إسخاتولوجية الكنيسة( 1)

للأب متى المسكين

الكنيسة يوم أخذت الروح القدس باندفاق غامر من السماء على الرسل المجتمعين بالصلاة والصوم، وسكن الروح فيها إلى الملء، صارت في الحال أُخروية؛ بمعنى أنها صارت متَّجهة نحو الله ومرتبطة به، تحيا مستقبلها لتستقر بالروح في الحياة الأبدية.
وامتلاؤها بالروح القدس أعطاها طبيعة جديدة روحانية، فصارت بطبيعتها تعيش في العالم تحت قوانينه الزمانية والمكانية، متأثـِّرة بمؤثـِّراته التي يتحكَّم فيها الإنسان بميوله ونزعاته وسطوته وانحرافاته؛ ولكن، بآنٍ واحد، امتلكت روحانية مفتوحة على الله، مستهدَفة لتدبير مشيئة الله التي تتحكَّم فيها وتقودها، لتكميل مقاصده الأزلية من نحو خلاص البشرية وعودتها إلى الله بحال التبنِّي لخدمته والوقوف أمامه كقدِّيسين وبلا لوم في المحبة، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب ابنه الوحيد (انظر أف 4:1-6).

حينما اقتبلت الكنيسة الروح القدس بحسب وعد المسيح، أدركت أنها دخلت في الاختيار الإلهي بمقتضى المشورة الأزلية، لتبدأ مهمتها السرية كجماعة متَّحدة أو جسم واحد ممسوك بالروح، يعيش باتجاه الله، منجذباً إليه ومنتمياً إلى الحياة الأخرى.

لذلك قيل إن الكنيسة صارت لها حياة إسخاتولوجية، أي انتقل هدفها الذي تحياه من حياة للعالم في العالم إلى حياة بالروح للعالم الآخر؛ بمعنى الحياة الأبدية مع الله للخلود وليس على مستوى الزمن.

فقولنا إن الكنيسة بقبولها الروح القدس أصبح لها طبيعة أُخروية، يعني أنه أصبح هدفها وأعمالها واهتماماتها متجهاً إلى فوق وليس نحو العالم والزمن، لا ترجو شيئاً على الأرض، بل ارتبط رجاؤها بالحياة الأبدية مع الله؛ وبالتالي أصبح نموها يُقاس، لا بمقدار ما تُحصِّله على الأرض من قوة ومال وسلطان وعلم واتساع في العالم، بل بما تُحصِّله من علاقة مع الله واستعلان أسرار ملكوته وشركة في الحياة الأبدية. لأن الله منح الكنيسة الروح القدس لكي تتحوَّل بالروح من حياة حسب الجسد والأرض والعالم، إلى حياة حسب الروح والله والحياة الأبدية.

لذلك يُحسب الروح القدس فيها أنه عنصر الإسخاتولوجية الأساسي الذي يمتد بالكنيسة نحو الله والحياة الأبدية.

لذلك، فالكنيسة، وإن كانت تحتفظ بخبرات الروح فيما مضى من الزمان، إلاَّ أنها لا تنظر إلى الماضي. فالنظر إلى الماضي بالنسبة لها خطر يُعرقل مسيرتها إلى الأمام، لأن القوة الروحية التي حازتها من الروح القدس دائمة الحركة نحو الآتي، متدافعة إلى الأمام بانتظار الآتي الذي ترجوه بفارغ الصبر، لأنه يحمل لها كمالها وإكليلها - بآنٍ - واستعلان نصيبها في المجد مع عريسها.

كذلك فهي تنتقل بحاضرها دائماً إلى المستقبل، فلا ترتبك بيومها، لأن عينيها إلى فوق دائماً، لا ترى الحاضر إلاَّ عبوراً إلى المستقبل الذي تعيشه كخيمة الاجتماع التي كانت تُدَقُّ أوتادُها كل يوم في الأرض بما يسمح أن تخلعه في الغد، وتطوي الأيام خلفها ولكن لا يطويها الزمن، وآثارها خلفها تمحوها الريح ولا يبقى منها إلاَّ ذكرى حضور الرب وعبادة وتسبيح سجلتها السماء واحتفظ بها الوعي. فالكنيسة جديدة كل يوم بمسحة الروح وحضرة الرب وتسابيح كل صباح، مع أن هذه الألفي سنة خطَّت على جبينها خطوطاً بعدد السنين والأيام.

والكنيسة لا يستهويها ارتفاع قبابها وعلو مناراتها ولا جمال مخارجها وزينة مداخلها، فقد احتفظت بصورة جدَّتها: جلود تخس وشعر ماعز، وافتخارها الوحيد هو بـ ”يهوه“ الذي كان يحلُّ فيها، فيجعلها أبهى من السماء، وأقدس ما على الأرض. هذا ميراثها الذي حفظته، فسعيها الأُخروي نحو السماء جعل عندها كل أمجاد الدنيا وزينتها عدماً وخسارة، وأفخر ما فيها محتقراً ونفاية. لقد باعت كل شيء واشترت الكنز، واستحسنت جهالة الصليب فوق كل حكمة وعلم.

فرسالة الكنيسة هي أن تستعلن صفتها الأُخروية في العالم، أنها ليست من هذا العالم ولا لهذا العالم تعيش؛ بل هي رسالة الله لأهل هذا الدهر، لا تطلب ما لنفسها بل تعطي ذاتها لكل مَنْ يطلب. بالإهانة يُكال لها، وهي بالحب والبذل تكيل. مهما أظلمت الدنيا حولها فنورها ما يزال في العالم يُضيء. فمصباحها الذي أشعله الروح القدس يوم الخمسين أُعطِيَ لها ليظل يُضيء للسائرين على درب الرب إلى أن يجيء، وللذين دعاهم المسيح أيضاً تقودهم من الظلمة إلى نوره العجيب.

والكنيسة تستمد من أُخرويتها قوتها وسيرتها وقداستها. فبقدر ما تحارِب عالم الخطية تتودَّد إلى عالم الخطاة، وبقدر ما تبغض الخطية تحب الخطاة. غريبة كل الغربة عن عالم الخطية وقريبة كل القُرْبَى من عالم الخطاة، كعريسها الذي كان يلذُّ له أن يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة. فالخطاة في نظر الكنيسة مرضى، وقد استودع المسيح فيها سر الشفاء، وحباها بدواء الخلود وترياق عدم الموت!

وإنْ كانت الكنيسة تستمد حياتها من أُخرويتها فهي فوق هموم وأمراض وأوجاع هذه الحياة تعيش. فالذين في هذا العالم، يعيشون حياة هذا العالم؛ ولكن هي تعيش الحياة الأخرى!! لهذا ولدها الله يوم الخمسين، وأرسلها عَبْرَ العالم وكل الدهور، تحمل حياة من عنده، بل حياته، بكل عبيق حبه ولطفه وحنوه وقداسته.

فعندما نقول إن الكنيسة أُخروية هي، فكأنها من عند الله: «وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله» (رؤ 10:21)، جاءت أو صُوِّرت بيديه لتحمل صورة قوته وحبِّه وقداسته، وتجول كعريسها توزِّع حبه على غير المحبوبين وقداسته على الخطاة والمذنبين، وكما أخذت مجاناً تُعطي بلا فضة وبلا ثمن.

ويوم أخذت الكنيسة مؤهَّلاتها بالروح لتصير أُخروية، خلعت رداءها الأرضي المنظور من حجارة منحوتة، وارتدت رداءها السماوي؛ فبَدَت للعيون المفتوحة أعضاء بلا عدد أحياء في جسد المسيح متركِّبة ومرتفقة بالنعمة وملتصقة بالروح معاً، وأساسها رسل يكرزون وأنبياء يبشرون، والمسيح نفسه رأسها قائم فيها كزاوية عظمى يحيط الكل بذراعيه ويضمُّهم إليه، ويُغذِّيهم سرّاً من لحمه ويسقيهم من دمه؛ فصاروا واحداً فيه، لهم شكله على شبهه ومثاله في القداسة والمجد، وصلحت مع الأيام أن تكون له عروساً. فقد خلقها الله من جنبه ونفخ فيها من روحه ودفعها له لتنجب له بنين وبنات يملأون الأرض والسماء.

وكما يلتصق الرجل بالمرأة ويصيران جسداً واحداً، التصق المسيح بالكنيسة وصار معها جسداً واحداً الذي هو نحن. أما اكتمال زفافهما، ففي يوم الباروسيَّا العظيم (المجيء الثاني)، حيث يُستعلن سر التحام البشرية معاً في المسيح كإنسان واحد كامل له قامة ملء المسيح في البنوَّة والمجد، لتأخذ مكانها أمام الآب السماوي وتسبِّحه تسبحة الغلبة والخلاص.

ولا يستغربن أحد أن الكنيسة الأولى يوم الخمسين وُلدت في ملء ”الابتهاج“: «وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفسٍ واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز (الإفخارستيا) في البيوت، كانوا يتناولون الطعام ”بابتهاج“ وبساطة قلب» (أع 46:2). فهذه سمة الحياة الأُخروية التي مُنحت للكنيسة لتمنحها لكل مَنْ وُلد لها: «افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا» (في 4:4). لأن الكتاب يقول إنَّ: «فرح الرب هو قوتكم» (نح 10:8).

فالكنيسة تُعبِّر عن أُخرويتها بتسبيحها وترنيمها وفرحها وبهجتها، لأن هذه هي سمة الحياة الأخرى التي يعطيها الروح القدس.

ومن سمة حياة الإسخاتولوجيا في الكنيسة: السهر. فلأن الكنيسة تعيش اسخاتولوجيتها، فهي تعيش على حافة الحياة الأخرى، حيث انتظار مجيء عريسها تعيشه كل لحظة.

فالكنيسة هي كنيسة الخمس العذارى الحكيمات قد أعدَّت زيتها في أوانيها، وإنْ نامت فقلبها مستيقظ (نش 2:5). أي أنها تعيش ساهرة تترقب مجيء عريسها. هذا يعني أن الكنيسة، أي نحن، نعيش وقلبنا مرتبط بما فوق كقول القديس بولس: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح جالس» (كو 1:3). وحياة القيامة هي قمة الإسخاتولوجيا، هي ”الرب قريب“. وأقصى الدعاء عندها: ”تعالَ أيها الرب يسوع، وليزول العالم“.

والكنيسة التي أتقنت سهرها بالروح، وهي تنعم بإسخاتولوجيتها، لا تعود تقلق على ميعاد مجيء عريسها، فهي تترقَّبه وتُناديه ولكن لا تشعر أنها محرومة منه. فمن صميم حياة الإسخاتولوجيا الإحساس بقرب الرب، الذي يشعل القلب ناراً لا يحتمل المزيد.

فالكنيسة التي تعيش الاستعلان (الباروسيَّا) لا تعود تطلب المسيح، فهو قائم في قلبها وتحيا به! لذلك فساعة الإسخاتولوجيا حاضرة عندها، تستيقظ عليها كل صباح، وعلى دقَّاتها تنام الليل، ولم يَعُدْ يتبقَّى عندها إلاَّ صراخ: ”هوذا العريس قد أقبل“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis