عظة آبائية |
|
|
ثانياًً: جسد القيامة (تابع)
+ «هكذا أيضاً قيامة الأموات: يُزرع في فساد، ويُقام في عدم فساد... يُزرع جسماُ حيوانياً، ويُقام جسماً روحانياً... وكما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي» (1كو 15: 42-49).
”إن لحماً ودماً لا يقدران
أن يرثا ملكوت الله“:
يقول البعض: ”لو كان الجسد سوف يقوم ثانيةً لكان ممكناً أن يرث ملكوت الله“. ولكن الرسول يقول بوضوح: «إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1كو 15: 50). والإنجيل يقول: «والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا» (يو 1: 14)، أي أنه أخذ جسداً حقيقياً من جسد العذراء الحقيقي. هذا الجسد الحقيقي مات ودُفن ثم قام ، والجروح تشهد لذلك، وقد رآها التلاميذ حتى لا يشكُّوا، إذ قال لهم: «جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي» (لو 24: 39).
ومع ذلك كيف يقول الرسول: ”إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله“؟
وللإجابة نقول: أولاً: ليس من طبيعة الجسد أن يملك بل أن يُمتَلَك، لأن نفسك هي التي تملك جسدك، وهي تملك أي شيء بواسطة جسدك، كما أن الجسد يُقام ولا يقوم بنفسه، فما العجب، إذن، في أن اللحم والدم لن يرثا ملكوت الله؟ أما الجسد فيمكنه أن يرث ملكوت الشيطان، أي ما يخضع لرغباته. ولذلك حُمل المفلوج على فراش ولكنه عندما شُفى قال له الرب: «قُم واحملْ سريرك واذهب إلى بيتك» (مر 2: 11)، فلما شُفي أمكنه أن يمتلك جسده ويحمله ويقوده حيثما شاء.
فواضحٌ، إذن، أن الجسد بعد القيامة لن يعاني من جذب الإغراءات ولا يستطيع أن يقود النفس بواسطة مثيرات معينة لا تريدها، والتي كثيراً ما غُلبت بواسطتها قائلة: «أرى ناموساً آخر في أعضائي يُحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي» (رو 7: 23). إن المفلوج لا زال يُحمَل على فراشه ولم يَصِر هو الحامل لفراشه بعد، لذلك فهو يصرخ: «ويحي أنا الإنسان الشقي! مَن يُنقذني من جسد هذا الموت» (رو 7: 24)! والإجابة هي: ”نعمة الله بالمسيح يسوع ربنا“! عندما نقوم فلن يحملنا الجسد، بل نحن الذين سنحمل الجسد، أي أننا نمتلكه وليس هو الذي يمتلكنا، لأننا ما دمنا قد أُنقذنا من الشيطان فقد صرنا نحن ملكوت الله، وهكذا فإنَّ «لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله».
ثانياً: إن البشر الذين يُدعون ”لحماً ودماً“، إن لم يتجهوا نحو الحياة الروحية وبالروح يُميتون أعمال الجسد، فلن يمكنهم أن يرثوا ملكوت الله: «إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون» (رو 8: 13).
ثالثاً: لنقرأ قول بولس الرسول كاملاً: «الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني الرب من السماء. كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضاً صورة السماوي. فأقول هذا، أيها الإخوة، إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1كو 15: 47-50).
«كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً»، أي أن الجميع سيموتون مثل آدم الإنسان الأول. و«كما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً»، أي أن السماويين سيقومون كلهم مرةً أخرى، لأن الإنسان الثاني - السماوي - قام فعلاً وصعد إلى السماء، ذاك الذي التصقنا به بالإيمان في جسد واحد لأنه هو رأسنا. فالأعضاء حسب طبيعتها ستتبع الرأس، وما سبق حدوثه في الرأس سيُعاد حدوثه في الأعضاء في الوقت المناسب. فلنحمل هذا الجسد الكُلِّي الآن بالإيمان حتى نأتي في وقته إلى الحقيقة والرؤية، لأنه هكذا يقول: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض» (كو 3: 2،1).
ورغم أننا لم نَقُم بعد بجسدنا كما قام المسيح بجسده، ولكننا قمنا مع المسيح بالإيمان. وهكذا هو يأمرنا في هذه الحياة الحاضرة أن نحمل بالإيمان ”صورة السماوي“ أي صورة الرب الذي هو الآن في السماء.
ولماذا لم يَقُل الرسول إن الإنسان الثاني هو في السماء، بل قال: «من السماء» طالما أن الرب أخذ جسده أيضاً من الأرض، لأن مريم العذراء جاءت من نسل آدم وحواء؟ ذلك لأن الإنسان الترابي سُمِّي هكذا بسبب الشهوة الترابية، وفي حين أن هذه الشهوة أرضية، تلك التي يولد بها البشر من رجل وامرأة حيث يرثون أيضاً الميل إلى الخطية، فإن جسد الرب قد كُوِّن في الرحم البتولي بدون هذه الشهوة، مع أن المسيح أخذ جسده من الأرض تماماً، كما قال الروح القدس قديماً: «الحق من الأرض ينبت» (مز 85: 11). ومع ذلك فلم يُقَل إنه إنسان أرضي بل سماوي و«من السماء»، لأنه إذا كان قد أعطانا ذلك بالنعمة نحن مؤمنيه حتى أنه كما يقول الرسول: «سيرتنا نحن هي في السموات» (في 3: 20)؛ فكم بالأكثر ينبغي أن يُدعَى هو سماوي ذاك الذي لم تكن فيه أية خطية؟
إنه بسبب الخطية قيل للإنسان: «أنت تراب وإلى التراب تعود» (تك 3: 19)، وهكذا بالحقيقة هذا الإنسان السماوي الذي لم يُفارق السماء قيل إنه «من السماء». ابن الله صار أيضاً ابن إنسان، لأنه رغم أن آخرين (مثل إيليا) رُفعوا بالنعمة، ولكنه هو وحده الذي صعد وهم قد صاروا جسده، كما يشرح الرسول أنه يوجد سرٌّ عظيمٌ في المسيح والكنيسة اللذين كُتب عنهما: «ويكون الاثنان جسداً واحداً» (أف 5: 32،31).
وقال الرب عن ذلك أيضاً: «إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد» (مت 19: 6)، وهذا هو السبب، إذن، في أنه «ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 3: 13)، حتى نعرف أن سيرته لم تُفارِق السماء عندما ظهر بين الناس على الأرض في جسد بشري.
وهكذا ”كما لبسنا صورة الترابي فلنلبس أيضاً صورة ذاك الذي من السماء“، هذه الصورة التي سنقوم معه فيها، وهكذا نرفع قلوبنا إلى فوق «حيث المسيح جالسٌ عن يمين الله». وهكذا فلنطلب ما فوق لا الأمور التي على الأرض.
”سنلبس صورة السماوي“:
«ولكن يقول قائل: كيف يُقام الأموات، وبأي جسد يأتون؟» (1كو 15: 35)، ويُجيب القديس بولس عن ذلك بقوله: «سنلبس أيضاً صورة السماوي... وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً» (1كو 15: 49،48)، «الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في 3: 21). إذن، فسيحدث لأجسادنا ما حدث لجسد المسيح، ولأن هذا لم يحدث بعد أمامنا فلنتمسك به بالإيمان. فعندما يقول: «إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله»، فهو يقصد اللحم والدم في حالة فسادهما اللذين لن يوجدا حينئذ.
الصدُّوقيون - الذين يقولون لا توجد قيامة – سألوا المسيح بخصوص المرأة التي تزوجها سبعة إخوة قائلين: «ففي القيامة لمَن من السبعة تكون زوجة؟ فأجاب يسوع وقال لهم: تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله، لأنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء» (مت 22: 23-30). إذن، فنحن بعد القيامة لن نسلك كما نسلك الآن بالجسد. ولأن اليهود ظنوا أن الحياة المقبلة ستكون مثل الحياة على الأرض، فلم يستطيعوا أن يُجيبوا على الصدوقيين بخصوص زوجة السبعة الإخوة، لأنهم ظنوا أن اللحم والدم سيرثان ملكوت الله. فطالما أن الإنسان بعد القيامة لن يموت مرةً أخرى فهو لن يحتاج إلى مَن يخلفه، ولذلك فهو لن يحتاج إلى زواج.
كلنا سنتغيَّر:
ثم إن الرسول يقول: «هوذا سرٌّ أقوله لكم: لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغيَّر» (1كو 15: 51)، نتغيَّر إلى أسوأ أم إلى أفضل؟ إن الكل سيقومون: الصالحون والطالحون، ولكنه يكمل قائلاً: «في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيُبوَّق فيُقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغيَّر» (1كو 15: 52). فالتغيُّر من الطفولة إلى المراهقة يمكن اعتباره تغييراً إلى الأفضل، فرغم أنه صار أقل ضعفاً إلاَّ أنه لا زال ضعيفاً وقابلاً الموت. «في لحظة» أي بسرعة، وليس كما حُبِل به حتى وُلد ثم نما في عدة سنوات.
إن قيامة جميع الأموات سوف لا تستغرق إلاَّ لحظة من الزمن أو طرفة عين. فعند البوق الأخير نقوم نحن المؤمنين مع آبائنا السابقين إلى حياة أبدية، ونتغيَّر في تلك اللحظة في مخافة الله وقداسته إلى ما هو أفضل. ولكن ما هي طبيعة هذا التغيير؟ يُجيب قائلاً: «هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت» (1كو 15: 53). وبذلك فإن اللحم والدم بعد التغيير لن يُنسَب إليهما الفساد؛ بل ولن يُسمَّيان لحماً ودماً اللذين هما من مُسمَّيات الأشياء المائتة، وبذلك تتحقَّق الآية: «إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله». أما الذين سيكونون أحياء في لحظة القيامة والتغيير هذه، فإنهم سيتغيَّرون فقط، والرسول يقصد هؤلاء بقوله: «لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغيَّر».
ثم يقول الرسول: «ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد, ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ابتُلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا موت» (1كو 15: 55،54 – حسب الأصل اليوناني). والآن، بعد التغيير، لم يَعُد الجسد يُسمَّى ”لحماً ودماً“، بل يمكن تسميته بالحري ”جسداً خالداً“. والرسول يقول عنه: «أجسام سماوية وأجسام أرضية، لكن مجد السماويات شيء، ومجد الأرضيات آخر... هكذا أيضاً قيامة الأموات، يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في هوان ويُقام في مجد، يُزرع في ضعف ويُقام في قوة، يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً، يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني» (1كو 15: 40-44). إنه يتكلَّم عن الأجساد السماوية، أما ”اللحم والدم“ فلا يُطلقان إلاَّ على الأجسام الأرضية، لأن كل لحم هو جسد، ولكن ليس كل جسد لحماً، لأن الجسد السماوي ليس هو وحده الذي لا يُسمَّي لحماً، بل أيضاً بعض الأجسام الأرضية مثل الخشب والحجر وغيرهما. إذن، فاللحم والدم اللذان سيقومان من الموت سيتغيَّران إلى جسد بلا فساد عديم الموت.
قيامتان:
ولكن كان في أيام بولس الرسول قومٌ زاغوا عن الحق كما يقول هو: «قائلين إن القيامة قد صارت فيقلبان إيمان قوم» (2تي 2: 18) بحجة قول الرسول: «لسنا نريد أن نخلعها، بل أن نلبس فوقها، لكي يُبتَلَع المائت من الحياة» (2كو 5: 4)، وهم في الواقع يعترفون بالقيامة الأولى (الروحية بالإيمان) وينكرون الثانية التي بالجسد. ولكن ينبغي أن نتنبَّه إلى أنه وإن كان إيمان الإنسان المسيحي يتبعه قيامة بالروح (مع المسيح)، ولكن لابد لهذا الذي قام بالروح أن يقوم أيضاً بالجسد «إلى قيامة الحياة». أما الذي لم يَقُم بالروح فسيقوم أيضاً ولكن «إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 29) التي كُتب عنها أن «دودهم لا يموت، والنار لا تُطفأ» (مر 9: 44)، حيث يشير الدود إلى الفساد، والنار إلى الألم.
التغيير الذي لن يعتريه فساد سوف يكون للقديسين الذين يختبرون الآن القيامة في الروح بالإيمان، هذه القيامة التي يقول عنها الرسول: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالسٌ عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض، لأنكم قد متُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله» (كو 3: 1-3).
وكما نموت نحن بالمفهوم الروحي (مع المسيح) ونقوم بالروح (معه)؛ هكذا فإننا سنموت بالجسد ونقوم مرةً ثانية بالجسد. أن نموت بالمفهوم الروحي هو ألاَّ نؤمن بالأشياء الباطلة التي آمنَّا بها سابقاً، وألاَّ نفعل الشر الذي فعلناه سابقاً؛ وأن نقوم مرةً ثانية حسب الروح هو أن نؤمن بالأمور النافعة التي لم نكن نؤمن بها سابقاً، ونفعل الصالحات التي لم نعتَد على فعلها.
ولذلك يقول بولس الرسول: «أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديئة، الطمع الذي هو عبادة الأوثان» (كو 3: 5). فكما أن الموت حسب الروح يسبق القيامة في الروح؛ هكذا الموت بالجسد يسبق القيامة بالجسد.
لقد تعلَّمنا من الإنجيل عن القيامتين: فعن القيامة الروحية قال الرسول: «استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات» (أف 5: 14). وقال إشعياء النبي: «الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (إش 9: 2)، وأيضاً الآية التي ذكرناها: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح...». وعن القيامة بالجسد يقول الرسول متسائلاً: «كيف يُقام الأموات؟ وبأي جسم يأتون؟» (1كو 15: 35)، إنه يتكلَّم عن قيامة الجسد التي سبق فيها المسيح كنيسته، وقال عنها القديس بولس أيضاً: «هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت» (1كو 15: 53)، وذلك لأن «لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله».
**************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون