من تاريخ كنيستنا
|
|
|
اختيار البطريرك زخارياس:
كان هذا في حُكْم الحاكم بأمر الله. فبعد أن خَلِيَ كرسي مدينة الإسكندرية الرسولي، اجتمع سنودس الأساقفة مع الأراخنة وهم يتشاورون في اختيار البابا الجديد. ولكن فيما هم يتشاورون، ظهر في الإسكندرية تاجر موسر اسمه ”إبراهيم بن بِشْر“، وكان له كرامة لدى الولاة في القاهرة، وكان يُقدِّم هدايا للمقدَّمين المحيطين بالخليفة. فسألهم أن يساعدوه لنوال البطريركية، فكتب له الولاة خطاباً وأرسلوا معه أستاذين إلى أهل الإسكندرية ليُلزمهم بتقدمته بطريركاً عِوَض الأب المتنيح فيلوثاوس.
فلما علم الأساقفة بذلك لم يوافقوا على هذا الرأي، وحزنوا لِمَا عمله هذا الرجل. وكانوا على وشك أن يمضي كل واحد منهم إلى مقر كرسيه، ولكن بينما هم مجتمعون في بيعة مار مرقس الإنجيلي، وجدوا قسّاً شيخاً متبتلاً اسمه زخارياس، وكان ”إيكونوموس“ جميع كنائس الإسكندرية (أي متولياً الأمور المالية فيها)، وكان الأساقفة في ضيافته في كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل. هذا القس لم تكن له أية شهرة عند كهنة الإسكندرية. ولكن كان كل واحد يطلب منه أداء خدمات، فيؤديها له في صمت وتواضع.
ففي يومٍ صعد إلى أعلى الكنيسة ليُحضر جرَّة خل ليُعطيها للطبَّاخ الذي يُعدُّ الطعام للأساقفة، وفيما هو نازل على السلم وقع وهو حامل الجرَّة، فلم تنكسر ولا انسكب منها شيء، ولا أصابه هو ضرر، فاعتبر الأساقفة وجميع الحاضرين هذه أعجوبة، وقالوا: هذا هو الذي يستحق هذا الأمر الذي نحن مجتمعون بسببه.
ثم سألوا عنه أهل الإسكندرية وعن سلوكه، فقالوا كلهم: ما سمعنا عنه قط أية كلمة سوء، بل هو فقير وطاهر وبائس؛ فاتفقوا مع الإسكندريين على قسمته قائلين: ”هذا أفضل مِمَّن يأتي إلينا بسلطان وأمر حكومي، فنكون زماننا كله كعبيد عنده“!
وأخذه الأساقفة وقسموه(1) بطريركاً. ولكن في مساء نفس اليوم الذي قسموه فيه، وصل التاجر ”إبراهيم بن بِشْر“ بالأمر السلطاني ومعه الأستاذان بصحبته، فلما عرف بأن الأساقفة قسموا البطريرك، حَزِنَ، فقال له الأساقفة: هذا أمر كان من الله. وقد قسموه إيغومانساً معشِّمين إيَّاه أن يرسموه أسقفاً على أول كرسي يخلو من أسقفه. ولما خلا كرسي منوف العليا قسموه عليه.
حبرية البابا زخارياس:
وبدأت حبرية البابا زخارياس بسبع سنين سلام وهدوء، وكانت الكنيسة تحت السلام.
بدء الاضطهاد العنيف بعد 7 سنين سلام:
ويقول كاتب سيرة البابا زخارياس (أنبا ميخائيل أسقف تنِّيس) في كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”ومن بعد ذلك (السبع السنين) لم يصبر الرب على أفعال الرعاة الذين كانوا في ذلك الزمان، وأنزل الله غضبه على الكنائس بسببهم، فأُبعدوا منها لأنهم كانوا قد صاروا مثل الولاة المُسلَّطين على الكهنة، ويختلقون حججاً لجمع المال بكل وجه، ويتَّجرون في كنيسة الله... ويبيعون موهبة الله بالمال. وكانوا يُسلِّمون الكنيسة لِمَن يدفع ديناراً أكثر وهو لا يصلح لخدمتها أو يقوم بأمورها“.
وقد ذكر ”تاريخ البطاركة“ أمثلة كثيرة لحال الرعاة في هذا الزمان، لا نريد أن نذكرها منعاً من عثرة القارئ. لكن نُسجِّل ما كتبه كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”كان رؤساء الكنيسة قديماً يطلبون إنساناً فيه علم ومعرفة ليجعلوه كاهناً، إذا شهد له جماعة من الثقاة بالعفاف والعلم من صغره، وانقلبت الأمور وصار الفهيم العالم غير مُعتَبَر، لا سيما إن كان فقيراً؛ وأما الجاهل غير الفهيم فصار مُكرَّماً عندهم مُبجَّلاً لا سيما إن كان موسراً، ليُقدِّموه للطقس العالي من طقوس الكهنة. فمن أجل ذلك نزلت يد الرب عليهم، وحلَّ غضبه على الكنيسة كالزمان الذي أنزل فيه غضبه على أورشليم حتى خربت وسُبي أهلها وبنيهم وبناتهم“.
صفات البابا زخارياس الذي واجه
الاضطهادات في عهد الحاكم بأمر الله:
يذكر كتاب ”تاريخ البطاركة“ سمات وأخلاق البابا زخارياس هكذا:
- ”وكان البطريرك عفيفاً جداً مثل الخروف الوديع، ولم يكن شيءٌ مما ذكرناه يُفعَل برأيه، حتى الخبز الذي يأكله إذا منعوه عنه لم يكن يطلبه، وكذلك الماء الذي يشربه“.
وقرب نهاية حبرية البابا زخارياس، طلب الحاكم بأمر الله أن يرى البطريرك، وكان الحاكم يتردد آنذاك على دير القديس مرقوريوس بشهران (قرب حلوان)، فقابله هناك. وسلَّم عليه الأب البطريرك بسلام الملوك، وبارك عليه، ودعا له. فسأل الحاكم أحد الواقفين: مَن هذا؟ قال: هو أبونا البطريرك، أرسلتُ إليه ليحضر كما أمرتَ. فتأمله الحاكم وتعجَّب منه لأنه كان حقير المنظر، مُهاباً في النفس، وكان قصير القامة. فسأل الأساقفة الحاضرين: أهذا مُقدِّمكم كلكم؟ قالوا له: نعم، الرب يُثبِّت مُلكك. فتعجب وقال لهم: إلى أين ينتهي (مجال) حُكْمه؟ فقالوا له: ينفذ حُكْمه في ديار مصر والحبشة (إثيوبيا) والنوبة والخمس المدن الغربية الأفريقية وغيرها. فازداد تعجُّبه، وقال: كيف يُطيعونه هؤلاء كلهم بلا عساكر ولا مال ينفقه عليهم؟ قالوا له: بصليب واحد تطيعه هذه القبائل كلها. قال لهم: إيش (ما هو) هذا الصليب؟ قالوا له: مثال الذي صُلِبَ عليه المسيح، فمهما أراد منهم، كتب إليهم، وجعل (الصليب) بين سطور خطابه موضع علامة المُلك، ويقول لهم: افعلوا كذا وكذا، وإلاَّ عليكم الصليب؛ فيطيعون قوله ويفعلون ما يأمرهم به بلا عساكر ولا حرب. فقال: بالحقيقة ليس في العالم دين ثابت مثل دين النصارى، هوذا نحن نسفك الدماء وننفق الأموال ونُخرج الجيوش، وما نُطاع. وهذا الرجل الشيخ الحقير المنظر، الذميم الخلقة، تطيعه أهل هذه البلاد كلها بكلمة، لاغير.
ثم قال له وللأساقفة: أقيموا ههنا حتى أقضي لكم كل طلباتكم. وخرج من عندهم وهم مسرورون بما سمعوه منه.
وقبل أن نذكر الضيقات التي حلَّت على الكنيسة في بداية القرن الحادي عشر على يد الحاكم بأمر الله، نذكر شيئاً مختصراً عن هذا الرجل الغريب في أطواره وأعماله.
الحاكم بأمر الله:
يصفه كتاب ”تاريخ البطاركة“ بأنه ”تقلَّد أمر المملكة وهو صبي صغير جداً، وأنه نشأ وكبر وصار كالأسد يزأر ويطلب فريسة، وصار مُحبّاً لسفك الدماء أكثر من الأسد الضاري حتى أن جماعة أحصوا مَن قُتِلَ بأمره، فكان عددهم ثمانية عشر ألف إنسان“.
ثم يصفه مؤرخ معاصر هكذا: ”وهكذا استمر هذا الحاكم في الفتك بالزعماء، ورجال الدولة من الوزراء والكُتَّاب، والموقعين، والعلماء، ورجال القصر من الأساتذة والخدم الصقالبة، هذا عدا مَن قُتل من التجار والصُّنَّاع والكافة، خلال هذه الأعوام الرهيبة وهم ألوف عديدة“(2).
ويضيف هذا المؤرخ: ”ولم يكن ثمة ريب في أن هذه المذابح المتوالية، كانت عنوان نزعة خطيرة للبطش والقتل، واحتقار الحياة البشرية. وكان أشد الناس تعرُّضاً لهذه النزعات الخطرة، أقرب الناس إلى الحاكم، من الوزراء والكُتَّاب والغلمان والخاصة“.
”وأحياناً كان القتل يبدو في نظر الحاكم، ضرباً من ضروب اللهو أو الرياضة“.
”لقد كانت الجرائم المثيرة بلا ريب عنوان اجتراء مروِّع على الشر، وشغف واضح بالسفك، واحتقار بيِّن للحياة البشرية؛ ولكنها لم تكن نزعة دموية فقط، ولم تكن بالأخص دون غاية. كان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة للحُكم... ولقد كان القتل دائماً وسيلة الطغاة إلى تأييد سلطانهم“(3).
بداية الاضطهاد الذي شنَّه الحاكم بأمر الله،
على المصريين عموماً، والأقباط خصوصاً:
أولاً: على المصريين عموماً:
بجانب نزعة الحاكم بأمر الله الدموية السافكة لحياة الناس، عظماء وحقراء؛ رجال دولة وأُناس من عامة الشعب؛ ذوي فضل عليه مثل الوصي عليه ومُربِّيه ومؤدِّبه كليهما، أو لا فضل من أحد عليه؛ فقد أصدر كثيراً من المراسيم الحكومية مثل منع كافة الأنشطة من الفجر إلى الغروب وجعلها تتم طيلة الليل، ومنع النساء من الخروج ليلاً، ومنع الناس من أكل أنواع معينة من الأطعمة مثل الملوخية والترمس والجرجير وصدفة أُم الخلول، حرَّم صيد السمك، ومنع عمل النبيذ وحَكَم بإلقاء كميات كبيرة من الزبيب في النيل كانت في مخازن التجَّار، وأمر بقتل الكلاب والخنازير، ومنع الناس من ركوب البحر للتفرُّج. كما منع الخوض في أحوال السلطان وأوامره وأسرار الملك، كما منع معارضة الإمام فيما يفعله. ثم منع النساء من مغادرة دورهن لا صباحاً ولا مساءً إلاَّ باستثناءات بموجب تصاريح خاصة، ومنع صانعي أخفاف (أحذية) النساء من صنعها، وأُغلِقَت المتاجر التي تبيع السلع النسوية، وأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة ما يُباع للنساء في منازلهن، وأن يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها يد طويلة تُمدُّ إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن حيث لا يُسمح مُطلقاً أن تبدو من وراء الباب، وغير ذلك من الأوامر الغريبة.
وكانت عقوبات المخالفين تختلف بين التشهير (أي يُطاف بالمذنب على حمار وتُعلَّق كتابة بمضمون ذنبه)، والحبس والجَلْد، وتصل في أحيانٍ كثيرة إلى الإعدام. وقد ازدادت المعاملات اضطراباً، وسَرَى الخوف والجزع، واشتد الغلاء من جراء هلاك المزروعات، واشتكى الناس من قلة الخبز ومن سواده، وعصف المرض والموت بالناس، وعزَّ القوت والدواء والفواكه، وحصد الوباء منهم ألوفاً.
- ومن غريب تصرفات الحاكم في تلك الفترة، أنه قبض على جميع أملاك زوجته وأُمه وأخته وعمَّاته وخواصه وجواريه، وكان مبلغاً عظيماً. بَيْدَ أنها كانت فيما يظهر ثورة مؤقتة، وقد عاد فردَّ الأمور إلى نصابها فيما بعد.
ويُعلِّق المؤرخ عبد العزيز جمال الدين على تصرفات الحاكم، نافياً أن تكون صادرة عن نزعة مخبول أو هائم، ولكنها غاية المستبد الذي يظن نفسه عادلاً مُلهَماً، من ذهنية دينية تظن أن الإصلاح لا يأتي إلاَّ عن طريق القسوة والعنف(4).
ثانياً: المراسيم الخاصة بالكنائس والمعابد:
- فقد قُرئ في الجوامع سجل يؤمر فيه النصارى واليهود بلبس الغيار وشدّ الزنار، ولبس العمائم السوداء، وبأن يُعلِّق المسيحيون صليباً من الخشب حول أعناقهم. أما لبس السواد فكان هو شعار العباسيين، وهم عصاة في نظر الفاطميين.
- وفي ليلة أحد الشعانين وعيد الغطاس، مُنع النصارى من تزيين كنائسهم على ما جرت به عادتهم، كما صدر سجل بمصادرة الأوقاف الموقوفة على الكنائس، وضمَّها إلى خزينة الديوان السلطاني. وأُحرقت صلبان كثيرة على أبواب الجوامع وفي دار الشرطة.
- كما أمر بعد ذلك بهدم بعض كنائس القاهرة ونهب ما فيها، ومنها كنيسة اليعاقبة بحارة الروم.
- كما صدر أخطر سِجِل تطبيقاً لهذه السياسة، وهو المرسوم الخاص بهدم كنيسة القيامة أو القبر المقدس بالقدس.
ويضع المقريزي تاريخ هذا المرسوم الشهير في أواخر سنة 398 هجرية، وتضعه الرواية المسيحية في سنة 727 للشهداء (911م حسب التقويم اليولياني).
وكان مرسوم حرق كنيسة القيامة حادثاً جللاً في تاريخ الكنيسة، كما ورد نص المرسوم في كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”خرج أمر الإمامة إليك بهدم قمامة (كنيسة القيامة التي بنيت على موقع قمامة خارج أورشليم، كان قد دفن تحته اليهود الصلبان الثلاثة إلى أن أزالته الملكة هيلانة)، فاجعل سماءها أرضاً، وطولها عرضاً“. وقد وصف مؤرخ شرقي آخر اسمه ”ابن شترين“ تفاصيل هذا الحادث المروع ما تقشعر له الأبدان.
ويُعلِّق المؤرخ عبد العزيز جمال الدين على هذا الحادث: ”وقد كان لهدم القبر المقدس وقع عميق في الأمم النصرانية كلها، وكان له فيما بعد أثره في إذكاء الدعوة الصليبية التي شهرتها البابوية لإنقاذ فلسطين والقبر المقدس“.
وقد ظل موقع الكنيسة أعواماً طويلة بعد هدمها مزاراً يحج إليه المسيحيون حتى أُعيد بناؤها في عهد المستنصر بالله بعد ذلك بنحو 30 عاماً.
- كما أصدر الحاكم بأمر الله أمراً إلى كل متصرف في ولايته بهدم الكنائس والأديرة، ونهب ما فيها. ويُقال إنه هدم في هذه الفورة المضطرمة من الكنائس والأديار زهاء ثلاثين ألفاً، وكانت منها عدة من الكنائس والأديار الأثرية الفخمة كما يذكر ذلك المقريزي في خططه (ج 4، ص 399).
خفوت وطأة المطاردة،
وتحوُّل الحاكم عن اضطهاده:
ثم خفتت وطأة المطاردة بعد ذلك تباعاً. فقبل اختفاء الحاكم بقليل، صدرت سجلات جديدة بإلغاء هذه القوانين والفروض المُرهقة للكنائس، وإطلاق حرية العبادة للمسيحيين واليهود، والسماح للمسيحيين بتجديد ما انهدم من الكنائس والأديرة، وردّ ما أُخذ منها من الذخائر والتحف والأخشاب والأعمدة. كما أُطلقت الحرية للذين دخلوا الإسلام كَرْهاً عنهم، أن يرتدُّوا إلى دينهم الأصلي، فرجع كثيرون منهم. وكان ذلك سنة 736 للشهداء، وذلك بعد 9 أعوام من الخطوب والمحن.
ويُعلِّق المؤرخ عبد العزيز جمال الدين قائلاً: ”... ولكن حدث ذلك بعد أن تمَّ التدمير، وضاعت الأموال وقُتل الناس دون رحمة أو رادع سواء من دين أو أخلاق أو عهود أو ضمير“(5).
ونُكمل في العدد القادم أحداث حبرية البابا زخارياس، ونماذج من أنوار مضيئة من قديسين وشهداء وسط ظلمة هذا الدهر. ?
(يتبع)
(1) ”قسموه“ من كلمة ”قِسْمة“، أي وضعوا أيـديهم = = عليه ليكون ”قسمة“ و”نصيباً“ للرب كأب بطريرك للكنيسة.
(2) كما ذكر عبد العزيز جمال الدين في كتابه: ”تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة“، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006، من صفحة 555-587.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) كتاب: ”تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة“، الجزء الثالث، المجلد الأول، صفحة 573.
(5) نفس المرجع السابق، صفحة 577.