|
|
|
الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس
دير الزجاج
الدير وصناعة الزجاج Glasswork:
يعتبر الزجاج مادة عديمة اللون يتم تصنيعها من السيليكا المصهور في درجات حرارة عالية مع حمض البوريك أو الفوسفات. ويوجد الزجاج في الطبيعة في المواد البركانية وبالأخص الزجاج البركاني أو المواد التي تنشأ من النيازك. والزجاج ليس صلباً أو سائلاً، وإنما يكون في حالة خاصة تظهر فيها جزيئاته بشكل عشوائي بحيث يوجد تماسك كافٍ لإحداث اتحاد كيميائي بينها. وعند تبريد الزجاج، يصل إلى الحالة الصلبة ولكنه يكون غير شفاف أو نصف شفاف. ويختلف لون الزجاج تبعاً لمكوناته. ويكون الزجاج المصهور كاللدائن يمكن صهره باستخدام عدة تقنيات. وعندما يكون الزجاج بارداً، يمكن تقطيعه بسهولة. وعندما تنخفض درجات الحرارة، يصبح الزجاج هشًّا وينكسر بسرعة.
وتعتبر السيليكا من أهم مكونات الزجاج، وهى مشتقة من الرمل والصوان والكوارتز. وتصهر في درجات حرارة عالية جدًّا لإنتاج زجاج السيليكا المصهور والذي يصبح مناسباً لإنتاج الأدوات الخاصة بالمعامل ومرايا التليسكوب والمجاهر والعدسات. ويعتبر الزجاج موصِّلاً جيداً للحرارة. وهو مفيد أيضاً للعوازل الكهربية والحرارية. ويستخدم صناع الزجاج بعض العناصر والمركبات الكيميائية الضرورية في مراحل صناعته المختلفة مثل الجير الذي يستخدم كمحلول مائي، وأكسيد الرصاص الذي يكسب الزجاج لمعانًا وبريقًا خاصًا، وأكسيد البوريك الذي يخفض من درجة لزوجة السيليكا دون أن يزيد من تمددها الحراري ثم أكسيد الألومنيوم والجير لتصنيع الزجاج الليفي.
ويتميز الزجاج بعدة خواص هامة كالشفافية الصافية المتجانسة حيث تمر من خلاله الأشعة الضوئية من فوق البنفسجية إلى تحت الحمراء. ويتميز الزجاج أيضاً بالقساوة لقدرته على مقاومة الخدش والاحتكاك. كما يعرف الزجاج بمقاومته للمواد الكيميائية عدا حمض الفلوردريك والمصهرات القلوية.
تاريخ صناعة الزجاج:
ترجع بدايات صناعة الزجاج إلى سنة 2000 ق. م.، وقد تم التوصل إلى إنتاج الآنية المجوفة عام 1500 ق.م. ويُعتقد أن الآسيويين هم أول من أرسى أساسيات صناعة الزجاج. كما يعتقد أنه تم التوصل إلى عملية نفخ الزجاج أولاً في سواحل فينيقيا.
وترجع أول آنية زجاجية عُثر عليها في مصر إلى عصر الملك تحتمس الثالث (1504 – 1450 ق. م.) أشهر فراعنة مصر في عصر الدولة الحديثة والمعروف على مستوى العالم بنابليون مصر القديمة لبراعته الحربية وخططه الحربية التي تدرس حاليًا في أغلب الكليات العسكرية العالمية. وظلت صناعة الزجاج منتعشة في مصر حتى سنة 1200 ق. م. تقريباً، ثم توقفت لعدة قرون إلى أن عاودت الانتشار مرة أخرى في المناطق الواقعة حول البحر الأبيض المتوسط.
صُنَّاع الزجاج الأقباط:
وبعد دخول المسيحية مصر، ارتبط دير الزجاج بصناعة الزجاج. وألحقت ورش إنتاج التحف الزجاجية بكثير من الأديرة القبطية الأخرى. وبرع صُنَّاع الزجاج الأقباط في إنتاج زجاج الإنشاءات لإعداد النوافذ في الكنائس وتجلت مهاراتهم أيضاً في صناعة المنتجات الزجاجية المرتبطة بالطقس الكنسي وبالأخص الأواني والكؤوس والقماقم (الشكل رقم 4) بالإضافة إلى بعض أدوات الإضاءة كالشمعدانات والسُّرُج. وقد أشار بتري إلى استمرار صناعة الزجاج في مصر وتطورها وازدهارها بشكل ملحوظ في البلاد لاسيما في أديرة وادي النطرون لإنتاج المصابيح التي كانت تُستعمل داخل المباني المختلفة لكل دير. وفى القرن الثامن الميلادي، استعملت الكنائس القبطية الأواني الزجاجية كبديل للأواني المصنوعة من الذهب والفضة.
ويعتبر الكوارتز وكربونات الكالسيوم والصودا والنطرون من أهم المواد الخام المستعملة في هذه الصناعة الهامة. وتعددت أنواع الزجاج واستعمالاته وأساليبه الصناعية. وتنافس الصناع الأقباط في تطوير هذه الصناعة التي تنوعت ما بين الزجاج المنقوش engraved والمعتم opaque أو الضبابي غير الشفاف وما بين الزجاج المصهور في الأفران والمشكل بالنفخ molten glass blown through tube أو الـ Millefiori أي أسلوب الألف زهرة إشارة إلى الألوان المتنوعة. وتعددت مراحل تصنيع الزجاج ما بين السَّحْب والكبس وما بين الصب في قوالب من الخشب أو الطين والتهذيب أو التبريد لتجنب تشققه.
شكل رقم 4. نماذج من بعض القماقم الزجاجية الصغيرة المحفوظة حالياً بالمتحف القبطي بالقاهرة
وعلى مر العصور التاريخية التي عاشتها الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، تنوعت الأساليب الزخرفية للمنتجات الزجاجية القبطية عن طريق الدهان بألوان باردة أو ساخنة، وبالضغط بواسطة آلة كالملقاط، وبالإضافة إلى اللصق عندما تكون الآنية لينة، وبالحفر بواسطة عَجَلَة، وكذلك بالحز بواسطة آلة مدببة.
اكتشافات أثرية في دير الزجاج:
ويبدو أن منطقة الإناطون قد تعرضت بكل ما فيها من مباني دينية لهجوم الفرس في عام 619م ولكن سرعان ما ازدهرت حياة الرهبنة القبطية مرة أخرى في أواخر القرن السابع الميلادي وكذلك في القرن الثامن الميلادي.
وقد تعرض دير الزجاج أيضاً لهجمات البدو في أيام البطريرك شنودة الثاني Shenute II البابا رقم 65 (1032-1046م) وكذلك في أيام البطريرك خريستوذولس Christodoulus البابا رقم 66 (1047-1077م) في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي حيث انخفض تعداد قاطني الدير إلى أربعين راهباً فقط قياساً بما كان عليه الحال في نهاية العصر الروماني المتأخر. كما يعتقد أنه اعتباراً من نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، لم يتبق بمنطقة الإناطون Enaton غير دير واحد فقط. والمرجح أن أغلب مباني ومنشآت دير الزجاج قد تخربت في سنة 1321م.
وفى بدايات القرن العشرين، اكتشف بعض علماء الآثار شواهد قبور حجرية وبقايا كنيسة أثرية في منطقة الإناطون. وترتب على هذه الاكتشافات دقة تحديد موقع دير الزجاج بالقرب من منطقة الدخيلة الحالية في الإسكندرية ما بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض المتوسط.
وفى عشرينات القرن الماضي، اعتقد E. Schwartz أن دير الزجاج كان في غرب الدخيلة في منطقة كوم الزجاج Kom al-Zujaj. وبصفة عامة، ازدهرت حياة الديرية في منطقة الدخيلة وأيضاً في مجمع الحج الديني في كينج مريوط the Mareotis area في القرنين الخامس والسادس الميلادي.
وتم اكتشاف دير الزجاج في سنة 1939م حيث عثر على الحصن والمعمودية والكنيسة الأثرية وفى الغرب والجنوب منها، تم العثور كذلك على قلالي الرهبان القديمة بالإضافة إلى كنيسة أخرى صغيرة بالقرب من مدخل الدير الشرقي.
وفى يوم 5 من شهر فبراير سنة 1973، زار البابا شنودة الثالث Shenute III أطلال دير الزجاج وما تبقى من الموقع الأثري الإناطون. وتكررت زيارة البابا مرة أخرى إلى هذه الضاحية المندثرة وكان بصحبته أ. د./ جاب الله على جاب الله الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار حينذاك وفريق من أعضاء البعثة الأثرية لبدأ أعمال الترميم لما تبقى من أطلال الدير تحت إشراف الأثريين المتخصصين. وفى يوم الجمعة 10 من شهر طوبة 1718 ش./ 18 من شهر يناير سنة 2002م، صدرت مقالة خاصة لتخليد ذكرى هذه الزيارة بعنوان "البابا يزور دير الزجاج" في العددين الثالث والرابع من مجلة الكرازة.
الخاتمة:
مما سبق، يعتبر مجمع أديرة الإناطون وبالأخص دير الزجاج من أهم الأماكن المقدسة التي احتوت بين أطلالها على قصص وحكايات لرهبان حافظوا على تعاليم العقيدة المسيحية وحرصوا كل الحرص على نقل تعاليمها وفضائلها للأجيال التالية لهم. كما يعد هذا المجمع الديني خير مثال على ما تم تشييده من أديرة وكنائس وقلايات في غرب مصر على غرار ما تم بناؤه في مختلف مدنها وربوعها وصحاريها التي فر إليها النساك الأوائل رغبة منهم في العيش في الهدوء الروحاني وفى الخلوات المقدسة على تراب مصر وفى كهوفها ومغاراتها الصخرية. كما ازدهرت كثير من الأنشطة والمهن والحرف بالورش التي ألحقت بهذا الدير المندثر لاسيما صناعة الزجاج وما تضمنته من أساليب زخرفية متنوعة لإمداد الأديرة والكنائس القبطية المختلفة باحتياجاتها من أدوات الطقس الكنسي. وقد اندثرت منطقة الإناطون الدينية والتاريخية والأثرية لأسباب مختلفة واندثر معها جزء كبير من الموروث القبطي، إلى أن أعيد اكتشافها في النصف الأول من القرن العشرين. لذا نأمل أن يزداد الاهتمام بها وبغيرها من الأماكن التراثية الأخرى الهامة لما تعكسه من أدق تفاصيل الحضارة والرهبنة القبطية على مر التاريخ ولتنشيط أشكال جديدة من السياحة الثقافية والدينية في السواحل الشمالية الغربية لمصر.