. وَكَانَ رَاجِعاً وَجَالِساً عَلَى مَرْكَبَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ النَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ. فَقَالَ الرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ: "تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هذِهِ الْمَرْكَبَةَ". فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيْلُبُّسُ، وَسَمِعَهُ يَقْرَأُ النَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ، فَقَالَ: "أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟" فَقَالَ: "كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟". وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ. وَأَمَّا فَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ فَكَانَ هذَا: "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. فِي تَوَاضُعِهِ انْتُزِعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ؟ لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ الأَرْضِ". فَأَجَابَ الْخَصِيُّ فِيلُبُّسَ وَقَالَ: "أَطْلُبُ إِلَيْكَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ النَّبِيُّ هذَا؟ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟" فَفَتَحَ فِيلُبُّسُ فَاهُ وَابْتَدَأَ مِنْ هذَا الْكِتَابِ فَبَشَّرَهُ بِيَسُوعَ» (أع 8: 26 - 35).
تفسير القديس جيروم لسفر إشعياء:
يكتب ق. جيروم في مقدِّمة تفسيره لسفر إشعياء:
[إن إشعياء ليس مجرد نبي، بل هو إنجيلي ورسول، لأنه هو نفسه يقول عن نفسه وعن باقي الإنجيليين: «ما أجمل أقدام المبشرين، المبشرين بالخيرات، المبشرين بالسلام » (إش 52: 7؛ رو 10: 15). وقد تكلَّم الله معه كما لو كان يكلِّم رسولاً: «مَنْ أُرْسِلُ؟ ومَنْ يذهبُ لهذا الشعب؟ فأجابَ: هَأنَذَا أَرْسِلْنِي» (إش 6: 8) وهذا السفر من ضمن أسفار الكتاب المقدَّس يحوي كل أسرار الرب، فهو يعلن صراحة أنه عمانوئيل المولود من العذراء، الصانع العجائب والمعجزات، الذي مات ودُفن، وقام، وصعد من الجحيم، وإنه مخلِّص كل المسكونة](1).
الترجمة السبعينية لسفر إشعياء:
الترجمة السبعينية لأسفار العهد القديم هي أقدم ترجمة إلى اللغة اليونانية. وقد تمت هذه الترجمة في الإسكندرية في عهد بطليموس فيلادلفوس (285 – 247 ق.م.) بواسطة 72 شيخاً. وما تم ترجمته في ذلك الوقت كان خمسة أسفار موسى فقط، ثم تتابعت ترجمة باقي الأسفار في سنوات لاحقة، بواسطة مجموعة كبيرة من المترجمين، والتي ربما تكون قد اكتملت في الربع الأول من القرن الأول ق.م.، وتم ترجمة معظم أسفار العهد القديم في نهاية القرن الثاني ق.م. ويعتقد بعض علماء السبعينية أنه تم ترجمة سفر إشعياء أيضاً في الإسكندرية (حوالي عام 150 ق.م.)، لأن هناك تأثراً واضحاً بالثقافة المصرية، وأن الترجمة تمت بواسطة مترجم واحد لتناسق الترجمة على مدى السفر كله(2).
جدول تصوري لمحتويات السفر:
التكوين الأدبي والروحي للسفر:
يتكون سفر إشعياء من ثلاثة أقسام رئيسية:
1.نبوات الإدانة (ص 1 - 35)،
2.جُمَل تاريخية اعتراضية (ص 36 - 39)،
3.نبوات تعزية وسلوى (ص 40 - 66).
يتم تقديم رسالة إشعياء على خلفية أعظم فترة ازدهار لإسرائيل بعد العصر الذهبي تحت حكم داود وسليمان. صَاحَبَ الرخاء والنجاح الزراعي والتجاري والنجاح العسكري فساداً أخلاقيًّا، والإفراط في شرب المسكر، وعبادة الأصنام، واضطهاد الفقراء، والجشع، ووجود الأنبياء الكذبة الذين شجَّعوا شهوات الشعب.
وأكَّد إشعياء ردًّا على هذا الموقف:
(1) الخلاص بالإيمان: «إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَلاَ تَأْمَنُوا» (إش 7: 9)؛ «هَأَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَراً، حَجَرَ امْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيماً أَسَاساً مُؤَسَّساً مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ» (إش 28: 16)؛ «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ"» (إش 30: 15).
(2) قداسة الله والحاجة إلى الحياة الفاضلة: «فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ، رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبِاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ". فَاهتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ". فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: "إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ. وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ"» (إش 6: 1 - 7)؛ «ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ قَائِلاً: "مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟" فَقُلْتُ: "هَأَنَذَا أَرْسِلْنِي". فَقَالَ: "اذْهَبْ وَقُلْ لِهذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا، وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذْنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ، لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذْنَيْهِ وَيَفْهَمَ بِقَلْبِهِ، وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى"» (إش 6: 8 - 10).
(3) إثم الإنسان واليقين بالدينونة الإلهية: الأصحاحات من 1 - 35
(4) ضمان الفداء للبقية التَّائبين: «لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا بَقِيَّةً صَغِيرَةً، لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ» (إش 1: 9)؛ «وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: ... فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا. فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ، وَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ الرَّبَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً، وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ ... بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: "مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ، وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ، وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ".» (إش 19: 19 و21 و22 و25)
وإن الموضوع الأساسي لهذا السفر هو في اسم إشعياء، الذي يعني: ”الخلاص هو بالرب“. فإن كلمة ”الخلاص“ جاءت في سفر إشعياء 26 مرَّة، بينما لم تأتِ في جميع أسفار الأنبياء الباقية معاً سوى سبع مرَّات.
(يتبع)
(1) St. Jerome, Commentary on Isaiah., Ancient Christian Writers, Vol. 68.
(2) Ziegler, Untersuchungon zur Septiaginto des Buches Isaias.
نقلاً من كتاب سفر إشعياء، الترجمة السبعينية: إعداد المتنيح أنبا إبيفانيوس، أسفف دير أنبا مقار وادي النطرون.