دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس:

الروح القدس

حياة الكنيسة

- 2 -

الأسرار الكنسية

 

 

 

4 - سر التوبة

(سلطان الحِلِّ من الخطايا)

(وسلطان ربط الشيطان)

سر التوبة هو طقس ينال المؤمن من خلاله نعمة مغفرة الخطايا، بمقتضى رحمة الله، حيث يُقابلها تقديم المؤمن توبة عن خطاياه (التي اقترفها بعد معموديته)، في حضور الكاهن، بالاعتراف الشفوي السرِّي. لذلك تُعتبر التوبة معمودية ثانية، أو تجديداً للمعمودية. ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: ”التوبة الكاملة المكتملة تحلُّ كل خطية“(1).

والذي يغفر الخطية هو الله نفسه، بينما الكاهن هو الذي يطلب من الله أن يغفر خطية التائب، واضعاً نفسه هو أيضاً معه حيث يطلب من أجل نفسه مُسمِّياً نفسه ”وضعفي“؛ كما يُعلن للتائب بعد صلاته واضعاً الصليب على رأسه: ”الله يحاللك“، ويجعله يُقبِّل الصليب التي تمَّت من خلاله مغفرة الخطية بدم المسيح الذي سُفك عليه. وكل هذا يتم في الكنيسة أمام هيكل الله، والتائب جاثياً على ركبتيه مُحنياً رأسه.

ومغفرة الخطية تُمنح للتائب من خلال توبة صادقة واعتراف صريح من القلب وبالفم، دون الحاجة إلى أية إجراءات أخرى، حيث يخرج التائب بعد ذلك وقد رجع إليه برُّه وتقديسُه اللذان نالهما في سرِّ المعمودية وسرِّ المسحة المقدسة، فيصير مرة أخرى ”بارّاً“ مُتقدِّساً بالروح القدس في المسيح أمام الله، بنفس الحالة التي خرج بها من مياه المعمودية المقدسة.

النِّعَم المترتبة على مغفرة الخطايا:

وهكذا نجد أن سرَّ التوبة يبدأ من قلب الإنسان وضميره، حينما يُبكِّته الروح القدس على خطيته (يو 16: 8)، وأنه لم يَعُدْ مستحقاً أن يُدعى لله ابناً (كما في مَثَل الابن الضال - إنجيل لوقا، الأصحاح 15)، فيقوم ويجيء إلى أبيه السماوي ليعترف له بأنه قد أخطأ، فيجد عِوَض مذلَّة الغُربة عن الله رحمةً وأحضاناً مفتوحة في انتظاره، ودم يسوع المسيح ابن الله مستعدّاً ليُطهِّره من كل خطية (1يو 1: 9،7). وإعلان الله له بأن خطيته قد غُفِرَت، وإثمه نُقل عنه (2صم 12: 13)، وكُفِّر عن خطيته (إش 6: 7)؛ فينال مرة أخرى خاتم البنويَّة ويلبس مرة أخرى ثوب البر (لو 15: 22)، ويُتوَّج بإكليل القداسة، تماماً كما وصف المسيح - له المجد - حالة الابن الضال بعد أن رجع إلى بيت أبيه، وكما أعلن لزكَّا أنه «اليوم حصل خلاص لهذا البيت» (لو 19: 9) بعد توبته واعترافه وتصحيحه لكل خطأ فعله، ويسمع من فم المسيح الطاهر إعلان مغفرة الخطية: «مغفورة لك خطاياك» (كما قاله للمفلوج - مت 9: 2؛ وللمرأة الخاطئة - لو 7: 48)، ويتلقَّى حُكم البراءة من الدينونة (كما نطق به للمرأة الخاطئة «ولا أنا أدينكِ، اذهبي ولا تُخطئي أيضاً» - يو 8: 11).

سلطان مغفرة الخطايا:

كل هذا يتم من خلال الممارسة والفعل الروحي الطقسي في الكنيسة أمام الله وبفم الكاهن الموكل بمغفرة خطايا البشر، حسب القول إن الله أعطى الناس سلطان مغفرة الخطايا (مت 9: 8)، وحسب قول المسيح للرسل:

+ «الحق أقول لكم: كلُّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكلُّ ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء. وأقول لكم أيضاً: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات، لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 18-20).

+ «فقال لهم يسوع أيضاً: سلامٌ لكم، كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت» (يو 20: 21-23).

- في هذين التصريحين يتضح أن سلطان مغفرة الخطايا مرتبطٌ جداً بإرسالية الرب للرسل إلى العالم الغارق في الخطايا والمحكوم عليه بالموت، لكي يبشروا الناس بمجيء المخلِّص غافر الخطايا، ومُحرِّر البشر من الموت الأبدي نتيجة خطاياهم.

- ويُلاحَظ أن إعطاء المسيح الروح القدس للتلاميذ هو المقدمة والقوة التي تُصاحب السلطان لمغفرة الخطايا. فالروح القدس هو الذي يُحرِّك الضمير للندم، والقلب للتوبة، والفم للاعتراف بالخطية. فقبول الرسل الروح القدس من المسيح، يعني أن هذا الروح القدس هو صاحب السلطان في مغفرة الخطايا للبشر؛ أما الرسل فهم حاملو هذا السلطان المُفرح للنفوس، والمعطي الرجاء للبشر في الحياة الأبدية وعدم الموت.

- كما يُلاحَظ في كلمات المسيح - له المجد - لتلاميذه وهم في العلِّية (كما جاءت في إنجيل يوحنا - الأصحاح 20)، أن المسيح يضع احتمال عدم استحقاق الشخص للمغفرة، فيقول: «ومَن أمسَكْتُم (”خطاياه“ - وهي ليس في الأصل اليوناني) أُمسِكَتْ». وهو يقصد ”أمسكتم (المغفرة)“، أي ”حجزتم“ أو ”حَبَسْتُم“ أو ”منعتُم“ المغفرة عن غير التائب فهي تُمسَك أو تُمنَع عنه. وهذا طبعاً في حالة الإنسان ”المتمسك“ بخطاياه، العازف عن التوبة، الرافض إيَّاها، وقد اختار العبودية للخطية. ويشير القديس بولس إلى هذه الحالة الصعبة بقوله مُحذِّراً مُنذراً: «انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي... لكي لا يُقسَّى أحدٌ منكم بغرور الخطية» (عب 3: 13،12).

- كما يُلاحَظ أن كلام المسيح عن اجتماع وإجماع الكنيسة، أو الجماعة مهما كانت قليلة العدد: «إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه (أي مغفرة الخطية) فإنه يكون لهما». فهنا يثبِّت المسيح منذ البدء طقس شركة المؤمنين ووحدانية الروح والفكر والرأي من أجل مغفرة الخطايا بعضهم للبعض في معاملاتهم الشخصية. فقد أعطى المسيح للبشر أن يكونوا في شركة واتفاق بعضهم مع البعض، غافرين بعضهم للبعض في نزاعاتهم الشخصية. فإن عَصِيَ أحد الأطراف، فهنا يأتي دور الكنيسة بسلطان الحِلِّ ومغفرة الخطايا أو منع المغفرة عن غير التائب.

كيف يعمل المسيح في غفران خطايا البشر؟

(سلطان رَبْط الشيطان أولاً):

في موضع آخر يتكلَّم المسيح عن سلطان الربط، أي رَبْط الشيطان(2) حينما يسيطر على النفس البشرية التي لم تقبل بعد نعمة الإيمان وبركة مغفرة الخطية، أو تكون قد فقدتها؛ هكذا:

+ «لا يستطيع أحدٌ (المسيح) أن يدخل بيتَ قويٍّ (الشيطان) وينهب أمتعته (أي يفكّ ويُخلِّص النفس التي أَسَرَها الشيطان)، إن لم يربط القويَّ أولاً (فالمسيح هو مالك سلطان ربط الشيطان)، وحينئذ ينهب بيته. الحق أقول لكم: إن جميع الخطايا تُغفر لبني البشر، والتجاديف التي يُجدِّفونها (هذه هي نعمة غفران الخطايا بعد أن رَبَطَ المسيحُ الشيطانَ وفكَّ أَسْر النفس من قبضته)».

+ «ولكن مَن جدَّف على الروح القدس (صاحب سلطان مغفرة الخطايا) فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية» (مر 3: 27-29؛ مت 12: 31؛ لو 11: 22،21).

فالمسيح يُخلِّص النفس البشرية ويفكُّ أَسْرها بعد أن يربط الشيطان الذي أسرها وقبض عليها، بربطه بإصبع الله أي الروح القدس، ويغفر لها خطاياها التي تابت عنها وندمت واعترفت بها، ويضمُّها إلى حظيرة المبرَّرين المتقدِّسين.

هذا هو العمل الذي يُتمِّمه المسيح كل يوم بالروح القدس المُعطَى لخدَّامه في الكنيسة، باعتبارهم حاملي سلطان الحِلِّ والربط، لكي يوزِّعوا بركات (شبَّهها المسيح بغنائم انتصاره على الشيطان) انتصاره وغلبته على الشيطان الذي يربطونه في نفوس الخطاة التائبين لينفكُّوا منه، ويُطلَق سراحهم، ليُمارسوا حرية مجد أولاد الله.

- لذلك، فمن الخطورة بمكان أن تُعاند أيُّ نفسٍ الروحَ القدس، أو يصل بها الأمر أن تُجدِّف عليه، لأنها في هذه الحالة تكون قد نفضت عنها وأدارت ظهرها لصاحب سلطان المغفرة ومُعطي الحياة، أي الروح القدس! حمانا الله وحمى أولادنا وبناتنا وكل شعب المسيح من الانزلاق في هذه الزلَّة المُهلِكة التي كثرت هذه الأيام.

الرسل يُحذِّرون المؤمنين من خطية ”الموت“ هذه:

لخطورة هذه الخطية ”خطية التجديف على الروح القدس“، والتي يُسمِّيها القديس بولس الرسول في رسالة العبرانيين بكلمة واحدة مختصرة: ”سقطوا“ شارحاً نتيجتها: «إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويُشهِّرونه»، نضع أمام القارئ كلمات الرسل القديسين:

+ «لأن الذين استنيروا مرةً (سر المعمودية)، وذاقوا الموهبة السماوية (سر المسحة المقدسة)، وصاروا شركاء الروح القدس (سر الإفخارستيا)، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا (خطية الارتداد عن المسيح)، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابـن الله ثانيةً ويُشهِّرونه» (عب 6: 4-6).

+ «إن رأى أحدٌ أخاه يُخطئ خطية ليست للموت، يطلب فيُعطيه حياةً للذين يُخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يُطلَب» (1يو 5: 16).

نذكر هذه الخطية (الارتداد عن رعويَّة المسيح والإيمان به)، لكي نحزن ونكتئب ونحوِّل حزننا وكآبتنا إلى صلاة وإلى حرارة وغيرة وبذل في خدمة النفوس وتعليمها منذ نشأتها، لكي تثبت في نعمة المسيح والإيمان به منذ الطفولية، لأن القديس بولس يقول في النص السابق مُكمِّلاً كلامه:

+ «لأن أرضاً قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة، وأنتجت عُشباً صالحاً للذين فُلِحَتْ من أجلهم، تنال بركةً من الله. ولكن إن أخرجت شوكاً وحسكاً، فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة، التي نهايتها للحريق» (عب 6: 8،7).

فماذا إن كانت قد حُرِمَت هذه النفوس من مياه النعمة، ولم تتلقَّ التعليم والتربية المسيحية الواجبة منذ الصغر، فمَن يكون المسئول عن هلاكها إلاَّ نحن؟

(يتبع)

********************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون

(1) Athanasius the Great, On Matthew; Migne, PG 27, 1388.

(2) ”الربط“ يُطلق على استحواز الشيطان على النفس (والجسد أحياناً) وإجبار الشخص على إتيان أعمال خاطئة (المرأة المنحنية - لو 13: 16؛ سيمون - أع 8: 23؛ مر 5: 5). أما الحِلُّ من ربط الشيطان فهو يكون بربطه هو، كما في مَثَل الرجل الأقوى الذي ربط وجرَّد الشيطان من سلاحه (مت 12: 29).