تدبير الروح القدس
الحياة الباطنية للكنيسة
(تابع)
- 2 -
حياة الصلاة والعبادة


الصلوات الطقسية للحياة اليومية
للمؤمن المسيحي
- 5 -
صلاة السجدة

l ما زلنا نتأمل في الحياة الباطنية للكنيسة المتمثِّلة في حياة الصلاة، والتي منها بزغت حياة الرهبنة في البراري والقفار، وحياة التقوى في العائشين في المدن والقرى والنجوع. وهذه الحياة الباطنية هي قلب الكنيسة ونبضها الحي الذي هو علامة حياة الكنيسة بالروح القدس. وفي إطار حياة الصلاة، قدَّمنا للقارئ المُتابع معنا هذه الحلقات: حياة الصلاة (3 مقالات)، الصلاة من أجل الراقدين، صلاة مسحة المرضى أي القنديل (مقالان)، صلاة لقَّان الماء أو قدَّاس اللقَّان، صلوات قسمة الرهبان (مقالان). وها نحن نُكمل في هذا العدد صلاة السجدة.

مناسبة صلاة السجدة:
جرى التقليد الليتورجي أن تُقام طقوس صلوات السجدة في الساعة التاسعة من النهار (بحسب التوقيت اليهودي قديماً)، أي الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم أحد العنصرة. وطقس صلوات السجدة قائمٌ أصلاً على قول المسيح – له المجد – في إنجيل يوحنا (الأصحاح 4- عدد 24،23): «ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الله طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا». ولأن اليوم هو عيد حلول الروح القدس على الرسل والتلاميذ لأول مرة، بعد أن كان لا يحل في العهد القديم إلاَّ على الملوك والكهنة والأنبياء ولأغراض محددة؛ لذلك فقد كان هذا اليوم هو يوم السجود بالروح والحق، كما وَعَدَ المسيح: «ولكن تأتي ساعة»، فبعد أن احتفلت الكنيسة في الساعة الثالثة من النهار بحلول الروح القدس، ها هي في الساعة التاسعة من النهار تسجد لله بالروح والحق.

ولماذا الساعة التاسعة من النهار؟ لأنها كانت الساعة التي يذهب فيها أتقياء الله إلى الهيكل ليسجدوا لله (سفر أعمال الرسل – أصحاح 3 – عدد 1). ولكن أصبح طقس السجود لله ليس قاصراً على الهيكل، بل في أي مكان بشرط أن يكون بالروح القدس روح الحق (كان اليهود والسامريون يتنازعون على أين ينبغي السجود: هل في هيكل أورشليم أم في هيكل جرزيم. كما دارت المجادلة بين المسيح والمرأة السامرية – إنجيل يوحنا – أصحاح 4 – عدد 20).

+ وفي مساء أحد العنصرة يسجد المؤمنون بالروح والحق في ثلاثة طقوس مثالاً لاستكمال استعلان الثالوث الأقدس في هذا اليوم: الآب والابن والروح القدس. وهذه هي أول مرة يتم فيها السجود بعد الخمسين يوماً من قيامة المسيح من بين الأموات، والتي لا يُسمح فيها في الصلوات بالسجود، حسب طقس الكنيسة.

+ وفي هذه الطقوس الثلاثة يُرفع البخور كثيراً رمزاً لرفع الكنيسة صلواتها من أجل الأحياء والأموات كرائحة بخور زكية أمام عرش الله. ذلك لأن «الله روح»، كما ذكر المسيح في حديثه مع المرأة السامرية، والأموات قد أصبحت أرواحهم في يد الله، وذلك بعد موتهم وإيداع أجسادهم في التراب. فهذا هو المغزى من تكثيف الصلوات من أجل الأحياء والأموات في صلوات السجدة الثلاث.

+ ويعتاد المؤمنون الأتقياء تقديم أعمال الرحمة في هذا اليوم للفقراء والمعوزين عن أنفس أمواتهم، لكي تكون تذكاراً أمام الله من أجل الذين سمَّاهم المسيح: ”إخوتي الأصاغر“، وكل ما يُفعَل بهم، فهو يُعتبر أنه صار للمسيح (كما ورد في إنجيل متى – أصحاح 25 – عدد 40).

أولاً: التسبيح بالمزامير:

نموذج صلوات السجدة الثلاث

(من صلاة السجدة الأولى):

وتبدأ صلوات الكنيسة دائماً بالمزمور 116 باللحن الخاص به: «يا كل الأمم سبِّحوا الرب، ولتباركه كل الشعوب، لأن رحمته قد قويت علينا، وحق الرب يدوم إلى الأبد. هلليلويا».

+ ثم يُصلُّون ”الهوس الرابع“ ويبدأ بالمزمور 148، والذي يبدأ بهذا المقطع: «سبِّحوا الرب من السموات، هلليلويا. سبِّحوه في الأعالي»، ثم بالمزمور 149، والمزمور 150.

+ أرأيت كيف أن الكنيسة تُحوِّل الأعياد والتذكارات إلى تسابيح وصلوات ترتفع كرائحة بخور زكية أمام الله. حقّاً إن الكنيسة هي ”بيت الملائكة“ الذين لا يكفُّون عن التسبيح ليلاً ونهاراً أمام عرش الله، ومعهم المؤمنون الذين على الأرض.

+ ثم يُرنِّمون إبصالية (أي ترتيلة أو ترنيمة) عيد العنصرة التي تبدأ بهذه الكلمات:

*

”أُسبِّحك يا رب بالرحمة، والسلام، والحق،

لأنك أنت هو المخلِّص.

والقرار المكرر في كل المقاطع: ”الروح المعزِّي“.

+ ثم يرنِّمون ”إبصالية“ تُقال دائماً يوم الأحد ومطلعها:

*

”طَلَبتُك من عمق قلبي، يا ربي يسوع المسيح أَعنِّي،

حِلّ عني رباطات الخطية، يا ربي يسوع المسيح أعنِّي“.

+ ثم يقولون بعض قطع الثيئوطوكيات المختارة، ثم ترنيمة: ”مراحمك يا إلهي، غير محصاة وكثيرة جداً، هي رأفاتك“، التي هي ختام الثيئوطوكيات.

وبعد هذه التسبحة، يبدأ الكاهن في تقديم صلوات السجدة في طقسها الأول:

+ صلاة الشكر: وهي تُقال في بدء أية صلاة طقسية.

+ وبعدها قِطَع أرباع تُقال بالناقوس (الدف والتريانتو).

+ ثم يُصلِّي الجميع المزمور الخمسين: ”ارحمني يا الله كعظيم رحمتك“.

+ وأثناء صلاة المزمور الخمسين، وهو مزمور استدعاء رحمة الله، يُقدِّم الشماس الشورية للكاهن لكي يضع خمس أيادي بخور بمشاركة إخوته الكهنة. ثم يُصلِّي من أجل كل نفوس الذين رقدوا:

- ”نياحاً وبرودة لأنفس عبيدك الذين رقدوا في الأمانة الأرثوذكسية منذ البدء وإلى الآن. يا رب نيِّحهم جميعاً في حضن آبائنا القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب، في فردوس النعيم، في أورشليم السمائية. وأعطِنا معهم حظّاً ونصيباً في ضياء قديسيك“.

+ ثم يطلب:

*

”اِقبل إليك هذا البخور من أيدينا نحن الخطاة رائحة بخور، غفراناً لخطايانا مع بقية شعبك“.

ثانياً: القراءات من الكتاب المقدس:

وبعدها يقرأ الكاهن هذه القراءة من سفر التثنية (الأصحاحين الخامس والسادس)، ثم يليها قراءة من نبوَّة حزقيال النبي، وتدور حول حفظ وصايا الرب ودعوة الله لشعبه أن يحفظها.

+ ومرة أخرى يضع الكاهن بخوراً في الشورية ويُصلِّي طالباً: ”وامنحنا أن نُقدِّم أمامك ذبائح ناطقة، وصعائد بركة، وبخوراً روحياً (أي الصلوات) يدخل إلى الحجاب في موضع قدس أقداسك“.

+ ثم يُصلِّي سرَّ اعتراف الشعب: ”يا الله الذي قَبِلَ إليه اعتراف اللص على الصليب المُكرَّم، اقبل إليك اعتراف شعبك، واغفر لهم جميع خطاياهم، من أجل اسمك القدوس الذي دُعِيَ علينا. كرحمتك يا رب ولا كخطايانا“.

+ ثم يُصلِّي سرّاً أثناء قراءة الشماس من رسالة القديس بولس الرسول، طالباً من الله أن نتشبَّه بهذا القديس ”كما تشبَّه هو بك أنت يا رئيس الحياة“.

والقراءة من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل كورنثوس الأولى من الأصحاح 12 – الأعداد الأخيرة، وفيها يتحدث القديس بولس عن تدبير الله في توزيع مواهب الخدمة في الكنيسة، ثم يتبعها بالأصحاح 13 كله الذي يتكلَّم فيه عن الموهبة العظمى والباقية للأبد، التي هي ”المحبة“.

+ ثم نأتي إلى قراءة الإنجيل:

واختارت الكنيسة في صلاة السجدة الأولى الأصحاح الـ 17 من إنجيل يوحنا الذي يحوي الصلاة الكهنوتية التي رفعها الرب يسوع لله أبيه عن المؤمنين من أجل القصد النهائي من تدبير الخلاص: «ليكونوا واحداً كما نحن»، «ليكونوا هم أيضاً مقدَّسين في الحق»، «ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد»، «أن هؤلاء... يكونون معي حيث أكون أنا»، «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم».

هذه القراءة اختيرت بحكمة وبدقة لتُبيِّن عمل الروح القدس في المؤمنين نتيجة للخلاص الذي أتمَّه المسيح.

وفي صلاة السجدة الثانية، اختارت الكنيسة إنجيل الوعد بإرسال الروح القدس (لوقا 24: 36-53).

ثالثاً: أواشي (صلوات) الكنيسة

من أجل الناس والخليقة:

فالكنيسة في كل صلاة ليتورجية لابد أن تُصلِّي لأجل جميع الناس والخليقة كلها، فهي تقف أمام الله تتكلَّم وتُصلِّي بفم كل الخلائق البشرية وغير البشرية، فتُصلِّي من أجل:

- المرضى؛ المسافرين؛ أهوية السماء وثمرات الأرض؛ والمواضع المقدسة، أي الكنائس والأديرة وكل بيوت المؤمنين (تأمَّل، فإن بيوت المؤمنين داخلة ضمن المواضع المقدسة التي تُصلِّي من أجلها الكنيسة)؛ من أجل (الملك) أو الرئيس؛ من أجل الراقدين؛ من أجل تقدمات الشعب (أوشية الصعائد والقرابين)؛ من أجل الموعوظين الذين يستعدُّون لنوال سرِّ المعمودية؛ من أجل سلامة الشعب والكنيسة؛ من أجل البابا البطريرك والأساقفة والقسوس والشمامسة؛ من أجل الاجتماعات.

وتصلِّي الكنيسة هذه الأواشي موزَّعة على السجدات الثلاث.

رابعاً: السجود بالروح والحق:

ثم يصرخ الشماس في الشعب داعياً إيَّاهم قبل كل سجدة: ”اسجدوا لله بخوف ورعدة“. فيسجد كل الشعب، ويُصلِّي الكاهن الطلبة والشعب كله ساجد.

وتحتوي الطلبة الخاصة بكل ساعة تسبيحاً لله على أعماله الخلاصية من أجل البشر، وإبادته إبليس وشياطينه، والصلاة من أجل نياح أنفس الراقدين.

+ ويُلاحَظ أن قراءة إنجيل السجدة الثالثة (إنجيل يوحنا – الأصحاح الرابع) تحوي لقاء الرب يسوع المسيح مع المرأة السامرية وحوارها مع المسيح عن أين يجب السجود لله في أورشليم أم في جرزيم؛ فيردُّ عليها المسيح: «لا في هذا الجبل (جرزيم) ولا في أورشليم تسجدون للآب... الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق».

والكنيسة تُترجم وصايا المسيح في صلواتها الليتورجية لتكون نموذجاً للمؤمنين، يجعلون منه حياةً دائمة في بيوتهم وعائلاتهم؛ أي السجود لله بالروح والحق.

+ وهكذا تسير صلوات السجدتين الثانية والثالثة بنفس النَّسَق، مع تغيير القراءات والصلوات والطلبات.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis