دعوة لتجديد العهد مع الله
|
|
|
سادساً: فضيلة نقاوة القلب: لأنهم يُعاينون الله» (مت 5: 8):
«طوبى للأنقياء القلب،
وفي تطبيق منطقي لمركز القلب بالنسبة للإنسان، أصبح القلب يُعبِّر عن مركز النشاط العقلي والعاطفي والروحي للإنسان. وبتعبير آخر، فإنه يُمثِّل المنابع الخفية لحياة الشخصية الإنسانية، كما جاء في سفر الأمثال: «فوق كل تحفُّظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة» (أم 4: 23). وكما قال الرب أيضاً في الإنجيل المقدس: «الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يُخرج الشر» (لو 6: 45). وهذا يعني أن حركة القلب الداخلية تؤثِّر على كل تفكير الإنسان وأقواله وأعماله، كقول الرب أيضاً: «فإنه من فضلة القلب يتكلَّم الفم» (لو 6: 45). لذلك أصبح كلام الإنسان يشهد على ما في قلبه: «بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» (مت 12: 37).
ويشهد الكتاب المقدس على أن الفساد الذي يلحق الإنسان يحدث أولاً في القلب، لأن الخطية مبدأها وقاعدتها هي في باطن الإنسان ونابعة من داخله، وهكذا تُدنِّس كل دائرة سلوكه: «لأن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف؛ هذه هي التي تُنجِّس الإنسان» (مت 15: 20،19). لذلك شهد الوحي المقدس من البداية، عندما كثر شر الإنسان في الأرض في أيام نوح: «أن كل تصوُّر قلبه إنما هو شرير كل يوم» (تك 6: 5).
والقلب في اللغة العبرية يُدعى ”لُب“ أو ”لباب“، وفي اليونانية ”kard…a“ (kardia). والكلمة تُستخدم لتأدية العديد من المفاهيم الطبيعية والنفسية والعاطفية والأدبية والروحية. ويُقال مثلاً: ”هذا لُب الموضوع“ أي قلب الموضوع. ويتضح من استعمالاته في الكتاب المقدس أنه يُعبِّر عن الإرادة والتفكير والعواطف والأخلاق، ومنه تصدر كل التصرفات الصالحة والشريرة. ولكنه يعني أيضاً أنه هو مركز التأثير الإلهي على الإنسان، لذلك يقول الكتاب: «يا ابني أعطني قلبك ولتُلاحظ عيناك طُرقي» (أم 23: 26)، كما يقول أيضاً: «تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك» (تث 6: 5)، «لأن القلب يُؤمَن به للبر، والفم يُعتَرف به للخلاص» (رو 10: 10).
فكما أن القلب هو نقطة التلاقي مع الله والإيمان به ومحبته، فهو أيضاً بداية الابتعاد عنه وإنكاره، كقول الكتاب: «هذا الشعب قد اقترب إليَّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني، وصارت مخافتهم مني وصية الناس مُعلَّمةً» (إش 29: 13). وقد ذكر القديس متى الإنجيلي والرسول نفس هذه الآية هكذا: «يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً، وباطلاً يعبدونني، وهم يُعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس» (مت 15: 8).
وهكذا يتضح أن الناس الأشرار يحاولون أن يُنافقوا بكلامهم ويُظهروا غير ما يُبطنون، كقول المزمور: «المخاطبين أصحابهم بالسلام، والشر في قلوبهم» (مز 28: 3)، وأيضاً قوله: «بأفواههم يُباركون، وبقلوبهم يلعنون» (مز 62: 4). وكما يشهد بذلك أيضاً إرميا النبي قائلاً: «بفمه يتكلَّم مع صاحبه بسلام، وفي قلبه يصنع له كميناً» (إر 9: 8). لذلك يُخاطبهم الرب يسوع قائلاً: «يا أولاد الأفاعي، كيف تقدرون أن تتكلَّموا بالصالحات وأنتم أشرار؟ لأنه من فضلة القلب يتكلَّم الفم» (مت 12: 34).
وهكذا يتضح من كلام الرب أنه يستحيل على الإنسان أن يتكلَّم بالصالحات وهو شرير، إلاَّ إذا تملَّك عليه الشيطان، كما حدث مع يهوذا حينما أسلم الرب بقبلة السلام الغاشة، ومع الفرِّيسيين الذين دعاهم الرب ”أولاد الأفاعي“، لأن الأفعى ترمز للشيطان، حيث يكون القصد من إظهار الصلاح هو الإبقاء على الشرِّ في قلوبهم، وهذا هو من صميم عمل الشيطان.
والواقع أنه حينما أخطأ آدم أبونا وأطاع مشورة إبليس، صار عبداً له، وهكذا دخلت الخطية إلى العالم، كما يقول بولس الرسول: «كأنما بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو 5: 12).
لذلك لم يكن بُدٌّ لدى الله أن يُجدِّد خلقة الإنسان بتجسُّده، لكي يأخذ الذي لنا ويُعطينا الذي له(1)، أي لكي يأخذ جسدنا فيُقدِّسه في ذاته، باتحاده به، ويُعطينا روحه القدوس الذي بواسطته ينزع منا القلب الشرير ويخلق فينا قلباً جديداً نقيّاً.
لقد كان خلق قلب جديد للإنسان في العهد القديم عملاً استثنائياً محدوداً، طالما طلبه الأنبياء حينما أحسُّوا بشدة احتياجهم إليه، مثل داود النبي الذي صرخ في مزموره الحادي والخمسين قائلاً: «ارحمني يا الله مثل عظيم رحمتك، ومثل كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهِّرني... قلباً نقياً أخلقْ فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في أحشائي. لا تطرحني من قدَّام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني...».
ولكن في العهد الجديد أصبح خلق قلب جديد للإنسان نعمةً عامةً توهَب لكل مَن يؤمن بالمسيح فادياً ومُخلِّصاً، ويعتمد باسم الثالوث الأقدس. وقد تنبَّأ عن ذلك حزقيال النبي قائلاً: «وأرشُّ عليكم ماءً طاهراً فتُطهَّرون، من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أُطهِّركم. وأُعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر وأُعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها» (حز 36: 25-27).
وقد شهد بطرس الرسول للذين آمنوا من الأمم واعتمدوا، بأنَّ الرب قد أنعم عليهم بالقلب الطاهر النقي مثلهم تماماً، وذلك بقوله: «ولم يُميِّز بيننا وبينهم بشيء، إذ طهَّر بالإيمان قلوبهم» (أع 15: 9).
وهكذا أصبح ممكناً لكل إنسان أن تتم له الخلقة الجديدة للقلب الجديد بواسطة الميلاد الجديد من الماء والروح، وذلك من خلال الإيمان والتوبة. ولكن يبقى أن نسهر على نقاوة هذا القلب الجديد. فعمل الله مرتبط بعملنا، لأنه بقدر ما نسهر على نقاوة قلوبنا من كل دنس الجسد والروح، بقدر ما يعمل الروح القدس في داخلنا ويُطهِّرنا ويحفظنا أنقياء لائقين لحلول المسيح بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17)، ”ويهبنا المواعيد العُظمى والثمينة لكي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة“ (2بط 1: 4).
لأنه بقدر ما نؤمن إيماناً راسخاً بما نلناه من المسيح وفيه، من عطايا ومواعيد لا يُعبَّر عنها، كقول الرسول: «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه» (كو3: 10،9)؛ بقدر ما يصير في استطاعتنا أن نُنقِّي قلوبنا، ونُميت أعضاءنا التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديَّة، الطمع؛ ونطرح عنَّا: الغضب، السخط، الخبث، التجديف، والكلام القبيح من أفواهنا، ولا نكذب بعضنا على بعض لأننا أعضاء بعضنا لبعض (كو 3: 5-9).
وهكذا إذ نحصل على نقاوة القلب، نستحق هذا التطويب الذي نطق به المسيح: «طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يُعاينون الله» (مت 5: 8).
وكلمة ”نقي“ باليونانية ”kaqar'j“، تعني أيضاً: طاهر، بريء، صافي، نظيف، غير مختلط، سليم، بلا عيب. ونقاوة القلب لا يمكن الوصول إليها إلاَّ على سُلَّم الفضائل التي سبقتها، وآخرها هي الرحمة. وهكذا، فالقلب النقي هو القلب الذي يؤمن أنه بدون المسيح لا يقدر أن يعمل أي صلاح. وهو الذي يحسُّ في نفسه أنه لا شيء، وأنه نزيل وغريب على الأرض. لذلك فهو يحتمل كل شيء، ويُصدِّق كل شيء، ويرجو كل شيء، ويصبر على كل شيء؛ ذلك لأن جوعه وعطشه ليس إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى، وإلى البر، وإلى ما هو فوق حيث المسيح جالس. وهو يتأنَّى ويرفق ويُسامح ويغفر، ويُعطي ما عنده صدقة مُكمِّلاً قول المسيح: «أعطوا ما عندكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقيّاً لكم» (لو 11: 41). وهو يرى كل شيء طاهراً، لأن «كل شيء طاهر للطاهرين» (تي 1: 15).
وإجمالاً، فإن نقاوة القلب هي العودة إلى براءة الطفولة، حسب قول المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3). وقد قال الرب ذلك لتلاميذه حينما وجدهم يتحاجون في الطريق بعضهم مع بعض فيمَن هو أعظم، فأخذ ولداً وأقامه في الوسط وقال لهم: «مَن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات» (مت 18: 4). ثم عاد وقال لهم أيضاً: «الحق أقول لكم: مَن لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله» (مر 10: 15)، «لأني أقول لكم: إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات» (مت 18: 10).
ولكن، كيف نرقى إلى هذه الطفولة التي يدعونا إليها الرب يسوع لكي نحظى بالقلب النقي الذي يُعاين الله؟
من الواضح أن هذا الأمر يفوق قدرات الإنسان وإمكانياته، ولكنه يختص بعمل الله فينا وقدرته على أن يخلق ويُجدِّد قلوبنا كما سبق وأوضحنا. فهو يتعلَّق بالميلاد الجديد من الماء والروح، وبحفظ وصايا الرب يسوع والعمل بها وتخبئتها في القلب واللهج بها كل حين: «خبَّأتُ كلامك في قلبي لكي لا أُخطئ إليك» (مز 119: 11). وكنتيجة طبيعية لحفظ وصايا الرب، فإنه يُظهر ذاته لمَن أحبه وتمسَّك بوصاياه: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أُحبه وأُظهر له ذاتي» (يو 14: 21)، وليس ذلك فقط، بل إنه يُقيم عنده: «إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23).
وقد شهد الرب لتلاميذه بأنهم قد صاروا أنقياء بسبب الكلام الذي كلَّمهم به (يو 15: 3). كما قال في صلاته الختامية للآب: «لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم، وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجتُ من عندك، وآمنوا أنك أنت أرسلتني» (يو 17: 8). ثم طلب من الآب من أجلهم قائلاً: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 24).
وقد أكمل الرب وعده لتلاميذه بأن أراهم نفسه حيّاً بعد قيامته، كما سبق وأنبأهم قبل آلامه وصلبه وموته، إذ قال لهم: «بعد قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً ترونني، لأني ذاهبٌ إلى الآب» (يو 16: 15)، «سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو 16: 22).
ويوحنا الإنجيلي والرسول يشهد متهلِّلاً في رسالته الأولى، مُعبِّراً عن الفرح الذي لا يُنطق به بسبب الرؤيا التي لا يُعبَّر عنها التي لكلمة الحياة: «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهِرت، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1-3).
ولقد عبَّر بولس الرسول أيضاً عن هذه الرؤيا العقلية للرب يسوع التي تكون بكثرة المثول في حضرة الرب في الصلاة حيث تنطبع في قلوبنا صورة مجد الرب، فنتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد، وذلك في قوله: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو 3: 18).
لذلك يحثُّنا القديس مقاريوس الكبير على الحرص على حفظ نقاوة قلوبنا لكي نحظى برؤية مجده في الإنسان الباطن، وذلك بقوله:
[فينبغي على كلٍّ منَّا، إذن، أن يجاهد ويتعب ويجتهد في جميع الفضائل، ويؤمن، ويسأل الرب أن يكون شريكاً لذلك المجد منذ الآن، في إنسانه الباطن؛ وأن تكون لنفسه شركة في تلك القداسة التي للروح القدس، لكي إذا ما تطهَّرنا من أقذار الشر، يكون لنا في القيامة ما يستر أجسادنا المقامة العارية ويُغطِّي عورتنا، ويُحيينا، فنستريح في ملكوت السموات إلى الأبد](2).
(يتبع)
[إذا كانت لنا المحبة المصحوبة بالحنان والشفقة، فلن نترصَّد لعيوب الآخرين، حسبما قيل: «المحبة تستر كثرة من الخطايا» (1بط 4: 8)... فإذا كان لنا المحبة (الحقيقية)، فهي نفسها ستستر كل زلَّة، وسيصير موقفنا من عيوب الناس كموقف القديسين إزاءها. هل كان القديسون مكفوفي البصيرة حتى أنهم كانوا لا يرون الخطايا؟ ولكن مَن يستهجن الخطية مثل القديسين؟ ومع هذا فإنهم لا يكرهون الخاطئ، ولا يدينونه، ولا يُباعدون أنفسهم عنه؛ بل على النقيض من هذا، فإنهم يُشفقون عليه ويرشدونه ويعزونه، ويعتنون به كعضو مريض، ويعملون كل ما بوسعهم لإنقاذه.
الأُم عندما يتسخ ابنها ويصير شكله قبيحاً، فإنها لا تتباعد عنه مشمئزة منه، بل تُسَرُّ بأن تنظِّفه وتُعيده إلى شكله اللطيف المُبهج. كذلك هو الأمر مع القديسين، فإنهم يعتنون بالخاطئ، ويُهيئونه، ويتحملون عبء إصلاحه، منتهزين الفرصة المناسبة حتى لا يكون سبباً في إعثار الآخرين، وحتى يتقدَّموا هم أنفسهم أكثر في محبة المسيح...
وخلاصة القول، ليكن لنا - كلٌّ حسب طاقته - اهتمامٌ بأن نكون متَّحدين (في المحبة) بعضنا ببعض، لأنه كلما اتحدنا بالقريب (وهو حسب مفهوم الإنجيل ”الإنسان عموماً“ أيَّا كان جنسه أو دينه أو مذهبه، كما شرح الرب ذلك في مَثَل السامري الصالح - لو 10: 25-37) بقدر ذلك يكون اتحادنا بالله.
************** (القديس دوروثيئوس من غزة - القرن السادس -Sources Chrétiennes, 92; Le Cerf, 1963 )
(1) انظر ثيئوتوكية الجمعة (القطعة الثالثة)، التسبحة المقدسة: ”هو أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس، وجعلنا واحداً معه من قِبَل صلاحه“.
(2) عظات القديس مقاريوس الكبير - 5: 13.