دير القديس أنبا مقار الكبير

 

من تاريخ كنيستنا
- 82 -


الكنيسة القبطية في القرن الثالث عشر
البابا كيرلس الثالث (ابن لقلق)
البطريرك الخامس والسبعون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1235 - 1243م)
-3-
 

+ ذكرنا في العددين السابقين (سبتمبر 2010، ص 29؛ وأكتوبر 2010، ص 27) كيفية رسامة الراهب داود (ابن لقلق) بطريركاً، باسم البابا كيرلس الثالث. وفي هذا العدد نُكمِل ذكر الأحداث التي حدثت في عهده، ثم بعض أعماله.
ارتفاع منسوب النيل وحدوث رخاء في مصر:

يقول كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”وزاد الماء (في النيل) المبارك، واطمأن الناس بذلك... وبلغ إلى ثمانية عشر ذراعاً وثمانية أصابع، وانخفضت الأسعار وكثرت الخيرات“. وكان ذلك عام 953 للشهداء (1237م)، كما يذكر ذلك الأنبا يوساب أسقف فوه مؤلِّف ”تاريخ البطاركة“ المنسوب إليه، وكان معاصراً للبابا كيرلس الثالث.

حوار ومواجهة بين أراخنة الكنيسة

وبين الأب البطريرك:

ويذكر كاتب سيرة الأب البطريرك كيرلس الثالث في كتاب ”تاريخ البطاركة“ المنسوب إلى ساويرس بن المقفع، أنَّ جماعة من الأراخنة اجتمعوا وتوجَّهوا إلى الأب البطريرك بكنيسة المُعلَّقة. وكان الشعب قد ضجَّ من تصرفات الأب البطريرك الانفرادية. وهكذا أراد هؤلاء الأراخنة أن يتحاوروا مع الأب البطريرك ويُناقشوه في الأمور التي ضجَّ منها الشعب القبطي.

ويُلاحَظ من سِيَر الآباء البطاركة السابقين أنَّ المتقدِّمين من الشعب كان لهم أحياناً دور في مناقشة الأب البطريرك في بعض التصرفات الخارجة عن الأصول المرعية في تقليد الكنيسة، مثل حرمان أسقف بدون وجود مبرِّرات لذلك، وغير ذلك.

وبدأت جلسة الحوار والمناقشة هذه المرة مع الأب البطريرك بتوجيه الأراخنة السؤال للأب البطريرك هكذا (منقولة بالنص عن كتاب ”تاريخ البطاركة“):

- إلى متى تفعل هذه الأشياء التي قد جَعَلْتنا بها سُبَّة بين الأُمم والشعوب؟

+ فقال لهم (الأب البطريرك): وما هي؟

- أَخْذَك ”الشرطونية“ على الكهنوت (اسم المبلغ الذي يتقاضاه الأب البطريرك مقابل رسامة أسقف أو كاهن؛ ويُسمَّى أيضاً ”سيمونية“ نسبة إلى ”سيمون الساحر“ الذي أراد شراء مواهب الروح القدس بدراهم من القدِّيسَيْن بطرس ويوحنا - أع 8: 18-24).

+ لكي نُوفي المال الذي طلبه السلطان (3000 دينار مقابل رسامته بطريركاً ضد إرادة الشعب القبطي - ارجع إلى مجلة مرقس، عدد سبتمبر 2010، ص 29).

- ومَن أحوجَك إلى أن تُقرِّر للسلطان مالاً؟

+ أنتم قرَّرتم المال للملك.

- فما كان يتعيَّن أن تدخل فيه (أي في محاولات السعي للبطريركية)، ولا البطريركية طُرحت عليك رغماً عنك؛ بل أنت الذي سعيتَ إليها ورغبتَ فيها، ولك اليوم عشرون سنة، وقد أخْرَبتَ كنيستنا.

+ أنا ما أخربت كنيستكم بل عمَّرتها. وما كان قد بَقِيَ فيها أسقف، وقد صار فيها اليوم خمسون أسقفاً، ومن الكهنة ما لا يُحصَى عددهم.

+ وزاد الحديث والحوار هكذا من سيِّئ إلى أسوأ. وفي آخر الأمر حلف لهم أن المبلغ المطلوب للسلطان لم يتم دفعه كله، بل تبقَّى منه 300 دينار لم تُدفع. فقالوا له:

- والأساقفة صاروا يأخذون الشرطونية (لتعويض ما دفعوه للأب البطريرك).

+ ومَن يرضى للأساقفة بهذا. والله ما بلغني أن أسقفاً أخذ ”شرطونية“ إلاَّ وأمنعه. وهذه رسائلي ذَهَبَت إلى كل البلاد.

- ثم قدسك تُكرِّس مَن هم أبناء الثواني (أي أبناء الزوجة الثانية، وهذا مُحرَّم في القانون الكنسي).

+ أروني قانوناً منع مثل هؤلاء من الكهنوت.

- هذه عادة كنيستنا وما جَرَت عليه تقاليد آبائنا.

+ أنا أوافقكم على هذا على أنه عادة، لا شرعاً ولا قانوناً.

- نريد رسائل من قداستكم إلى الوجهين القبلي والبحري بمنع الشرطونية، ومنع تكريس أبناء مَن تزوَّجت رجلاً ثانياً (في حالة الطلاق أو الوفاة للزوج أو الزوجة).

+ أنا أكتبها وأبعث بها لكم.

وانفضَّ المجلس على لا شيء، ولم يكتب الأب البطريرك كُتباً ولا عمل شيئاً.

حدوث وباء، ومرض الأب البطريرك:

ثم حلَّ وباء على البلاد، ومات أُناس كثيرون، ومرض الأب البطريرك أيضاً، ومَنَّ الله عليه بالعافية.

تجديد كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة

وتحويلها إلى مقر للبطريركية:

وكانت كنيسة الملاك بجزيرة الروضة (المَنْيَل) قد أصابها الخلل بسبب تآكل الأرض التي بُنيت عليها، من جراء نهر النيل، فطلب السلطان من والي مصر أن يتقدَّم إلى الأب البطريرك ليهتم بأمرها وتعميرها، وعلى الأخص أن الجامع الملاصق لها كان السلطان يخشى عليه من الانهيار لنفس السبب.

فنزل الأب البطريرك إلى هذه الكنيسة واهتم بأمرها وعمَّرها، وقيل وقتئذ أنه أنفق في سبيل عمارتها ألف دينار؛ ثم عمَّر قاعة في فناء الكنيسة المُطلِّ على النيل، وهي قاعة بشبابيك، اهتمَّ بتزيينها بهمة عالية، حتى أصبح لا يُرى ما هو أحسن منها.

وبعد إتمام العمارة، أقام القدَّاس في الكنيسة الجديدة التي قام بتعميرها، ثم جلس على ”الثرونوس“ (أي الكرسي المخصَّص للأب البطريرك). وقُرئ قُدَّامه الأبرولوغون pi`prologon (وغالباً كان لحناً قديماً ”أنتيفون“، أي تبادلياً بين فرقتين من الشمامسة، يُقرأ فيه قطعة المزمور التي تُقال قبل الإنجيل وتنتهي بكلمة ”هلليلويا“). وقد أخذ الأب البطريرك هذه الكنيسة من أسقف الجيزة وصارت مقرّاً بطريركياً له، كما ذكر الأنبا يوساب أسقف فوه (المعاصر للأب البطريرك) في كتابه عن ”تاريخ البطاركة“.

تحويل رئاسة الأديرة من أساقفة الإيبارشيات

إلى البطريركية:

وكانت أديرة الرهبان والراهبات تخضع إدارياً لأساقفة الإيبارشيات التي يوجد فيها كل دير، حيث كان الأسقف أو المطران يقوم بتموينها بالحبوب والقمح وسائر احتياجات الأديرة من المؤونة. لكن الأب البطريرك ضمَّها إلى البطريركية، ولم يجعل لأسقف حُكْماً إلاَّ على كنائس المدن التابعة لإيبارشيته.

إقامة مطران لأول مرة على القدس والساحل

والشام (سوريا ولبنان وفلسطين):

ولأول مرة قدَّم الأب البطريرك كيرلس الثالث مطراناً على القدس والساحل والشام وحتى نواحي نهر الفرات (بلاد ما بين النهرين). وقد امتعض لهذا التصرُّف الانفرادي بعض الأراخنة حيث قالوا: هذا لا يجوز لأن هذه البلاد تتبع كرسي أنطاكية (السريان)، والكرسيان (كرسي الإسكندرية وكرسي أنطاكية) واحد. وسيحدث خلاف على هذه الخطوة، إذ لم يسبق أن جَرَت عادة بذلك. ولكن لم يلتفت البطريرك إلى هذا الاعتراض، بل أرسل مطراناً إلى هناك، وجعل له الحُكْم في تلك البلاد حتى ما هو خاضع منها للإفرنج (الذين بقوا هناك بعد الحروب الصليبية).

+ وفي عيد القيامة المقدسة وصل أنبا إغناطيوس الثاني بطريرك السريان (1222-1253م) إلى القدس هو وبطريرك الأرمن. فلما بلغ الأب البطريرك كيرلس الثالث ذلك جهَّز لبطريرك السريان هدية من هدايا مصر وكانت عود بخور، ومنديلين لليد، و”شبُوته“ وهي النُّطق العربي للكلمة القبطية `]bot أي عصا الرعاية مصنوعة من الأبنوس، وحمَّلها مع أسقف الخندق وأحد القسوس في القاهرة، للذهاب إلى القدس لتسليمها لبطريرك السريان.

ولما عَلِمَ المطران القبطي في القدس بحضورهم، خرج للقائهم بالأناجيل والمباخر والصلبان وأنزلهم عنده. ثم مضى أسقف الخندق إلى بطريرك السريان واجتمع به وسلَّم عليه وأعطاه خطاباً من الأب البطريرك وهديته، وكان الخطاب يحوي الرسالة البابوية المعتاد إرسالها من كل بطريرك جديد إلى بطريرك أنطاكية، والمُسمَّاة ”السينوديقون“، والتي تحوي اعترافاً بالإيمان الأرثوذكسي. لكن تأخَّر إرسالها بسبب القلاقل التي في البلاد.

+ قَبِلَ البطريرك الأنطاكي الهدايا، ولكنه قال للأسقف الموفد: ”إن البطريرك أنبا كيرلس هو أخي، وإنما هذا "الشيطان" (يقصد المطران القبطي) أوقع بيننا وفرَّق الكنيسة، وما له عندي تصرُّف (أي لن أعترف بهذا المطران)“.

وخرج الأسقف القبطي ومَن معه لينصرف، فسألهم البطريرك الأنطاكي أن يستضيفهم عنده، فامتنع الأسقف وقال: ”أنا نازل عند المطران، وما أقدر أن أخرج من عنده إلاَّ بإذنه“. فحنق بطريرك السريان من ذلك، وردَّ الهدية، ومنع المطران، ولم يَعُدْ يرى الأسقف.

+ على أن المطران استعان بالإفرنج الذين بقوا في القدس بعد انسحاب جنود الحرب الصليبية، وانضم إليهم هو وكنائس الأقباط والشعب معه. وقد أخذوا توقيعه بأنه يعتقد بمعتقداتهم، كما انضمَّ معه أسقف الخندق.

البطريرك الأنطاكي يردُّ على

البطريرك كيرلس الثالث:

بعد وصول خطاب ”السينوديقا“ إلى البطريرك إغناطيوس عن إيمان الكنيسة القبطية، أرسل البطريرك الأنطاكي ردَّه بقبوله (وكان ذلك سنة 953ش / 1237م). ولكنه أرسل خطاباً للبابا كيرلس الثالث يُنكر عليه أمرين اثنين:

1. إنه لما كُرِّس البابا كيرلس الثالث بطريركاً لم يحضر الرسامة لتكريسه اثنا عشر أسقفاً كجاري عادة تكريس البطاركة. وذكر في خطابه أنه بلغه سبب ذلك أن كرسي الإسكندرية ظل تسع عشرة سنة بلا بطريرك وتنيح أثناءها أكثر الأساقفة، وأنه كان يجب على كرسي الإسكندرية أن يُعرِّفه بذلك ليُرسل له أساقفة من كرسيه بمقدار ما يحتاج إليه التكريس.

2. اعتراضه على البابا كيرلس في قيامه بتكريس مطران على كرسي أورشليم، بينما هذا الكرسي لا يتبع إيبارشيات الإسكندرية.

وقد ردَّ البابا كيرلس الثالث على هذه الرسالة، موضِّحاً للبطريرك الأنطاكي رأيه في النقطتين السالف ذكرهما. ولطول حجم الرسالة نُحيل القارئ إلى قراءتها في المرجع التالي:

- ”البابا كيرلس الثالث“، جمع وتأليف الشماس كامل صالح نخلة، مطبعة دير السيدة العذراء السريان، 1951م، من صفحة 84-88.

+ وقد اقتنع بطريرك السريان بقانونية وجود مطران للأقباط في القدس والشام لرعاية وإدارة مصالحهم بهذه البلاد، وتمَّ الصُّلح بينهما.

عداء بعض الأقباط للبابا كيرلس الثالث

بسبب ”الشرطونية“:

فقد كان هناك شخص اسمه الراهب عماد الذي كان السبب في تقدمة البابا كيرلس الثالث، لكنه بعد تكريس البابا كيرلس الثالث، أبعده البابا عنه وقرَّب إليه أحد الأراخنة واسمه ”الأسعد“. ولكن لم تَطُلْ أيام الوفاق بين الأسعد والأب البطريرك، إذ وقع الخلاف بينهما واشتدَّ، حتى انضمَّ الأسعد إلى الراهب عماد، وأجريا حصراً بما قبضه الأب البطريرك من ”الشرطونية“ إلى حين افتراقهما عنه، فبلغ مجموع المُتحصَّل تسعة آلاف ومائتي دينار. فكتبا شكوى ضد البابا وقدَّماها إلى الأمير نور الدين وإلى القاضي الأسد.

فأحضروا البطريرك، بحضور الراهب عماد والأسعد. وبعد اجتماعهم معاً، اتُّفِق على أن يقوم الأب البطريرك بدفع ألف دينار لبيت المال.

+ وقد حاول هذا الراهب الشكوى مرة أخرى من الأب البطريرك، كما طلب من مجمع الأساقفة أن يجتمعوا ليبحثوا في أمر الأب البطريرك، فلم ينجح. وقد حدث أن سُجِنَ الأب البطريرك، ثم أُفرج عنه.

+ وظلت المحاولات لأَخذ توقيع الأب البطريرك على بعض المطالب الإصلاحية، فلم يُجِبْ الأب البطريرك على أيٍّ منها.

وإلى العدد القادم لنسرد كيف نجح 14 أسقفاً في عقد مجمع وضع بعض القرارات التي يمكن بها إصلاح الأمور في الكنيسة.

(يتبع)

**** تحويل الحياة كلها إلى صلاة ******************************************************

[أن نُكرِم ونُمجِّد ذاك الذي نؤمن به، كلمة الله ربنا وملكنا (يسوع المسيح)، وبه نُمجِّد الآب، فهذا هو واجبنا، ليس فقط في أيام معيَّنة ومخصَّصة، كما يفعل الآخرون؛ وإنما، بصفة دائمة، عَبْرَ الحياة كلها وبكل وسيلة...

إذن، لنحيا كل الحياة كما لو كانت كلها عيداً، في يقينية أن الله حاضرٌ كلِّيَّةً في كل مكان. أثناء عملنا وكدِّنا نُرنِّم، وفي أثناء أسفارنا نلهج بالتسابيح، نسلك على كلِّ حالٍ كمواطنين سمائيين. الإنسان الروحي يظل دائماً في علاقة صميمية مع الله، بحيث إنه يبدو في نفس الوقت وقوراً وفَرِحَاً في كل الأحوال: وقوراً بسبب وعيه (الدائم) بالله، وفَرِحاً بسبب كل الخيرات التي يمنحها الله للبشر... إنه يشكر الله دائماً من أجل التمتُّع المشروع بكل الخيرات...

الصلاة هي - أتجاسر وأقول - مناجاة داخلية مع الله، حتى ولو تهامسنا معه بهدوء، أو تحدَّثنا معه في صمت ودون أن نُحرِّك الشفاه. فهذا يُعتبر صراخاً داخلياً، والله دائماً يصغي إلى هذا الصوت الداخلي... نعم، إن الإنسان الروحي الحقيقي يُصلِّي عَبْرَ حياته كلها، لأن الصلاة بالنسبة له هي الجهاد الدائم للاتحاد مع الله، وهو يطرح عنه كل شيء غير نافع، لأنه قد سبق فوصل إلى حدِّ الكمال - إذا جاز لنا هذا التعبير - الذي يقوم على أساس أنَّ كل شيء يُعمل بالمحبة...].

************* (العلاَّمة كليمندس الإسكندري - القرن الثالث -Stromates 7, 7: P.G. 9, 450-451, 455-470 )

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis