سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية لبني إسرائيل
- 54 -


ثالثاً: الحديث الثالث:
ما سيفعله الله لإسرائيل

(27: 1-34: 12)
1. التصديق على العهد لدخول أرض الموعد
(27: 1-28: 68)

الأصحاح السابع والعشرون

النطق باللعنات:
نلاحظ هنا أنه في خاتمة هذا الأصحاح السابع والعشرين لا نرى سوى النطق باللعنات التي بدأ بها موسى مُحذِّراً ومُنذراً الشعب من مغبَّة مخالفته لوصايا الناموس.

وقد رأينا أن اللعنة لم تأتِ على الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله وباركه، إلاَّ بعد أن خالف آدم الوصية التي أعطاها له الله في جنة عدن، فنطق الله بأول لعنة قالها على الحية التي خدعت آدم وتسببت في سقوط الإنسان وطرده من جنة عدن. ولما أخطأ قايين وقتل أخاه هابيل نطق الله بأول لعنة للإنسان: «ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك...» (تك 4: 11).

وهكذا فإنه بالرغم من اختيار الله لبني إسرائيل ليكونوا له شعباً مختاراً لكي يأتي المسيح من نسله لأجل خلاص العالم، إلاَّ أنهم ظلوا تحت لعنة الناموس «لأنه بأعمال الناموس لا يتبرَّر جسد ما» (غل 2: 16). وكان لابد للرب أن يضع أمامهم دائماً البركة واللعنة، ويُذكِّرهم بذلك كل حين، ويُجسِّمها أمام عيونهم حتى لا يزوغوا عن الطريق التي أوصاهم بها ليذهبوا وراء آلهة أخرى. وهنا نجده يبدأ معهم باللعنات:

+ «فيُصرِّح اللاويون ويقولون لجميع قوم إسرائيل بصوتٍ عالٍ»:

اللعنة الأولى: «ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتاً أو مسبوكاً رِجْساً لدى الرب عَمَلَ يدي نحَّات ويضعه في الخفاء» (27: 15)، مخالفاً بذلك الوصية الثانية من الوصايا العشر (خر 20: 5،4؛ تث 4: 23،16؛ 5: 8)، حتى ولو كان ذلك في الخفاء، لأن الرب إله غيور على مجده ويطلب أن يكرمه أولاده في السرِّ وفي العلانية. وكان على الشعب أن يؤمِّن على ذلك، «ويُجيب جميع الشعب ويقولون: آمين»، للتأمين على ما قيل.

اللعنة الثانية: «ملعون مَن يَسْتَخِف بأبيه أو أُمِّه» (27: 16)، مُخالفاً بذلك الوصية الخامسة من الوصايا العشر (خر 20: 12؛ تث 21: 18). وكان على الشعب أن يؤمِّن على كل لعنة بقوله: آمين.

اللعنة الثالثة: «ملعون مَن ينقل تُخْمَ صاحبه» (27: 17)، مُخالفاً بذلك الوصية الثامنة التي تُنهي عن السرقة، والوصية العاشرة التي تُنهي عن اشتهاء ما للقريب (خر 20: 17،15). وقد جاءت الوصية صريحة في هذا السفر بقوله: «لا تنقل تخم صاحبك الذي نصبه الأولون في نصيبك الذي تناله في الأرض التي يُعطيك الرب إلهك لكي تمتلكها» (تث 19: 14).

اللعنة الرابعة: «ملعون مَن يُضِلُّ الأعمى عن الطريق» (27: 18)، وقد جاء هذا التحذير في سفر اللاويين هكذا: «لا تشتم الأصمَّ، وقدَّام الأعمى لا تجعل معثرةً، بل اخشَ إلهك، أنا الرب» (لا 19: 14). ويُقصَد بذلك عدم الاستهزاء بذوي العاهات أو احتقارهم، لأن الله هو الذي سمح بأن يُعانوا من هذا العجز؛ فالذي يؤذيهم أو يستهزئ بهم إنما هو لا يخاف الله، ولا يخشى عاقبة ما يفعله.

وقد اعتبر القديس إيرينيئوس الهراطقة كمَن يُضلِّون الأعمى عن الطريق، وذلك بقوله:

[ليس هذا هو سلوك الذين يشفون أو يهبون الحياة للآخرين، بل إنه بالحري سلوك الذين يتسبَّبون في تفاقُم المرض ويزيدون الجهل. فالناموس يُظهر نفسه أكثر صدقاً من أمثال هؤلاء البشر، عندما يقول: «ملعون مَن يُضِلُّ الأعمى عن الطريق». أما الرسل فقد أُرسلوا لكي يردوا الضالين ويعطوا البصر للذين لا يبصرون ويشفوا المرضى. فإنهم لم يتكلَّموا معهم من وحي أفكارهم الخاصة ولكن باستعلان الحق. لأنه لا يمكن أن يتصرَّف إنسانٌ بأمانة وصدق إذا قال للأعمى وهو يراه مزمعاً أن يسقط من على حافة جُرف، أن يستمر في طريقه الخطير كما لو كان هو السبيل المستقيم، وكأن كل شيء على ما يرام](1).

اللعنة الخامسة: «ملعون مَن يُعَوِّج حقَّ الغريب واليتيم والأرملة» (27: 19). وقد جاءت هذه اللعنة ضد كل مَن يتعامل بلا رحمة أو عدالة مع تلك الفئة من المجتمع الذين لا حول لهم ولا قوة، كالغريب الذي بلا سند، واليتيم والأرملة الذين ليس لهم من يُدافع عنهم أو يُطالب لهم بحقوقهم. لذلك فقد أوصى الرب كثيراً بخصوصهم (خر 22: 22،21؛ تث 10: 18؛ 24: 17).

اللعنات السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة (27: 20-23): هذه اللعنات الأربع كلها تتعلَّق بالوصية السابعة من الوصايا العشر، التي تُنهي عن الزنا والنجاسة، بصورها المتعددة. وهي عادة ما تتم في الخفاء والسرِّية التامة، وهكذا لا يسهل ملاحظتها وفضحها وإعلانها أمام المحاكم. لذلك فهي تستلزم اللعنة حتى تُنبِّه ضمير مَن يقترفها في الخفاء. فإنه لا يحقُّ للرجل أن يتخذ امرأة أبيه زوجة سواء أكان أبوه حيّاً أو ميِّتاً. وقد وقع رأوبين بِكْر يعقوب في هذه الخطية (تك 35: 22). كما كان هذا الأمر حادثاً بين المتنصِّرين في كورنثوس ونهى عنه الرسول (1كو 5: 1). كما نهى الله عن هذه الفاحشة أن يُمارَس الجنس مع بهيمة ما، أو أن يضطجع شخص مع أُخته بنت أبيه أو بنت أُمه، أو أن يضطجع مع حماته. فهي كلها ضد القداسة التي أمر الله أن يتحلَّى بها شعبه المختار الذي أوصاه مراراً قائلاً له: «تكونون قدِّيسين لأني قدوس الرب إلهكم» (لا 19: 1).

اللعنة العاشرة: «ملعون مَن يقتل قريبه في الخفاء» (27: 24). وقد جاءت هذه اللعنة ضد مَن يُخالف الوصية السادسة من الوصايا العشر. وهي أول خطية سقط فيها الإنسان بعد أن طُرد من جنة عدن، عندما قتل قايين أخاه هابيل، فلعنه الله بأول لعنة نطق بها على إنسان ولكن يُلاحَظ هنا قوله: «يقتل قريبه في الخفاء»، فهو تحذير لمَن يظن أنه بقتله قريبه في الخفاء دون علم أحد، أنه بهروبه من عقوبة المجتمع؛ فإنه لن يهرب من اللعنة التي ستُلاحقه حتى الموت، كما لاحقت قايين الذي ظنَّ أنه لم يُرَ من الله عندما قتل أخاه، فأجاب الربَّ عندما سأله: «أين هابيل أخوك؟» قائلاً: «أحارسٌ أنا لأخي؟»، ولكنه لم يلبث أن أحسَّ بذنبه العظيم وصرخ قائلاً: «ذنبي أعظم من أن يُحتَمَل» (تك 4: 13).

اللعنة الحادية عشرة: «ملعون مَن يأخذ رشوة لكي يقتل نفسَ دمٍ بريء» (27: 25). وهذه أيضاً ضد مَن يُخالف الوصية السادسة. وهي خطية مُضاعفة اقترنت فيها الرشوة مع القتل. ولعلها تنطبق أيضاً على القاضي الذي يأخذ رشوة لكي يحكم بالموت على إنسان بريء. والدم البريء لن يضيع سَفْكه هباءً أمام الله.

اللعنة الثانية عشرة: «ملعون مَن لا يُقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها» (27: 26). هذه اللعنة الثانية عشرة والأخيرة هي خلاصة اللعنات ومجملها. فهي تختص بالإنسان الذي لا يُقيم اعتباراً لأية وصية أو كلمة من كلمات الناموس ليعمل بها.

وواضحٌ أن اللعنات الإحدى عشرة السابقة كانت كأمثلة لمَن يُخالف أية وصية من وصايا الناموس، لأن مَن أخطأ في وصية واحدة فكأنه قد أخطأ في الكل. لأنه مكتوب: «لأن مَن حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل» (يع 2: 10). لذلك فإنَّ اللعنة الثانية عشرة تعني أن الناموس قد أغلق على الكل تحت الخطية، لأنه لا يوجد أحد يتبرَّر بالناموس عند الله. وهذا هو ما خرج به بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية: «ولكن أنْ ليس أحدٌ يتبرَّر بالناموس عند الله فظاهر لأن البار بالإيمان يحيا. ولكن الناموس ليس مـن الإيمان، بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها. المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة» (غل 3: 11-13)، «لأنه لو أُعطِيَ ناموس قادر أن يُحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس. لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليُعطَى الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون» (غل 3: 22،21).

ويُعلِّق الأب متى المسكين على ذلك بقوله:

[... لولا أن المسيح اقتبل لعنة الله بحسب الناموس الموقَّعة أصلاً على الخطاة لَمَا صالَح الله الخطاة في المسيح. فاللعنة اقتبلها المسيح في جسد بشريته الحامل كل الخطايا وليس على أقنومه القدوس. لذلك نقول: إن ابن الله مات بالجسد تحت حُكْم اللعنة، وبهذا أكمل حُكْم اللعنة فينا فسقطت اللعنة من علينا، فنلنا براءة أبدية ثم قام بقداسة أقنومه بالجسد مُبرَّأً، الذي هو جسدنا مُضافاً إليه برّه الذاتي](2).

+ + +

الأصحاح الثامن والعشرون
البركات اللاحقة للطاعة واللعنات اللاحقة للمخالفة

إن خاتمة الاشتراطات الخاصة بتجديد العهد التي جاءت في نهاية الحديث الثاني لموسى النبي على سهول موآب، مقابل أرض الموعد وهم على أعتاب دخولها والاستيلاء عليها، والتي تضمَّنت قول موسى لهم بأنهم اليوم قد واعدوا الرب أن يكون لهم إلهاً، وأن يسلكوا في طُرقه، ويحفظوا فرائضه ووصاياه وأحكامه، ويسمعوا لصوته؛ كما واعدهم الرب في ذلك اليوم أيضاً أن يكونوا له شعباً خاصاً، وأن يجعلهم شعباً مستعلياً على جميع قبائل الأرض التي عملها الرب، في الثناء والاسم والبهاء (26: 16-19)؛ ثم أعقبها في هذا الحديث الثالث بالتعليمات الخاصة بتجديد العهد الذي سيتم في المستقبل في ناحية شكيم بعد دخول أرض الموعد، بعد المراحل المبدئية للاستيلاء على كنعان. فمن ضمن مراسم الاحتفال لتجديد العهد حينذاك، ستُعلن البركات واللعنات من فوق جبل جرزِّيم وجبل عيبال كما جاء في (27: 11-26).

أما هنا فيعود التركيز مرة ثانية في هذا الأصحاح على اللحظة الحاضرة. لذلك فإن محور الحديث يدور حول البركات واللعنات التي نطق بها موسى أثناء تجديد العهد فوق سهول موآب قبل دخول أرض الموعد. فقد أُعلنت البركات أولاً (28: 1-14)، ثم أعقبها بقائمة أكبر من اللعنات (28: 15-68). وفي كل من الجزئين نلاحظ أن البركات واللعنات التي ذُكرت سابقاً في مراسم الاحتفال جاءت بأسلوبٍ غاية في الإحكام والبلاغة، وفي عبارات سلسة متناغمة، وقد بدأ بالنطق بالبركات، وذلك بقوله:

+ «وإن سمعتَ سمعاً لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أُوصيك بها اليوم، يجعلك الربُّ إلهك مُستَعلياً على جميع قبائل الأرض. وتأتي عليك جميع هذه البركات وتُدركك إذا سمعتَ لصوت الرب إلهك. مُبارَكاً تكون في المدينة، ومُبارَكاً تكون في الحقل. ومبارَكة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك. مُبارَكة تكون سلَّتك ومعجنك. مُبارَكاً تكون في دخولك، ومُبارَكاً تكون في خروجك. يجعل الربُّ أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك. في طريق واحدة يخرجون عليك، وفي سبع طُرق يهربون أمامك. يأمر لك الربُّ بالبركة في خزائنك وفي كل ما تمتدُّ إليه يدك، ويُباركك في الأرض التي يُعطيك الربُّ إلهك. يُقيمك الربُّ لنفسه شعباً مُقدَّساً كما حلف لك إذا حفظتَ وصايا الرب إلهك وسلكتَ في طُرقه. فيرى جميع شعوب الأرض أنَّ اسم الرب قد سُمِّيَ عليك ويخافون منك. ويزيدك الرب خيراً في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك على الأرض التي حلف الربُّ لآبائك أنْ يُعطيك. يفتح لك الربُّ كن‍زه الصالح السماء ليُعطي مطر أرضك في حينه، وليُبارك كل عمل يدك، فتُقرِض أُمماً كثيرة وأنت لا تقترض. ويجعلك الرب رأساً لا ذنباً، وتكون في الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط إذا سَمِعتَ لوصايا الرب إلهك التي أنا أُوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل. ولا تزيغ عن جميع الكلمات التي أنا أُوصيك بها اليوم يميناً أو شمالاً لكي تذهب وراء آلهة أخرى لتعبدها» (28: 1-14).

وهكذا نلاحظ أنه يفتتح حديثه بكلمات تعكس نفس ما قاله سابقاً في ختام الحديث الثاني، وهو أنه إذا سمع سمعاً لصوت الرب وعمل بجميع وصاياه، فإنَّ الرب يجعله مستعلياً على جميع قبائل الأرض (انظر 26: 16-19). فهذه الجملة الشرطية يعقبها وعد، فالطاعة لوصايا الرب يتبعها بالضرورة بركة. فهذا المبدأ والضدُّ له يُشكِّل القاعدة الأساسية لشرح كل ما جاء في هذا الأصحاح. فكما أن الطاعة يتبعها البركات، هكذا العصيان وتَرْك وصايا الرب يتبعها اللعنات. كما نلاحظ أيضاً أن هناك تشديداً على نقطتين أساسيتين وهما:

أولاً: بركة الله للشعب في حياته الداخلية، من حيث الصحة والرخاء للأُمة كلها.

ثانياً: بركة الله للشعب في علاقاته الخارجية مع الشعوب من حيث القوة والحيوية والاستعلاء على جميع قبائل الأرض.

وعكس ذلك تماماً هو ما يحدث لإسرائيل إذا ما تركوا الرب، كما يبدو عند ذِكْر اللعنات: فليس فقط أنه ستُدركهم الكوارث والنكبات والبلايا على مستوى حياتهم الداخلية نتيجة عصيانهم لوصايا الرب؛ بل إنهم سيصيرون مَثَلاً وهُزأةً في جميع الشعوب، ويُستأصلون من الأرض التي هم داخلون إليها.

(يتبع)

(1) St. Irenaeus, Against Heresies 306.2.
(2) الأب متى المسكين، ”شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية“، أصحاح 3: 13، ص 213.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis