+ تكلَّمنا في العدد السابق (سبتمبر 2007، ص 18) عن أولاً: العلاقة الحميمة الخاصة بين كاتب السفر والله موحيه؛ ثانياً: الله هو المتكلِّم؛ ثالثاً: الله نفسه هو صانع العهد بينه وبين بني إسرائيل. ونستكمل في هذا العدد الأساس اللاهوتي لهذا السفر، ثم نعطي فكرة عامة عن مضمون سفر التثنية، ثم خطة دراسة السفر. (تابع) الأساس اللاهوتي لسفر التثنية: رابعاً: بنو إسرائيل هم الشعب الذي ارتبط معه الله بعهده المقدس ليصنع بواسطتهم خلاصاً لكل شعوب الأرض: كان بنو إسرائيل بمثابة العبد الذي اختاره الله ليكون الأداة التي يستخدمها لإتمام مقاصده. فهذا الشعب لم يكن له أية صلاحيات تجعله أهلاً لهذا الاختيار، وهذا ما يتضح من قول موسى لهم: + «إيَّاك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخصَّ من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إيَّاكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم» (تث 7: 6-8). ومقابل اختيار الله لهذا الشعب، وارتباطه معه بعهده المقدس، كان لزاماً على هذا الشعب أن يخضع لكل متطلبات العهد، ويُعطي ولاءه الكامل للرب إلهه. فكان على بني إسرائيل أن يسلكوا في كل طرق الله وأحكامه، وكان مطلوباً منهم أن يخشوه ويتَّقوه: + «لكي تتقي الرب إلهك، وتحفظ جميع فرائضه ووصاياه التي أنا أُوصيك بها أنت وابنك وابن ابنك كل أيام حياتك، ولكي تطول أيامك» (تث 6: 2). + «الرب إلهك تتقي وإيَّاه تعبد وباسمه تحلف» (تث 6: 13). كما كان عليهم أن يحبوه: + «فالآن، يا إسرائيل، ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتُحبَّه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك» (تث 10: 12). + «فأحبب الربَّ إلهك واحفظ حقوقه وفرائضه وأحكامه ووصاياه كل الأيام» (تث 11: 1؛ انظر أيضاً تث 11: 22،13، إلخ.) وبالإجماع، كان على بني إسرائيل أن يكون ولاؤهم بالتمام لله وحده دون سواه، وإلاَّ تركهم الله فيفقدوا ميراث الأرض الجيدة ورضا الله ورحمته: + «لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأُمم التي حولكم، لأن الرب إلهكم إلهٌ غيور في وسطكم لئلا يَحْمَى غضب الرب إلهكم عليكم، فيُبيدكم عن وجه الأرض» (تث 6: 15،14). + «وإن نسيتَ الرب إلهك وذهبتَ وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدتَ لها، أُشهِدُ عليكم اليوم أنكم تَبيدون لا محالة» (تث 8: 19). + « فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم فتزيغوا وتعبدوا آلهة أخرى وتسجدوا لها، فيَحْمَى غضب الرب عليكم ويُغلِقُ السماء، فلا يكون مطرٌ ولا تُعطي الأرض غلَّتها، فتبيدون سريعاً عن الأرض الجيدة التي يُعطيكم الرب» (تث 11: 17،16). + «فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غَوَيْتَ وسجدتَ لآلهة أخرى وعبدتها، فإني أُنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون. لا تُطيل الأيام على الأرض التي أنت عابرٌ الأردن لكي تدخلها وتمتلكها» (تث 30: 18،17). ورغم أن هذه الوصايا والأحكام التي أعطاها الله لبني إسرائيل كانت تحمل الصفة الجماعية لكي يحفظوها كشعبٍ تعبيراً عن ولائهم الكامل لله وتمسُّكهم بعهده المقدس معهم، كأُمة مقدسة وشعب اقتناء؛ إلاَّ أن الطابع الشخصي والمسئولية الفردية لكل واحد من الجماعة كانت واضحة في هذه الوصايا. لذلك كان الحث المستمر على محبة الله من كل القلب وكل النفس وكل القدرة، التي لا يمكن أن تتحقَّق إلاَّ على مستوى علاقة الفرد مع إلهه. كذلك الوصايا التي كانت تتعلق بعلاقة الإنسان مع إخوته والغرباء النازلين في رحابه، بل والحيوانات البُكْم التي يستخدمها، كانت كلها تخاطب كل فرد في علاقته مع إلهه، لكي تسود المحبة والرحمة بين الجميع من أجل قيام جماعة مقدسة يسودها السلام والتآخي. ولم ينسَ موسى أن يؤكِّد لهم عن حدود علاقتهم مع قادة الشعب من الكهنة واللاويين، وواجباتهم نحوهم، وحذرهم من كل مدَّعٍ للنبوَّة، ومن كل أساليب محاولة معرفة الغيب والمستقبل التي سوف يتقابلون معها بين الأُمم، من عرافة وسحر وسؤال للجان واستشارة للموتى، وهي كلها مكرهة للرب لأنها تعني التجاءً لغير الله لالتماس معونة أو معرفة. أما إن كانوا يريدون أن يعرفوا إرادة الله فقد أنبأهم بأن الرب سيُقيم لهم نبيّاً من وسطهم من إخوتهم مثله، عليهم أن يسمعوا له في كل ما يقوله لهم، لأن الرب سيجعل كلامه في فمه، فيُكلِّمهم بكل ما يوصيه به، «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلَّم به باسمي أنا أُطالبه» (تث 18: 19). وقد تحقَّقت هذه النبوَّة في المسيح يسوع ربنا، الذي لم يتكلَّم من نفسه قط بل كل ما كان يتكلَّم به كان من الآب، حتى شهدت له الجموع قائلة: «لم يتكلَّم قط إنسانٌ هكذا مثل هذا الإنسان» (يو 7: 46؛ انظر أيضاً أع 3: 22). وفي نهاية السفر ينشد موسى نشيده الختامي الوداعي، بعد أن «كمَّل... كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها» (تث 31: 24). وفي هذا النشيد يتنبَّأ على هذا الشعب قائلاً: «رفض الإله الذي عَمِلَه وغبي عن صخرة خلاصه... فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته، وقال: أحجب وجهي عنهم، وأنظر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيل متقلِّب، أولادٌ لا أمانة فيهم. هم أغاروني بما ليس إلهاً. أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أُغيرهم بما ليس شعباً، بأُمة غبية أُغيظهم» (تث 32: 15-21). وفي ختام نشيده يقول موسى النبي: + «اهتفوا أيها الأُمم مع شعبه، لأنه يثأر لدم عبيده، ويردُّ الانتقام على أعدائه، ويُكفِّر عن خطايا شعبه» (تث 32: 43 سبعينية). وهكذا يتنبَّأ موسى بحسِّه الروحي وبرؤيته النبويَّة التي لا تخيب، عن مجيء المسيح مخلِّص العالم، ودخول الأُمم إلى الإيمان، وعودة البقية من شعب الله إلى الرب إلههم بعد طول زيغانهم عن الرب إلههم. وهذا ما تنبَّأ عنه أيضاً بولس الرسول قائلاً: + «فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تُطيعون الله (الأُمم)، ولكن الآن رُحمتم بعصيان هؤلاء (اليهود)، هكذا هؤلاء أيضاً الآن، لم يُطيعوا لكي يُرحموا هم أيضاً برحمتكم. لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان، لكي يرحم الجميع» (رو 11: 30-32). فكرة عامة عن مضمون سفر التثنية: سفر التثنية، مثل سفر اللاويين، لا يأخذك معه عَبْرَ مراحل تاريخية في حياة بني إسرائيل، كما هو الحال في سفر الخروج وسفر العدد؛ بل كل ما ذُكِرَ فيه قاله موسى في مكانٍ محدد في سهول موآب في عَبْرَ الأردن مقابل أريحا من جهة الشرق، ولم تستغرق كل أحاديثه هذه أكثر من شهر من الزمان، في نهاية الأربعين سنة التي أمضاها الشعب تائهاً في برية سيناء. وكان ذلك في حوالي سنة 1405 ق.م، عندما كان الجيل الجديد من شعب إسرائيل، الذي وُلد في البرية، على وشك الدخول إلى أرض الموعد. وفي نظرة إجمالية استعراضية متسعة لهذا السفر نستطيع أن نقول عنه إنه سجل لتجديد العهد المُبرم مع شعب إسرائيل عند جبل سيناء. فهو بمثابة مراجعة للعهد، وامتداد له، وترسيخ لأحكامه، وفي النهاية إقرار وتوثيق لبنوده. ولقد أكمل موسى كل ذلك في ثلاثة أحاديث تبدأ باستعادة الأحداث الماضية والتأمُّل فيها واستخراج العِبَر منها، ثم ينتقل إلى الأحكام والوصايا المختصة بفحص النفس. وفي النهاية يختتم أحاديثه بنظرة نبويَّة عمَّا يمكن أن يعمله الله لشعبه إذا أطاعه، وما سيفعله إذا خالفه. فالحديث الأول، يُمثِّل أرضية العهد الذي أبرمه الله مع شعبه، بالتأكيد على ما فعله الله لبني إسرائيل منذ خروجهم من مصر. فهو يُلقي ضوءاً شديداً على مدى العناية الإلهية والحماية التي شمل الله بها شعبه، مع العقوبة الإلهية الصارمة التي كانت تتبع كل عصيان ومخالفة (تث 1: 1- 4: 43). أما الحديث الثاني، فهو يُغطِّي متطلبات العهد الأساسية، مُطبِّقاً القوانين والأحكام التي وردت في سفر الخروج لكي تتناسب مع الوضع الجديد الذي سوف يسود على الجماعة بعد دخولهم أرض الموعد. لذلك فهو يُعطي اهتماماً خاصاً للتحريم والتحذير الشديدين من عبادة الأصنام وسائر الممارسات الوثنية، وإقامة المَقْدس الرئيسي، والإعداد لإنشاء مملكة لإسرائيل (تث 4: 44 - 26: 19). أما الحديث الثالث، ففيه يتنبَّأ موسى عن سقوط إسرائيل في المستقبل القريب، حيث يذكر البركات واللعنات. ثم يذكر ما سيتم في المستقبل البعيد من تشتُّتهم بين الأمم ثم عودتهم. ثم يضع موسى شروط العهد الذي يجب أن يُقرَّه الشعب. وفي النهاية، يُعيِّن موسى خليفته يشوع الذي سوف يقودهم ويدخل بهم إلى أرض الموعد، حيث لم يسمح الله لموسى أن يدخلها. وهنا يُخاطب موسى الشعب بكلمة الوداع الأخيرة بعد أن أوصى يشوع بأن يتشدَّد ويتشجَّع. ثم نطق بكلمات نشيدٍ ممتلئ حكمةً وكله نبوَّات تكشف عن أعماق موسى ورؤيته النبويَّة للمستقبل. ثم يختم النشيد بنطقه بالبركة لأسباط إسرائيل التي تُعبِّر عن مدى أُبوَّته الفاحصة لكل واحد من أبنائه (تث 27: 1 - 34: 12). ثم ينتهي السفر بالأصحاح 34 الذي يحكي عن موت موسى، ويُظَن أن يشوع بن نون هو كاتب هذه الخاتمة. خطة دراسة السفر: أولاً: الحديث الأول: «ما عمله الله لشعبه إسرائيل» (1: 1 - 4: 43): 1 - تمهيد ومقدمة عامة عن ظروف الحديث ومناسبته وشخص المتكلِّم والسامعين (1: 1-5). 2 - سرد تـاريخي عــن أعمال الله العظيمة معهم منذ كلَّمهم الله في حوريب وحتى بعل فغور (1: 6 - 3: 29). أ - من حوريب بجبل سيناء حتى تجسُّس أرض الموعد ومحاولة الغزو الفاشلة بسبب عصيان أَمْر الله (1: 6-46). ب - من قادش إلى موآب، والاستيلاء على شرق الأردن (2: 1 - 3: 29). 3 - خلاصة عهد الله مع شعبه (4: 1-40). 4 - تحديد مدن الملجأ في شرق الأردن (4: 41-43).
ثانياً: الحديث الثاني: «ما يتوقعه الرب من إسرائيل» (4: 44 - 26: 19): 1 - تمهيد لخطاب موسى الثاني (4: 44-49). 2 - عرض للوصايا العشر وأهميتها بالنسبة لإسرائيل (5: 1- 11: 32). أ - الله الحي يتكلَّم بصوته مع شعبه بلا وسيط (5: 1-33). ب - توصية الشعب بتعليم الناموس لأولادهم (6: 1-25). ج - حضٌّ على غزو كنعان أرض الموعد (7: 1-26). د - حضٌّ وتحذير من الارتداد عن الله الحي، فليختاروا بين البركة واللعنة (8: 1 - 11: 32). 3 - عرض لتفاصيل العهد وأحكامه الأخرى (12: 1 - 26: 19). أ - عرض للفرائض والأحكام الطقسية (12: 1 - 16: 13). ب - عرض للشرائع المدنية (16: 14 - 20: 20). ج - عرض للشرائع الاجتماعية (21: 1 - 26: 19).
ثالثاً: الحديث الثالث: «ما سيفعله الله لإسرائيل» (27: 1 - 34: 12): 1 - التصديق على العهد لأجل دخول أرض الموعد (27: 1 - 28: 68). أ - إقامة المذبح وكتابة كلمات العهد عليه (27: 1-10). ب - النطق باللعنات والبركات عَبْرَ الأردن على جبلي عيبال وجرزِّيم لناقضي العهد وحافظيه (27: 11 - 28: 68). 2 - هذا العهد هو معكم ومع كل الذين بعدكم (29: 1 - 30: 20). أ - هذا العهد مع كل الذين اختبروا الرب على مدى الأربعين سنة والآتين بعدهم (29: 1-15). ب - التحذير من نقض العهد (29: 16 - 30: 10). ج - دعوة للالتزام بالعهد (30: 11-20). 3 - انتقال وساطة العهد من موسى إلى يشوع (31: 1 - 32: 47). أ - موسى يُكلِّف يشوع بقيادة إسرائيل (31: 1-13). ب - التكليف الإلهي لكل من موسى ويشوع (31: 14-23). ج - وضع كتاب العهد في تابوت العهد (31: 24-30). د - نشيد موسى (32: 1-47). 4 - الرب يُنبئ موسى بموته، وبركة موسى الأخيرة لشعبه (32: 48 - 34: 12). أ - الرب يُنبئ موسى بانتهاء رسالته (32: 48-52). ب - بركة موسى الأخيرة لأسباط إسرائيل (33: 1-29). ج - موت موسى (34: 1-12). (يتبع) |