دراسة كتابية |
|
|
l تناول الجزء الأول من هذا المقال (عدد سبتمبر 2009، ص 27) بدايات دخول الذبيحة إلى حياة البشر تعبيراً عن شكرهم لله أو توسُّلاً من أجل الغفران، وكيف ضاع الهدف وتحوَّل تقديم الذبيحة إلى ممارسة آلية رفضها الله، وأعلن أنــه ”يريد رحمة لا ذبيحة“، وهو ما نادى به مخلِّصنا أيام جسده، رافضاً العبادة الشكلية، ومواجهاً انتقادات الفرِّيسيين الحرفيين له على جلوسه مع الخطاة وإجراء المعجزات في السبت، وكيف اتسع معنى الذبيحة في العهد الجديد شكراً وعبادةً وتسبيحاً وخدمةً، بل صار المؤمن نفسه ذبيحة حبّاً.
خامساً: تطبيقات على مبدأ ”رحمة لا ذبيحة“:
1 - الله يضع الرحمة قبل الذبيحة، لأنه في الأساس يريد الرحمة (القلب) لا الذبيحة (التقدمة)، أو أن تكون الذبيحة تعبيراً عن الرحمة والحب والتقوى، وبالتالي فهو يرفض الذبيحة بدون الرحمة.
الذبيحة كانت تُقدَّم ككفَّارة عن الخطية لطلب الغفران. ولكن كان يلزم معها وقبلها وأهم منها الرحمة والمشاعر القلبية (التوبة والندم والتأسُّف). الرحمة تحتوي المحبة: محبة الله وتوقيره، ومحبة القريب (كل البشر، حتى الأعداء)، والإحسان للمسكين واليتيم والغريب والضيف، والشفقة على المنحرفين وعدم إدانتهم وتقديم العون لهم لإنقاذهم، والإيمان أي أن الله يصير الكل في الكل، الأول والآخِر، غاية كل عمل وخدمة ووسيلتهما، فبدونه لن نقدر أن نفعل شيئاً (يو 15: 5).
2 - العلاقة بين الرحمة والذبيحة، كالعلاقة بين الإيمان والأعمال في أحد جوانبها. فإذا كانت الذبيحة رمزاً للأعمال (المفترض أن تنبع من إيمانٍ حيٍّ مُثمر)، تكون الرحمة رمزاً لهذا الإيمان الذي يطلبه الله قبل الأعمال. فالإيمان هو الأساس، والأعمال بغير إيمان لا شيء. فكأن الله وهو يقول: «إني أُريد رحمة لا ذبيحة»، يعني: إني أُريد إيماناً عاملاً لا أعمالاً بغير إيمان، أو أُريد أعمالاً تبرهن على إيمان حي، أو ذبيحة صلاة أو شُكر، أو فعلاً للخير، أو توبة تكشف عن محبة الله وانسكاب أمامه وندم عن الشر ومحبة للقريب كالنفس.
3 - يمكن النظر إلى الرحمة على أنها رمز لِمَا هو روحي، والذبيحة - في حدِّ ذاتها - رمز لِمَا هو جسدي مادي، والتي تستمد قيمتها من الروح التي تُقدَّم بها: المحبة الشاملة والتوبة والندم والخشوع والاتضاع. «الروح هو الذي يُحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً» (يو 6: 63)، فما هو روحي يمكن أن يقف وحده؛ ولكن ما هو جسدي لا يقدر أن يقف وحده، ولكن يستمد قيمته وفاعليته بالتحامه بالروح. بالتالي، فالرحمة يمكن أن تُقبل بغير ذبيحة، ولكن الذبيحة تتطلَّب الرحمة والسلوك بالإيمان لتحوز القبول.
4 - كما يمكن النظر أيضاً إلى الرحمة على أنها رمز للكَيف، والذبيحة رمز للكم. الكم لا يهم إلاَّ لو كان مستنداً إلى فعل روحي حقيقي. الرب، الذي كان يجلس تجاه الخزانة ناظراً «كيف يُلقي الجمع نحاساً في الخزانة» (مر 12: 41)، قال إن ما ألقته ”الأرملة الفقيرة“ في الخزانة (وكان فلسَيْن) هو «أكثر من الجميع»، لأنها ألقت من إعوازها «كل ما عندها، كل معيشتها»؛ أما الأغنياء فمن فضلتهم ألقوا في قرابين الله (مر 12: 41-44؛ لو 21: 1-4). فحُب الأرملة لله كان عظيماً، وثقله أعطى وزناً كبيراً للقليل الذي أعطته فقد كان كل ما عندها. عطاء الأغنياء سهل لأنهم يملكون الكثير، ورغم أن عطاءهم كان كبيراً بالمقارنة، ولكن كان يتطلَّب الاتضاع والإيمان والحب وحياة التقوى لتصير له قيمة أمام الله.
سادساً: الرحمة والذبيحة في حياة المؤمنين:
1 - الله يُندِّد بالعبادة الشكلية الآلية
وانقسام القلب:
في إدانته للرياء والسطحية وعبادة الشفاه، يقول الرب عن إسرائيل ولهم: «(يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيه) هذا الشعب يُكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً» (إش 29: 13؛ مت 15: 8؛ مر 7: 6)، «لماذا تدعونني: يا ربُّ يا ربُّ، وأنتم لا تفعلون ما أقوله» (لو 6: 46). فعين الله على القلب: «الإنسان ينظر إلى العينين، أما الرب فإنه ينظر إلى القلب» (1صم 16: 7).
ومكتوب أن محبة الله ومحبة القريب «أفضل من جميع المحرقات والذبائح» (مر 12: 34)، وبدون شركة القلب، أي الإيمان وطاعة الوصية والانسكاب قدَّام الله والتحرُّر من البغضة؛ لا يصير للكلام - وسائر ألوان العبادة والعطايا - فائدة، فالكلمات لا تصعد إلى فوق، والتقدمات تُرفض «ذبيحة الأشرار مكرهة الرب... مَن يُحوِّل أُذنه عن سماع الشريعة، فصلاته أيضاً مكرهة» (أم 15: 8؛ 28: 9).
ومن هنا كان توجيه الرب: «فإن قدَّمتَ قُربانك قدَّام المذبح، وهناك تذكَّرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قُدَّام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعالَ وقدِّم قربانك» (مت 5: 24،23). فالمصالحة مع الآخر وصُنع السلام تسبق تقديم القربان.
والكتاب يؤكِّد أيضاً على عُقم ازدواج الحياة ومحاولة إرضاء الأضداد: «لا يقدر أحد أن يخدم سيِّدين. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (مت 6: 24)، «أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأيُّ اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأيُّ نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟» (2كو 6: 14-16)
2 - «المحبة فلتكن بلا رياء» (رو 12: 9):
يُلزمنا هذا القانون الإلهي ألاَّ نكتفي في علاقاتنا مع الإخوة والأصدقاء والغرباء بمجرد الابتسامات المرسومة، والمجاملات السطحية، وتبادل الهدايا والموائد أداءً للواجب؛ وإنما تقديم محبة قلبية حقيقية خالية من التصنُّع، ومشاركة في السرَّاء (ما يسرُّ) والضرَّاء (ما يضرُّ)، محبة قادرة على الاعتذار والتأسُّف من ناحية، والاحتمال والتسامح من ناحية أخرى «تحب قريبك كنفسك» (لا 19: 8؛ مت 22: 39؛ مر 12: 31؛ لو 10: 27؛ رو 13: 9؛ غل 5: 14؛ يع 2: 8). فالمحبة مسئولية وتعب (عب 6: 10)، وعطاء وبذل (يو 3: 16)، وخدمة. والرب يحثُّنا على المحبة المتجرِّدة التي تُعطي دون انتظار المقابل أو المكافأة، متشبهين بأبينا السماوي الذي يفيض بخيره على الجميع:
+ «بل إذا صنعتَ ضيافة فادْعُ المساكين: الجُدْع، العُرْج، العُمْي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يُكَافُوك، لأنك تُكَافَى في قيامة الأبرار» (لو 14: 14).
+ «وإن أحببتم الذين يُحبُّونكم، فأيُّ فضل لكم؟ فإنَّ الخطاة أيضاً يُحبُّون الذين يُحبُّونهم. وإذا أحسنتم إلى الذين يُحسنون إليكم، فأيُّ فضل لكم؟ فإن الخطاة يفعلون هكذا. وإن أقرضتم الذين تَرْجُون أن تستردوا منهم، فأيُّ فضل لكم؟ فإنَّ الخطاة أيضاً يُقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المِثل. بل أحبُّوا أعداءكم، وأحسنوا وأنتم لا تَرْجُون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العَليِّ، فإنه مُنعِمٌ على غير الشاكرين والأشرار» (لو 6: 32-35).
ولكل مَن يُدرك صعوبة المحبة، تنبِّهه كلمة الله أنها بالفعل ليست جهداً بشرياً خالصاً، وإنما هي هبة من هبات النعمة: «أما ثمر الروح فهو محبة...» (غل 5: 22)، هي مِن ثمَّ ينبغي أن تُطلب من فوق.
3 - الرحمة للجميع:
ردّاً على سؤال عمَّن هو القريب، سرد الرب لنا مَثَل السامري الصالح (لو 10: 25-37) الذي يحكي أن سامرياً صادف في طريقه إنساناً تعرَّض لاعتداء اللصوص الذين تركوه بين الحياة والموت. ورغم أن الجريح كان يهودياً لا يتعامل مع السامريين، فإنَّ السامري لم يعبأ بالفوارق وتوقَّف وتقدَّم إليه وضمد جراحاته وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق، وبَقِيَ معه حتى الصباح، وطلب من صاحب الفندق الاعتناء به تاركاً له النفقات مُقدَّماً، مُبدياً التزامه بتسديد ما يزيد من نفقات عند عودته.
قبل مجيء السامري كان قد مرَّ على اليهودي الجريح كاهن ولاوي، ولكنهما نظرا إليه فقط ولم يتوقَّفا عنده وواصلا طريقهما. وقصد الرب أن السامري الغريب هو الذي صار قريباً لليهودي وعبَّر له عن محبته حسب الوصية، بينما لم يهتم به الكاهن واللاوي ولم يعتبراه قريبهما رغم أنهما من بني جنسه.
والمغزى أن قريبي الذي ينبغي أن أحبه كنفسي ليس فقط قريبي بالجسد ولكن قريبي بالجوار أو المكان، أو كل محتاج تضعه النعمة في طريقي. فالمَثَل إذا كـان قد أزال عقبة الجنس أو العِرق، فتطبيقه يقتضي أن تزول سائر الفوارق بيني وبين الآخر: جنساً وديناً ولوناً، ويصير كل مَن يحتاج إليَّ من كل البشر «أخي وأختي وأُمي» (مت 12: 50)، كما اعتبر الرب كل المحتاجين ”إخوته الأصاغر“ (مت 25: 45،40)، وهو يقول لكل منَّا: «اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا» (لو 10: 37).
فالذبيحة كانت هنا أداء الخدمة الدينية بصورة روتينية ضيِّقة، أما الرحمة فكانت تجاوز الأُطر والأعراف إلى حيث تدعوك الخدمة. فإنقاذ اليهودي الجريح كان بالفعل يدخل ضمن خدمة الكاهن واللاوي، ولكنهما حدَّدا لخدمتهما إطاراً لم يتجاوزاه بقلب بارد. وعلى حبِّنا، إذاً، أن يتسع للكل، منطلقين من محدودية الذبيحة وحساباتها إلى رحاب الرحمة وغناها.
4 - في العلاقات الاجتماعية:
? المحبة القلبية (”بالعمل والحق“ - 1يو 3: 18) أعظم عطية. والتراحم والمودة تُفرح القلب أكثر من الحفلات التي تتصافح فيها الأيدي دون القلوب، والهدايا التي تؤدَّى كواجب أو ردّاً لمجاملة سابقة.
? وفي الحياة العائلية، فإن الزوجة تريد من زوجها محبته واحترامه ومشاركته وأمانته قبل وأهم من هداياه وماله؛ والزوج يريد من زوجته قلبها واهتمامها واحترامها وتسامحها قبل خدمتها ومائدتها الحافلة. وكلاهما ينشد الحب والسلام مع لقمة يابسة خير من أن يمتلئ البيت بالخير ويُفسده الخصام (أم 17: 1).
? والأولاد يريدون من والديهم محبتهما ورعايتهما قبل المال والأشياء والميراث؛ والوالدان يريدان من أولادهما حبهم والتزامهم وطاعتهم في الرب واحتمالهم (خاصة عند الشيخوخة) قبل هداياهم ومجاملاتهم الشكلية.
? وفي الحياة الكنسية، يطلب الشعب من راعيه تقواه ومحبته وصلاته وافتقاده لهم خاصة وقت الآلام قبل بطاقات المعايدة ومراسلات الكنيسة. والراعي من ناحيته يطلب من شعبه الصلاة من أجله ومؤازرته في خدمته وتقديم النصيحة المُخلصة له قبل المجاملات الاجتماعية وحفلات التكريم.
الله يقرع أبواب قلوبنا قائلاً: «إني أُريد رحمة لا ذبيحة»، رافضاً الممارسات الشكلية وعبادة الشفاه والحَرْف وذبائح الرياء الكاذبة التي تهين قداسته وتستخف بمعرفته كفاحص القلوب والكُلَى، وطالباً أن تكون نفوسنا وأجسادنا ”هياكل للروح“، و”كهنوتاً مقدَّساً لتقديم ذبائح روحية“، شكراً وتسبيحاً وتوبة وعطايا وأعمال رحمة، نابعة من إيمان حي وحُب صادق لله والقريب، فهذه وحدها يشتمَّها الله: «نسيم رائحة طيِّبة، مقبولة مرضية» (في 4: 18).
ومن له أُذنان للسمع فليسمع.
دكتور جميل نجيب سليمان