اعتاد بعض المسيحيين في أيامنا هذه أن يُشهِروا هذه الآية: «لماذا تضربني»؟ في وجه كل مَن يُطالبهم بالسلوك حسب منطق الصليب، بما فيه من قبول الآلام التي قد تُسبِّبها المعاملة السيئة من قِبَل بعض المتعصِّبين أو المتطرفين من الجانب الآخر. والحقيقة أن ما يظنه هؤلاء أنه تنافر واضح بين هذه الآية وبين بقية تعاليم المسيح وسلوكه تجاه صالبيه، ليس هو تنافراً بل له مغزى مثل كل كلام المسيح وسلوكه! ففي الوقت الذي أصرَّ فيه المسيح ألاَّ يُدافع عن نفسه ولا بكلمة واحدة أمام بيلاطس، بل رفض سلطان بيلاطس في إطلاق سراحه والحكم ببراءته (يو 19: 11)، أو هيرودس؛ جاوب عن نفسه أمام رئيس الكهنة عندما لطمه الخادم على وجهه: + «ولما قال هذا لطم يسوع واحدٌ من الخُدَّام كان واقفاً، قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع: إن كنتُ قد تكلَّمتُ رديّاً فاشهد على الرديِّ، وإنْ حسناً فلماذا تضربني؟ وكـان حنَّان قد أرسله مُوثَقاً إلى قيافا رئيس الكهنة» (يو 18: 22-24). ولكن بالمقارنة مع الأناجيل الأخرى التي تقص علينا موقفه أمام بيلاطس وهيرودس نجد الآتي: + «وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يُجِب بشيء. فقال له بيلاطس: أَمَا تسمع كم يشهدون عليك؟ فلم يُجبه ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجَّب الوالي جداً» (مت 27: 12-14). + «وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً. فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً: أَمَا تُجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك! فلم يُجِب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجَّب بيلاطس» (مر 15: 3-5). + «وأما هيرودس فلما رأى يسوع فَرِح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه، لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجَّى أن يرى آيةً تُصنع منه. وسأله بكلام كثير فلم يُجبه بشيء. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد، فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به، وألبسه لباساً لامعاً، وردَّه إلى بيلاطس» (لو 23: 8-11). والسؤال الآن هو: لماذا لم يُجاوب المسيح عن نفسه أمام بيلاطس أو هيرودس، ولكنه جاوب أمام رئيس الكهنة؟ - نلاحِظ هنا أن جواب المسيح: «لماذا تضربني»؟ جاء في إنجيل يوحنا وحده، ولغة إنجيل يوحنا ليست سطحية، فهو يضرب بجذوره في العهد القديم وطقس الذبائح. فيوم المحاكمة هذا (يوم الصلبوت) هو 14 نيسان، وهو اليوم الذي يُذبَح فيه خروف الفصح. فقول إنجيل يوحنا إن حنَّان أرسله موثقاً إلى قيافا فيه إشارة واضحة إلى الخروف المربوط الأرجل. فماذا يقول العهد القديم عن خروف الفصح؟ + «وكلَّم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلاً: هذا الشهر (نيسان) يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كَلِّما كل جماعة إسرائيل قائلَيْن: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاةً بحسب بيوت الآباء، شاةً للبيت. وإن كان البيت صغيراً عن أن يكون كُفْواً لشاةٍ، يأخذ هو وجاره القريب من بيته بحسب عدد النفوس، كل واحد على حسب أُكْلِه تحسبون للشاة، تكون لكم شاةً صحيحة ذكراً ابن سنة. تأخذونه من الخرفان أو من المواعز. ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر، ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية. ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العُليا في البيوت التي يأكلونه فيها» (خر 12: 1-7). لاحِظ ما ورد في أوصاف الخروف في الآية الخامسة: «تكون لكم شاةً صحيحة»، أي بلا عيب، ليس بها رِجل مكسورة، أو أُذن مقطوعة، أو عين عمياء... إلخ. وواضحٌ أن ذلك يشير إلى أن المسيح كان بلا خطية ولا عيب، قدوس وطاهر في كل شيء؛ وإلاَّ فما كان يصلح أن يكون خروفاً للفصح. + «ولكن إذا كان فيه عيبٌ، عَرَجٌ أو عَمًى، عيبٌ ما رديٌّ (لاحِظ كلمة: ”رديٌّ“ في إجابة المسيح)، فلا تذبحه للرب إلهك» (تث 15: 21). + «لا تذبح للرب إلهك ثوراً أو شاةً فيه عيبٌ، شيءٌ ما رديٌّ، لأن ذلك رجسٌ لدى الرب إلهك» (تث 17: 1). + «... بل بدمٍ كريم، كما من حَمَلٍ بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 19،18). فالمسيح، إذن، جاوب الخادم أمام رئيس الكهنة الذي كان عليه أن يفحص الذبيحة جيداً قبل ذبحها. لقد أراد أن يشهد له أنه حَمَلٌ بلا عيب لائقٌ للذبح، وكأنه يقول له: ”هيَّا! اذبح“! ولذلك فبمجرد أن صدر حُكم السنهدريم بالموت، كان ذلك إشارة لسكين الناموس لكي تبدأ عملها، فأهمل المسيح خدَّيه للَّطم، ووجهه للبصق واللَّكم والسخرية والهُزء. + «ماذا تَرَوْن؟ فأجابوا وقالوا: إنه مُستوجبُ الموت. حيئنذ بصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه قائلين: تنبَّأ لنا أيها المسيح، مَن ضربك» (مت 26: 67،66)؟ + «... ما رأيكم؟ فالجميع حكموا عليه أنه مُستوجبُ الموت. فابتدأ قومٌ يبصقون عليه، ويُغطُّون وجهه ويلكمونه ويقولون له: تنبَّأ. وكان الخدَّام يلطمونه» (مر 14: 65،64). + «وغطَّوْه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبَّأ! مَن هو الذي ضربك» (لو 22: 64). ثم إن المسيح نفَّذ ما أوصى به (ولكن بصورة أقوى): «مَن لطمك على خدِّك الأيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً» (مت 5: 39). فقد أدار، ليس خدَّه، بل نفسه وحياته كلها؛ ليس للَّطم بل لِمَا هو أقسى من اللَّطم، أدار نفسه للموت، والموت على صليب اللعنة. فمجاوبته على خادم رئيس الكهنة لم يكن فيها أي دفاع عن النفس لينال براءة من حُكْم الموت. أين ذلك من الذين يلجأون إلى المظاهرات والهتافات والعنف ورَمْي رجال الأمن وغير المسيحيين بالحجارة، والتنديد برجال الحُكْم وسبُّهم، بحجة أن المسيح قال: «لماذا تضربني»؟! ذاك الذي قال عنه إشعياء النبي إنه: «لم يفتح فاه... سَكَبَ للموت نفسه» (إش 53: 12،7). فالذي قال: «لماذا تضربني»؟ هو نفسه الذي تقدَّم إلى الصليب بكامل إرادته: «لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضاً» (يو 10: 18). ومرة أخرى، هل معنى ذلك أن تنفيذ وصية المسيح تجعلني ”ملطشة“ للناس؟ لا، يا عزيزي، بل ستجعلني آية وشهادة للحياة الأبدية، بقبولي الآلام والاضطهاد والظلم عن رضا، وليس عن غَصْب، حتى يصحَّ فيَّ قول المسيح: «ليس التلميذ أفضل من المعلِّم، ولا العبد أفضل من سيِّده. يكفي التلميذ أن يكون كمعلِّمه، والعبد كسيِّده» (مت 10: 25،24). فهل تريد أن تكون تلميذاً تابعاً للمسيح في قبول الألم والموت برضا وموافقة، لتَعْبُر مثله ومعه إلى القيامة، فتصير واحداً من شهود قيامة المسيح؟ والآن، نعود فنقول إن لغة إنجيل يوحنا لغة سرِّية mystical وعميقة ولا تصلح للقراءة السطحية. فهناك فرق، إذن، بين قراءة إنجيل يوحنا وقراءة أي كتاب آخر. |