|
|
|
(تابع) نشيد موسى
الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يُشفق: (32: 34-43)
يتحوَّل النشيد عند هذه الفقرة إلى الدينونة الوشيكة أن تحلَّ على أعداء إسرائيل الذين استخدمهم الرب لتأديب شعبه:
+ «أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني؟ لي النقمة والجزاء. في وقت تَزِلُّ أقدامهم. إنَّ يوم هلاكهم قريبٌ، والمُهيَّآت لهم مُسرعةٌ. لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يُشفق. حين يرى أنَّ اليد قد مضت ولم يبقَ محجوزٌ ولا مُطلَقٌ. يقول أين آلهتهم الصخرة التي التجأوا إليها، التي كانت تأكل شحم ذبائحهم، وتشرب خمر سكائبهم؟ لتَقُم وتُساعدكم، وتَكُن عليكم حماية. انظروا الآن: أنا أنا هو وليس إلهٌ معي. أنا أُميت وأُحْيي. سحقتُ وإني أَشفي، وليس من يدي مُخلِّصٌ. إني أرفع إلى السماء يدي وأقول: حيٌّ أنا إلى الأبد. إذا سَنَنْتُ سيفي البارق وأَمسَكَتْ بالقضاء يدي أَرُدُّ نقمةً على أضدادي وأُجازي مُبغضيَّ. أُسْكِرُ سهامي بدمٍ، ويأكل سيفي لحماً. بدمِ القتلَى والسبايا، ومِن رؤوس قُوَّاد العدو. تهلَّلوا أيها الأُمم شعبُه، لأنه ينتقم بـدمِ عبيده، ويـردُّ نقمةً على أضداده، ويصفح عن أرضه عن شعبه» (32: 34-43).
في ختام الفقرة السابقة شبَّه النشيد أعمال بني إسرائيل الشريرة بأعمال سدوم وعمورة، وبالجفنة - أي الكرمة التي لم تُفلَّح ولم تُقلَّم - والتي بدلاً من أن تُثمر عنباً أَثمرت ”عنب سم، ولهم عناقيد مرارة“. وقد أهلك الرب أهل سدوم وعمورة وأمطر عليهم ناراً وكبريتاً وأحرقهم (تك 19: 25،24) بسبب شرِّهم الذي استفحل جداً. ولولا مراحم الرب العظيمة وغيرته على مجده من أجل إبراهيم عبده وإسحق حبيبه وإسرائيل قديسه، لأَنزل النار أيضاً على شعبه، ولكن لعلمه بأن هناك رجاء في توبتهم، لذلك أطال أناته عليهم. فقد قال عنهم إشعياء النبي: «لولا أنَّ رب الجنود أبْقى لنا بقية، لصرنا مثل سدوم، وشابهنا عمورة» (إش 1: 9).
فليس هناك شيء مخفيّاً عن عينَي الله، وإن كان يبدو كأنه غافل عمَّا نفعل؛ ولكن كل شيء مذَّخر عنده ومختوم عليه في خزائنه، إلى أن يأتي زمان النقمة والجزاء. كما يقول الرسول: «لي الانتقام، أنا أُجازي، يقول الرب. وأيضاً الرب يدين شعبه. مخيفٌ هو الوقوع في يدي الله الحي» (عب 10: 31،30).
وللقديس أمبروسيوس تعليق على قول الرب: «لي النقمة والجزاء»، بينما هو يوصينا في الإنجيل أن نصلِّي لأجل الذين يُسيئون إلينا، وكما يقول بولس الرسول أيضاً: «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب»، وأيضاً قوله: «لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بشرٍّ» (رو 12: 19،17)، فهو يُفسِّر ذلك بقوله:
[إن كان الله قد قال في العهد القديم: «لي النقمة أنا أُجازي» (تث 32: 35 حسب النص)، فهو يقول في الإنجيل إنه ينبغي علينا أن نصلِّي لأجل الذين يُسيئون إلينا، من أجل أن ذاك الذي وعد بالنقمة (مِمَّن أساءوا إلينا) قد لا يسعى للنقمة ضدهم. لأن الرب يريد أن يغفر بناءً على طلبكم، كما يليق بكم حسب وصيته. أما إذا طلبتم النقمة، فسوف تنالونها، طالما أن الإنسان الظالم يُعاقَب بحسب أفكاره أكثر مِمَّا بالقضاء الحازم](1).
أما بالنسبة لقول الرب هنا في هذا النشيد: «لي النقمة والجزاء. في وقت تَزِلُّ أقدامهم. إنَّ يوم هلاكهم قريبٌ، والمُهيَّآت لهم مُسرعةٌ»: فهي تُشير إلى زمان إدانة الرب للشعوب كلها، ولا سيما الشعوب التي آذت شعبه. ولكنها بنوع خاص تُشير إلى إدانة شعب إسرائيل، في الوقت المُعيَّن الذي فيه تَزِلُّ أقدامهم ولا يكون ثمة رجاء في قيامهم، ويصير يوم هلاكهم وشيكاً، ومصيرهم المحتوم يُسرع إليهم: «الذين دينونتهم منذ القديم لا تتوانى، وهلاكهم لا ينعس» (2بط 2: 3). فلا يظن الأشرار أن الرب في تمهُّله عليهم قد عَدَل عن تأديبهم، لأن كل أعمالهم مختومٌ عليها في سِجِلاَّته. لذلك يقول بولس الرسول: «أم تستهين بغنى لُطفه وإمهاله وطول أناته؟ غير عالم أن لُطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تَذْخَرُ لنفسك غضباً في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيُجازي كل واحد حسب أعماله» (رو 2: 4-6).
ولكن، إن كان الله بعدلٍ ”يدين شعبه“ إن تمادَى في عناده وقساوة قلبه، إلاَّ أنه برحمته ”على عبيده يُشفق“. والرب يُظهر شفقته عندما يرى «أنَّ اليد قد مضت ولم يبقَ محجوزٌ ولا مُطلَقٌ»، أو كما جاءت في ترجمة أخرى: «عندما يرى أن القدرة قد ذهبت، ولم يبقَ ملجأ ولا أهل»، أو كما جاءت في ترجمة أخرى أيضاً: «عندما يرى أن قوتهم قد اضمحلت، ولم يبقَ عبدٌ ولا حُرٌّ». وتفسير ذلك أن الله مستعدٌّ أن يُشفق على عبيده حينما تضمحل قوتهم، ولا يبقى لهم رجاء ولا ملجأ في قريب أو غريب. حيث إن سبب ابتعاد الرب عن نجدة عبيده هو غطرستهم وكبرياؤهم وثقتهم في ذواتهم وقدراتهم، وفي الآلهة الغريبة التي كانوا يعتمدون عليها. عندئذ يتساءل الرب مُتهكِّماً: «أين آلهتهم؟ أين الصخرة التي التجأوا إليها، التي كانت تلتهم شحم ذبائحهم، وتشرب خمر سكائبهم؟ لتهبَّ الآن لمساعدتهم وتبسط حمايتها عليهم»!
لقد حدث هذا بالفعل في أيام القضاة، حينما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب قائلين: «أخطأنا إليك، لأننا تركنا إلهنا وعبدنا البعليم. فقال الرب لبني إسرائيل: أليس من المصريين والأَموريين وبني عَمُّون والفلسطينيين خلَّصتكم؟ والصيدونيون والعمالقة والعمونيُّون قد ضايقوكم، فصرختم إليَّ فخلَّصتكم من أيديهم؟! وأنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى! لذلك لا أعود أُخلِّصكم. امضُوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لتُخلِّصكم في زمان ضيقكم» (قض 10: 10-14). وكذلك قال لهم إرميا النبي: «فأيـن إذاً الآلهة التي صنعتموها لأنفسكم؟ لتقُم إن كانت قادرة أن تُخلِّصك مـن بليتك» (إر 2: 28 ترجمة حديثة). والعجيب أنهم كانوا يتصوَّرون أنها آلهة حيَّة تأكل وتشرب شحم ذبائحهم وخمر سكائبهم (انظر دانيال - الأصحاح 14 - من الأسفار القانونية الثانية).
الرب وحده هو الإله:
هنا يُعلن الرب لهم في هذا النشيد عن ذاته وعن قدرته الفائقة وسلطانه لكي يتذكَّروا دائماً أنه ليس إله غيره، ولا يعودوا يلجأون إلى آلهة أخرى، فيقول لهم: «انظروا الآن: أنا أنا هو وليس إلهٌ معي. أنا أُميت وأُحْيي. سحقتُ وإني أَشفي، وليس من يدي مُخلِّصٌ. إني أرفع إلى السماء يدي وأقول: حيٌّ أنا إلى الأبد».
فهذا هو الله الذي خلق السماء والأرض، وعمل الإنسان على صورته ومثاله وسلَّطه على كل مخلوقاته. ولما خالف وصيته بغواية الحية نفاه من فردوس النعيم. وهو الذي ظهر لنوح وأعلمه بأن نهاية كل بشر قد أتت أمامه، لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم، فها هو مُهلكهم مع الأرض. أما نوح فقد رآه الرب بارّاً لديه في ذاك الجيل. وأمره أن يصنع له فُلكاً هو وبنيه مع البهائم والطيور لاستبقاء نسل على وجه الأرض. وهو الذي ظهر لإبراهيم وباركه وأَمَرَه أن يذهب من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه إلى الأرض التي يُريه، فيجعله أُمة عظيمة ويُباركه ويُعظِّم اسمه، ويكون بركة، وتتبارك فيه جميع قبائل الأرض (تك 12: 1-3). ثم ظهر له ثانية وقال له: «لا تخف يـا أبرام. أنا تُرسٌ لك. أجرك كثير جداً» (تك 15: 1). ثم ظهر مرة أخرى وقال له: «أنا الله القدير، سِرْ أمامي وكُنْ كاملاً» (تك 17: 1). وظهر الرب أيضاً لإسحق وباركه (تك 26)، كما ظهر ليعقوب ووعده بأن يكون معه ويحفظه حيثما يذهب ويردّه إلى الأرض التي وعد أن يُورِّثها له ولنسله. ثم ظهر لموسى في هيئة لهيب نار مشتعلة في عُلَّيقة دون أن تحترق، وكلَّم موسى قائلاً: «أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب» (خر 3: 6)، ثم أردف قائلاً: «هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه (الكائن) إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذِكْري إلى دور فدور» (خر 3: 15).
ثم ظهر الرب لشعب إسرائيل في برية سيناء: «وكان جبل سيناء كله يُدخِّن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جداً. فكان صوت البوق يزداد اشتداداً جداً، وموسى يتكلَّم والله يُجيبه بصوت» (خر 19: 19،18)، «ثم تكلَّم الله بجميع هذه الكلمات قائلاً: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهُنَّ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مُبغضيَّ، وأصنع إحساناً إلى ألوف من مُحبِّيَّ وحافظي وصاياي... (إلى آخر الوصايا العشر)» (خر 20: 1-17). ثم ظهر الرب أيضاً لموسى على جبل سيناء: «فنزل الرب في السحاب فوقف عنده هناك ونادَى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادى: الرب الرب إله رحيم رؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية. ولكنه لن يُبرِئ إبراءً. مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع...» (خر 34: 5-7).
هذا هو الله الذي لا إله آخر غيره، كما أعلن ذاته لموسى، الذي قال لبني إسرائيل: «إنك قد أُرِيت لتعلم أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه. من السماء أسمعك صوته ليُنذرك. وعلى الأرض أراك ناره العظيمة وسمعت كلامه من وسط النار» (تث 4: 36،35). وهو الذي أعلن ذاته لإشعياء النبي قائلاً: «أنا الرب الأول، ومع الآخِرين أنا هو» (إش 41: 4)، وأيضاً قوله: «أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي... أنا الرب وليس آخر... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري؟ إله بار ومُخلِّص، ليس سواي. التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر» (إش 45: 18،5، 22،21)، وأيضاً قوله: «اسمع لي يا يعقوب وإسرائيل الذي دعوته: أنا هو، أنا هو، أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسَّست الأرض ويميني نشرت السموات» (إش 48: 13،12).
وهو نفسه الذي نادى عن نفسه في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي قائلاً: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، يقول الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء... أنا الأول والآخر. والحي وكنتُ ميِّتاً وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين. ولي مفاتيح الهاوية والموت» (رؤ 1: 11،8، 18،17)، وأيضاً: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية» (رؤ 21: 6)، «أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر» (رؤ 22: 13).
فالله الذي عرفناه في العهد القديم هو نفسه الذي أعلن ذاته في العهد الجديد في شخص يسوع المسيح، فإنَّ «الله لم يَرَه أحدٌ قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر (عن الله الآب)» (يو 1: 18). وفي ذلك يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه:
[بسبب جحود الهراطقة وكفرهم، فإنهم لا يُدركون معنى تلك الكلمات عن الله الآب غير المولود؛ فإنَّ معنى هذه الكلمات بعينها وسلطان الرسول (الذي أوردها) تأتي لمعاونتنا. فإنه، كما سبق وشرح، يُفسِّر هذه الفقرة بأكملها باعتبارها تُشير إلى شخص الابن الوحيد الله (الكلمة)](2).
كما يقول القديس أفراهات (السرياني) القرن الرابع:
[نحن واثقون أنه هو الذي يُميت، فقد رأينا هذا. وهكذا أيضاً من المؤكَّد والمستحق كل تصديق أنه هو الذي يُحيي. ومِن كل هذا الذي شرحته لكم، اقبلوا وصدِّقوا أنه في يوم القيامة سوف تقوم أجسادكم بكاملها، وسوف تتقبَّلون من ربنا مكافأة إيمانكم. وفي كل ما آمنتم به سوف تفرحون وتصيرون سعداء](3).
فالله الذي قال: «أنا أُميت وأُحيي»، هو نفسه الذي قال: «أنا القيامة والحياة» (يو 11: 25). وهو الذي قال أيضاً: «لأنه كما أن الآب يُقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي مَن يشاء» (يو 5: 21). كما يقول أيضاً: «سحقت وإني أشفي وليس من يدي مُخلِّص». ويُعلِّق على ذلك القديس باسيليوس الكبير قائلاً:
[هو نفسه الذي يسمح بالألم، وهو الذي يشفي. فهذا الذي يضرب هو نفسه الذي يعصب. فالأحزان تأتي أولاً، من أجل أن تبقى النِّعَم وتدوم. حتى أننا علينا فقط أن نجتهد في أنفسنا بكل استطاعتنا أن نحفظ ما قد أُعطِيَ لنا](4).
وهذا يعني أن الله مستعدٌّ أن يشفي مَن له رغبة صادقة في الشفاء. لذلك يقول القديس غريغوريوس النيصي:
[إنه من غير الممكن أن يوجد الصالح فيَّ إلاَّ إذا أُتيح له أن يحيا من خلال موت الذي يُعاديني. فإنه طالما نحن نحتفظ بالمضادات مُمسكين بها بكلتا أيدينا، فإنه من المستحيل أن تكون هناك شركة لكِلاَ العنصرين (المتضادين) في نفس الكائن الواحد، لأنه إذا تمسَّكنا بالشر، فإننا نفقد القدرة على التمسُّك بالفضيلة](5). (يتبع)
(1) St. Ambrose, Letter 14 Extra Coll. (CSEL 823: 280).
(2) St. Hilary of Poitiers, On the Trinity 5.36.
(3) St. Aphrahat, Demonstrations 9.25 (NPNF, 2nd Ser. 13: 383).
(4) St. Basil the Great, Homily on Psalm 29.4 (FC 46: 219).
(5) St. Gregory of Nyssa, On Perfection (FC 58: 100).