دراسة الكتاب المقدس |
|
|
الأصحاح العاشر
تجديد العهد مع إسرائيل:
يُعيد موسى النبي على مسامع الشعب ذكريات تجديد عهدهم مع الرب بعد كسره، وذلك بعد أن قَبـِلَ الرب توسُّلات موسى وتشفُّعاته من أجل الشعب، تلك التي قدَّمها موسى مع صومه أربعين يوماً للمرة الثانية، مع تذلُّل شديد وثقة كاملة في مراحم الرب التي لا تحُدُّ، وتذكير الرب بوعوده مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، وبأن هذا الشعب هو شعبه وميراثه الذي فداه وأخرجه من أرض العبودية.
فالله في ذلك الحين، كعظيم رحمته، تراءف على شعبه وقَبـِلَ تجديد العهد معه، وهذا ما يحكيه موسى قائلاً ومُكرِّراً ما جاء في سفر الخروج (الأصحاح 34):
+ «في ذلك الوقت قال لي الرب: انحت لك لوحين من حجر مثل الأوَّلَيْن واصْعَد إليَّ إلى الجبل، واصنع لك تابوتاً من خشب، فأكتُب على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحَيْن الأوَّلَيْن اللذين كسرتهما وتضعهما في التابوت. فصنعتُ تابوتاً من خشب السنط ونحتُّ لوحين من حجر مثل الأوَّلَيْن وصعدتُ إلى الجبل واللوحان في يدي. فكتب على اللوحين مثل الكتابة الأولى الكلمات العشر التي كلَّمكم بها الربُّ في الجبل في وسط النار في يوم الاجتماع، وأعطاني الرب إيَّاها. ثم انصرفتُ ونزلتُ من الجبل ووضعتُ اللوحين في التابوت الذي صنعتُ، فكانا هناك كما أمرني الرب» (10: 1-5).
ويُعلِّق على ذلك القديس أفرآم السرياني، قائلاً:
[قبل أن تعبَّد بنو إسرائيل للعجل، عمل الله لوحين وكتب فيهما بإصبعه، الكلمات العشر، وأعطاهما لموسى شهادة لتجسُّده المزمع أن يكون. فلما خَطِئ بنو إسرائيل وصاروا لا يستحقون تجسُّده منهم، كسر موسى ذينك اللوحين اللذين لم يكونا من الأرض. ولما عاد يسأل الله في الرضا عن الشعب وظهوره منهم متجسِّداً، وقَبـِلَ الله منه ذلك ووعده بالظهور، أمره أن ينحت لوحين من الجبل ويأتي بهما إليه، ويكتب فيهما بإصبعه الكلمات الأولى؛ فإنه فعل ذلك لتثبيت ناسوته الذي فيه يظهر بلاهوته، ليس من السماء، بل من مريم العذراء؛ وجعل كسْر اللوحين الأوَّلين إشارة إلى زوال عهده مع بني إسرائيل. فقد جعل الله زوال عهده معهم نقمة لمعصيتهم، إلاَّ أنه وفَّى بوعده في التجسُّد منهم، لأنه قال: ”من أجل سؤالك يا موسى، أنا أفي بوعدي وأظهر متجسِّداً، ويصير لي من البشر نفس وجسد، كاللوحين المتَّخَذَيْن من الأرض. وحينئذ أرحم مَن أردت أن أرحم، وأتحنن على مَن أردت أن أتحنن“](1).
والملاحظ هنا أنه قد ذكر التابوت الذي أمر الله موسى أن يصنعه ويضع فيه لوحي العهد. وهذه أول مرة يُذكر فيها تابوت العهد في سفر التثنية، ولا يَرِد ذكره بعد ذلك إلاَّ في أصحاح 31 - عدد 26، وذلك في قوله للاَّويين حاملي تابوت عهد الرب: «خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم». ولعل ذلك يدعو إلى الدهشة بسبب الدور الخطير الذي لعبه تابوت العهد في حياة بني إسرائيل. وربما كان السبب في هذا، هو أن التركيز في سفر التثنية كان على العهد ذاته أكثر من الاهتمام بتفاصيل صُنع التابوت التي جاءت في سفر الخروج (25: 10-16)، ثم الطقوس التي صاحبت وضعه في قدس الأقداس في الأصحاحات الأخيرة من سفر الخروج.
ومما تجدر ملاحظته أن وضع اللوحين الجديدين في تابوت العهد كان تعبيراً عن أن العهد باقٍ كما هو، وأن ما حدث كان مجرد تجديد لهذا العهد بعد أن أعلن الرب صَفْحه عن الشعب. فللرب عهد واحد مع شعبه، هو هذا العهد الذي انبثق من تلك الأعمال العظيمة والمقتدرة التي خلَّص بها الله شعبه. وبناءً عليه، فقد أصبحوا تحت التزام الوفاء بمتطلبات هذا العهد. وهو عين العهد الذي أوصاهم به أن يكون مكتوباً على قلوبهم، حينما قال لهم موسى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا ربٌّ واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أُوصيك بها اليوم على قلبك...» (6: 4-6).
ولكن، هل استطاع بنو إسرائيل أن يحفظوا كلمات هذا العهد ويكتبوها على قلوبهم ويسلكوا بموجبها؟ كلاَّ، فإن وصايا الناموس المكتوبة على الألواح الحجرية لم تستطع أن تجبر كسرنا، بل كسرناها بتمادينا في تعدِّياتنا. إلاَّ أن مراحم الله دبَّرت لنا لوحين آخرين من الحجر مثل الأوَّلَيْن، نحتهما موسى بنفسه، الذي كان مثالاً للمسيح، وصعد بهما إلى الله، لكي يكتب الرب عليهما الكلمات التي كانت على اللوحين الأوَّلين، إشارة إلى تجسُّد المسيح الذي أخذ طبيعتنا، وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، ونزل إلينا لكي يُجبر كسرنا بموته وقيامته، ويُجدِّد طبيعتنا التي فسدت بالخطية، ويخلقنا من جديد بطبيعة روحانية، ناقشاً في قلوبنا إرادة ناموس الحرية الكامل «لا بحبر بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية» (2كو 3: 3)، وهكذا «يكون الجميع متعلِّمين من الله» (يو 6: 45).
وهكذا يمكننا بالتأمُّل في لوحَي الشريعة اللذين كُسِرا ثم جدَّد موسى نحتهما، أن نلمح تدبير العناية الإلهية لأجل خلاصنا، بل ونكتشف صدق ما قاله المسيح بأنه ما جاء لينقض الناموس بل ليُكمِّله (مت 5: 17). فاللوحان الأوَّلان اللذان كُسِرا، أعاد موسى - الذي هو مثال للمسيح - نحتهما رمزاً للتجسُّد، وأعاد الله الكتابة عليهما بنفس الكلمات التي كانت على اللوحين الأوَّلين، تحقيقاً لقول المسيح: «الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت 5: 18).
وهكذا، مع بقاء النص كما هو، إلاَّ أنه بتجسُّد المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى السموات، وإرساله الروح القدس ليمكث معنا ويسكن فينا؛ أصبح لهذا العهد مفهوم جديد وفعل أكيد في حياتنا وقلوبنا: «لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكتُ بيدهم لأُخرجهم من أرض مصر، لأنهم لم يثبتوا في عهدي، وأنا أهملتهم يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم، وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. ولا يُعلِّمون كل واحد قريبه، وكل واحد أخاه قائلاً: اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم» (عب 8: 9-11).
موت هارون وفرز سبط لاوي لخدمة الرب:
استمر موسى في سرد الأحداث التي وقعت بعد ذلك حتى موت هارون وإقامة ألعازار ابنه ليكهن عِوَضاً عنه، وقال:
+ «وبنو إسرائيل ارتحلوا من آبار بني يعقان إلى موسير. هناك مات هارون، وهناك دُفِن. فكَهَن ألعازار ابنه عِوَضاً عنه. من هناك ارتحلوا إلى الجدْجُود، ومن الجدجود إلى يُطْبَات أرضِ أنهارِ ماءٍ. في ذلك الوقت أفرز الربُّ سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويُباركوا باسمه إلى هذا اليوم. لأجل ذلك لم يكن للاوي قِسْمٌ ولا نصيبٌ مع إخوته، الربُّ هو نصيبه، كما كلَّمه الربُّ إلهك» (10: 6-9).
هنا يُذكِّرهم موسى بارتحالاتهم بعد سقطتهم العظيمة في حوريب، وهي التي ذُكِرَت بالتفصيل في الأصحاح 33 من سفر العدد، وفي الثلاثة الأصحاحات الأولى من هذا السفر - التثنية. وهو يذكر بعض هذه المحطات لعلاقتها ببعض الأحداث الهامة التي كان يقصد أن يُشير إليها لأهميتها لهم في مسيرتهم نحو الأرض الجديدة، مثل موت هارون، وإقامة ألعازار عِوَضاً عن أبيه، وإفراز سبط لاوي وتخصُّصه لخدمة الرب، حتى أنه قد صار له الرب نصيباً، فلا نصيب له مع إخوته في أرض الموعد.
أما هذه المحطات التي ذكرها فهي:
1. آبار بني يعقان: وهي المذكورة في سفر العدد باسم ”بني يعقان“ (عد 33: 31)، وتكثر بها الآبار. ويُرجَّح أنها المكان الذي يُدعى الآن: ”البئرين“.
2. موسير: وهي مسيروت (عد 33: 30)، وكانت مجاورة لجبل هور. ونلاحظ أن سفر العدد يذكر مسيروت قبل بني يعقان، مما يدلُّ على أن معظم هذه المناطق كانت مجاورة لبعضها البعض. فبينما كان بعض الأسباط يُعسكر في أحد هذه المواقع كان البعض الآخر ينزل في المحطة التي تُجاورها.
3. الجدجود: وقد ذُكِرَت في سفر العدد باسم ”حور الجدجاد“ (عد 33: 32). وقد يكون مكانها الآن في وادي غدغودة شمال خليج العقبة.
4. يُطْبَات: المذكورة في سفر العدد (عد 33: 33)، وقد يكون مكانها المطابة التي تقع شمال خليج العقبة أيضاً، وكانت غنية بمياهها وأنهارها.
ويذكر سفر العدد بعد يُطبات أنهم ارتحلوا منها إلى عبرونة ثم عصيون جابر وهي قادش. ثم ارتحلوا من قادش ونزلوا في جبل هور حيث مات هارون رئيس الكهنة في السنة الأربعين لخروج بني إسرائيل من مصر (عد 33: 38). ومن الواضح أن هذه المحطات كانت متجاورة، مما دعا موسى إلى القول بأن هارون قد مات ودُفن هناك دون ذِكر جبل هور بالتحديد في هذا السِّفْر. أما تخصيص سبط لاوي لخدمة الرب فكانت بهذه الصورة الفريدة التي وضعها موسى هكذا: «ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويُباركوا باسمه إلى هذا اليوم».
وكان تابوت العهد المصنوع بمواصفات خاصة أملاها الرب لموسى، من خشب السنط الذي لا يُسوِّس والمغشي بالذهب (انظر خر 25: 10-22؛ 37: 1-9)، يُمثِّل عِزَّة الله وجلاله، كما يقول المرنِّم: «قُم يا رب إلى راحتك أنت وتابوت عِزِّك» (مز 132: 8). فكان التابوت رمزاً لحضرة الرب بين شعبه، وكان يُحفظ في داخله لوحا العهد وقسط المنّ وعصا هارون التي أَفرخت شهادة على رحمة الله وعمله في وسط شعبه، وكان موضعه في قدس الأقداس. وعند ارتحال الشعب في البرية كان يحمله اللاويون على أكتافهم ويرتحلون به أمامهم، كقول الكتاب: «فارتحلوا من جبل الرب مسيرة ثلاثة أيام، وتابوت عهد الرب راحلٌ أمامهم» (عد 10: 33)، «وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: قُم يا رب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك» (عد 10: 35). وكان الله يعمل من خلال التابوت لإرشاد شعبه وحمايتهم. فأصبح ارتفاع السحابة عن خيمة الاجتماع إيذاناً بارتحالهم، وكان تابوت عهد الرب يسير أمامهم «ليلتمس لهم منزلاً» (عد 10: 33)، ولكي يُبدِّد أعداءهم من أمامهم، كما حدث أمام أريحا (يش 6: 12).
وترتفع أهمية التابوت في التطبيق الروحي لمفهوم الفداء إلى درجة الكفَّارة، وذلك في يوم الكفارة الذي كان يحدث مرة واحدة كل عام، عندما ينضح رئيس الكهنة على غطاء التابوت من دم الذبيحة بإصبعه، حيث «يُقدِّمه عن نفسه، وعن جهالات الشعب» (عب 9: 7). وكان هذا كله رمزاً لتجسُّد الرب وحلوله في وسط شعبه وفدائه للعالم: «لا ليُقدِّم نفسه مراراً كثيرة كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدمٍ آخر... ولكنه الآن قد أُظهِر مرة عند انقضاء الدهور، ليُبطِلَ الخطية بذبيحة نفسه» (عب 9: 26،25). فإن كانت هذه هي كرامة التابوت ودرجة تقديسه في خدمة الرب، فماذا تكون كرامة وامتياز الذين يحملونه؟ ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط بل أضاف موسى قائلاً: «ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه، ويُباركوا باسمه إلى هذا اليوم». وقد لخَّص الوحي خدمة اللاويين بقوله: «فتُعطي اللاويين لهارون وبنيه. إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل» (عد 3: 9). وهذا معناه أن الرب قد أعطى هارون وبنيه بني لاوي ليكونوا مساعدين وخدَّاماً لهم في خدمة بيت الرب وخدمة الكهنوت: «لأجل ذلك لم يكن للاوي قِسْم ولا نصيب مع إخوته (في أرض الموعد)، الرب هو نصيبه» (تث 10: 9،8).
وهنا يتجلَّى مقدار المجد والكرامة التي تحل على المتخصِّصين والمُكرَّسين لخدمة الرب، وكيف أنها أسمى من كل نصيب أرضي، فنصيبهم هو الرب، وهو أعظم من كل نصيب؛ بل هو يُغني عن أي نصيب، حتى أن لسان حال مَن صار الرب نصيبه: «مَن لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض. قد فَنِيَ لحمي وقلبي. صخرة قلبي ونصيبـي الله إلى الدهر» (مز 73: 26،25).
والواقع أن فرز سبط لاوي لخدمة الرب كان كمكافأة لهم على غيرتهم لمجد الله في حادثة عبادة الشعب للعجل الذهبي. فقد كانوا أسبق الجميع في الرجوع إلى عبادة الرب، عندما لبُّوا نداء موسى: «مَن للرب فإليَّ» (خر 32: 36)، فاجتمع إليه جميع بني لاوي وانتقموا من الذين أهانوا الرب بعبادة العجل الذهبي. فامتدح موسى غيرتهم وباركهم في بركته الأخيرة قائلاً: «وللاوي قال: تُمِّيمُك وأُوريمك لرجُلك الصدِّيق الذي جرَّبته في مسَّة وخاصمته عند ماء مريبة. الذي قال عن أبيه وأُمه لم أرَهما، وبإخوته لم يعترف، وأولاده لم يعرف، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك. يُعلِّمون يعقوب أحكامك وإسرائيل ناموسك. يضعون بخوراً في أنفك ومحرقات على مذبحك. بارك يا رب قوته وارتضِ بعمل يديه. احْطِم متون مقاوميه ومُبغضيه حتى لا يقوموا» (تث 33: 8-11).
ويُعلِّق القديس إيرينيئوس - أسقف ليون في القرن الثاني - على ذلك، قائلاً:
[لأن كل الأبرار يحوزون على رتبة كهنوتية (بنوعٍ ما) (انظر 1بط 2: 9،5). وكل رسل الرب هم كهنة (انظر مت 16: 19؛ 18: 18؛ يو 20: 23)، الذين لم يكونوا يرثون هنا أراضٍ أو بيوتاً («ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» - مر 10: 28)، لأنهم تخصَّصوا لخدمة الرب والمذبح كل حين. الذين عنهم يقول موسى أيضاً في سفر التثنية: «الذي قال عن أبيه وأُمه لم أرَهما، وبإخوته لم يعترف، وأولاده لم يعرف، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك» (تث 33: 9).
ولكن مَن هم هؤلاء الذين تركوا الأب والأُم، وقالوا وداعاً لكل أقربائهم، وذلك من أجل كلمة الله وعهده، سوى تلاميذ الرب؟ الذين عنهم يقول موسى أيضاً: «لم يكن لهم قِسْمٌ ولا نصيبٌ مع إخوتهم، الرب هو نصيبهم» (انظر تث 10: 9)، وأيضاً: «لا يكون للكهنة اللاويين، كل سبط لاوي، قسم ولا نصيب مع إسرائيل، يأكلون وقائد الرب ونصيبه» (تث 18: 2،1)، فهذا هو طعامهم (نصيب الرب من الذبائح). من أجل هذا أيضاً يقول بولس: «لستُ أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم» (في 4: 17). أما تلاميذه الذين كانوا كهنة للرب، الذين كان من حقِّهم أن يأكلوا من سنابل القمح عندما جاعوا، قال الرب: «لأن الفاعل مستحق طعامه» (مت 10: 10)، «فالكهنة في السبت في الهيكل يُدنِّسون الهيكل وهم أبرياء» (مت 12: 5). فهم، إذن، أبرياء، لأنهم عندما يكونون في الهيكل فإنهم لا ينشغلون في أي أعمال عالمية بل في خدمة الرب، مُتمِّمين الناموس ولا يتجاوزونه، مثل ذلك الرجل الذي وجدوه يحتطب حطباً (في السبت) لحسابه في محلة الرب، فاستحق الرجم (انظر عد 15: 32-36)، لأن كل شجرة لا تأتي بثمر صالح تُقطع وتُلقى في النار (انظر مت 3: 10)، «وإن كان أحد يُفسد هيكل الله فسيُفسده الله» (1كو 3: 17)](2).
ويُعلِّق على ذلك أيضاً الأب متى المسكين قائلاً:
[والعجيب الذي نريد أن نلاحظه الآن هو أن طقس اللاويين في العهد القديم المتخصِّصين في تقديم الذبائح، كان يتضمن الأصول الأولى للتكريس الرهباني القائم على أساس تقديم النذر والعهد بترك العالم والأهل والتخصُّص لخدمة الرب وحفظ الكلمة. وفي سفر التثنية يقول موسى في معرض حديثه عن سبط لاوي: «الذي قال عن أبيه وأُمه لم أرَهما، وبإخوته لم يعترف، وأولاده لم يعرف، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك» (تث 33: 9). هنا نجد في صميم طقس اللاويين في العهد القديم العنصرين الأساسيين اللذين تقوم عليهما الرهبنة: أولاً: ترك العالم والأهل: الأب والأُم والإخوة والأولاد؛ ثانياً: التخصُّص لحفظ الكلمة (ولا تنسَ أن أعظم مَن شرحوا الإنجيل كانوا دائماً من الرهبان). هذا بخلاف العنصر الثالث الذي هو التفرُّغ لتقديم الذبائح بصفة مستمرة، الذي كان هو عمل اللاويين الأساسي.
لقد خرج آباء الرهبنة الأوائل مثل أنطونيوس وغيره من الآباء، وتركوا الأب والأُم والإخوة والأولاد كوصية الرب (لو 14: 26)، ليتفرَّغوا لحفظ كلمة الإنجيل كقول الرب أيضاً: «لأجلي ولأجل الإنجيل» (مر 10: 29)؛ لقد فعلوا ذلك بإرشاد الروح القدس وبتسليم من الرسل أنفسهم: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» (مر 10: 28)، ولم يكونوا يدرون أنهم بذلك كانوا يُتمِّمون طقس اللاويين القديم كما تشرحه هذه الآية (تث 33: 8) بالحرف الواحد](3).
(يتبع)
دير القديس أنبا مقار
المقالات المسلسلة في شرح سفر العدد التي نُشرت في مجلة مرقس، جُمِعَت معاً في كتاب واحـد، وصــدر حديثـاً بـاسم:
شرح سفر العدد
سفر التيه والتجربة في البرية
لأحد رهبان دير القديس أنبا مقار
376 صفحة (من القَطْع الكبير) الثمن 30 جنيه
****************************************************************************************
(1) تفسير سفر الخروج، منسوب إلى القديس أفرآم
السرياني، في المخطوط الماروني الفاتيكاني السرياني 316.
( 2) St. Irenaeus, A.H., ANF Vol. 1, Book IV, Chap. VIII:3.
( 3) من كلمة للأب متى المسكين لأبنائه الرهبان، في أغسطس 1990.