دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

دراسة الكتاب المقدس

سفر العدد

سفر التيه والتجربة في البرية

- 33 -

تابع

 

ملخَّص خطة دراسة السفر:
أولاً: إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:1ــ10:10).

        1 ــ تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:1ــ49:4).

        2 ــ تقديس الجماعة (1:5ــ10:10).

ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:10ــ18:25).

        1 ــ بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:10ــ16:12).

        2 ــ أزمة قادش برنيع (1:13ــ45:14).

        3 ــ إخفاق إسرائيل المتواصل (1:15ــ22:19).

        4 ــ حوادث في الطريق إلى موآب (1:20ــ18:25).

ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:26ــ13:36).

        1 ــ إعادة تنظيم إسرائيل (1:26ــ23:27).

        2 ــ شرائع للتقدمات والنذور (1:28ــ16:30).

        3 ــ الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على

                أسباط إسرائيل (1:31ــ13:36).

 

ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18)

4 - حوادث في الطريق إلى موآب (20: 1-25: 18)

د - تابع سقطة إسرائيل في موآب (22: 1-25: 18)

 

نطق بلعام بالبركة لشعب إسرائيل رغماً عنه كآلة يسوقها روح الله، مما أشعل غضب بالاق عليه، كقول الكتاب:

+ «فاشتعل غضب بالاق على بلعام، وصفَّق بيديه وقال بالاق لبلعام: لتشتم أعدائي دعوتُك، وهوذا أنت قد باركتهم الآن ثلاث دفعات. فالآن اهرب إلى مكانك. قلتُ أُكْرِمك إكراماً، وهوذا الرب قد منعك عن الكرامة.» (عدد 24: 10و11)

يا له من تناقض عجيب في كلام بالاق! فكيف يَنسِب للرب أنه هو الذي منع الكرامة عن بلعام، تلك التي كان سيُكْرِمه بها إن هو لعن بني إسرائيل، مع أنه كان يعلم أن بلعام لا يستطيع أن ينطق إلاَّ بالبركة لبني إسرائيل كما أكَّد له ذلك مراراً. والآن هوذا بلعام يُجيبه قائلاً:

+ «فقال بلعام لبالاق : أَلَم أُكلِّم أيضاً رُسلك الذين أرسلتَ إليَّ قائلاً: ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضةً وذهباً لا أقدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيراً أو شراً من نفسي، الذي يتكلَّمه الرب إيـَّاه أتكلَّم. والآن هوذا أنا مُنطلقٌ إلى شعبي، هَلُمَّ أُنبئك بما يفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام.» (عد 24: 12-14)

يقول بلعام هنا إنه منطلق إلى شعبه فيما بين النهرين حيث كان يسكن في بلدة فتور (عد 22: 5)، ولكن الوحي المقدس سوف يذكر لنا في نفس السِّفر (عد 31: 8) أنه لم ينطلق فوراً إلى أرضه، بل تلكَّأ وأقام مدة بين المديانيين حتى قُتل بالسيف مع خمسة ملوك مديان.

أما قوله: «هَلُمَّ أُنبئك بما يفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام»، فلعله أراد بذلك أن يُقدِّم لبالاق شيئاً يسترضي به الملك. فقدَّم له هذه النبوَّة على سبيل التحذير، من جهة؛ ولكي يُطمئنه، من جهة أخرى، بأن إسرائيل لن يبطش بموآب في أيامه، بل ”في آخر الأيام“. ولكنه لم يكن يعرف أن آخر الأيام هذه ليست سوى آخر أيامه هو على الأرض. أما هو فكان ما زال يترجَّى أن يحظى بإرضاء الملك بالاق طامعاً في أخذ شيء من عطاياه.

النبوَّة الرابعة لبلعام:

+ «ثم نطق بمَثله وقال: وحْيُ بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة العليِّ. الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينين. أراه ولكن ليس الآن، أُبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيُحطِّم طَرَفَيْ موآب ويُهلِك كل بني الوَغَى. ويكون أدوم ميراثاً، ويكون سعير أعداؤه ميراثاً. ويصنع إسرائيل ببأس. ويتسلَّط الذي من يعقوب، ويهلك الشارد من مدينةٍ.» (عد 24: 15-19)

نطق بلعام بنفس المقدمة التي نطق بها في نبوَّته الثالثة (ع 3و4)(1)، وهي تؤكِّد أن ما سوف ينطق به إنما يقوله وهو واقع تحت سيطرة روح الله الذي أوقعه في دهش وفتح عينيه ليرى رؤى القدير ويسمع أقوال الله، ويستعلن أموراً لم يكن يعرفها إلاَّ بتوسُّط روح الله.

والآن، اسمعه يقول ما يراه:

+ «أراه ولكن ليس الآن، أُبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيُحطِّم طرفَيْ موآب، ويهلك كل بني الوغى».

يُفسِّر علماء اليهود نبوَّة بلعام هذه بأنها تشير إلى شعب إسرائيل، ولكن من الواضح أنها تشير إلى أمر يتحقَّق بعد زمان ليس قريباً. لذلك فقد فسَّرها آخرون بأنها تشير إلى شخص ذائع الصيت «يُحطِّم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى». فهي قد تشير جزئياً إلى داود الملك الذي انتصر على الموآبيين وقتل الكثيرين منهم وصاروا له عبيداً (2صم 8: 2). ولكن الحقيقة أنها تشير إلى الرب يسوع المسيح الذي دُعِيَ ”كوكب الصبح“ (رؤ 22: 16)، و«شمس البر، والشفاء في أجنحتها» (ملا 4: 2)، لأنه أنار للذين في الظلمة وظلال الموت، وفيه الهداية لكل تابعيه. ويُرجَّح أن بني المشرق - الذين منهم بلعام - حفظوا بالتقليد على مدى العصور نبوَّة بلعام عن الكوكب الذي ظهر في المشرق مُنبئاً عن ولادة المسيح. ولَمَّا كمل الزمان ووُلد المسيح في بيت لحم، ورأى المجوس نجمه العجيب في المشرق، جاءوا إلى اليهودية يبحثون عن المولود ملك اليهود (انظر مت 2: 3).

وقد كتب العلاَّمة أوريجانوس في تفسيره لهذه النبوَّة في شرحه لسفر العدد، قائلاً:

[«أراه ولكن ليس الآن»، لأنه في ملء الزمان أرسل الله ابنه... فقد ذُكر بوضوح في الإنجيل عن هذا الكوكب أنه تقدَّم المجوس حتى جاء بهم إلى بيت لحم (مت 2: 9). وهذا ما يُحيِّرني: أنه «وقف فوق، حيث كان الصبي» (مت 2: 9)، هكذا قال الكتاب دون أن يضيف إن كان قد اختفى فيما بعد، أو أنه قد توارى أو احتجب، أو إلى أين ذهب! وربما يشبه ذلك ما حدث في عماد ربنا، حيث رأى يوحنا روح الله نازلاً في هيئة حمامة ومستقرًّا على المسيح ولم يُفارقه قط. فإني أظن أن النجم أيضاً ”وقف“ فوق حيث كان يسوع ولم يُفارقه قط، حيث كان هذا النجم هو علامة ألوهيته. أما بلعام فقد تنبَّأ بعد ذلك عن طبيعة المسيح البشرية بقوله: «ويقوم قضيب من إسرائيل»...

لقد كانت عند المجوس كتابات بلعام، وعند ولادة يسوع تعرَّفوا على النجم (العجيب) وفهموا أن النبوَّة قد تحقَّقت...

أما قوله إنه «يُهلك كلَّ بني الوغى»، فإننا نترجم الكلمة التي تُرجمت من العبرية «بني الوغى»، أي ”بني شيث“ (كما جاءت في السبعينية التي نقل عنها أوريجانوس)، ويمكن أن يؤخذ المعنى أنه أخذ كغنيمة كل ذرية بني شيث. وشيث هو أبو كل الجنس البشري بعد الطوفان، حيث هلك كل الذين انحدروا من قايين بالطوفان. فالمسيح استمالهم كغنيمة له، كما هو مكتوب في الرسالة إلى أفسس ”الذين هم في السبي سباهم لخاصته“ (انظر أف 4: 8)، بمعنى أنه استردَّ أولئك الذين كانوا أسرى مذلولين قسراً للشيطان، أخذهم الرب وسباهم لخاصته، وأتى بهم من الموت إلى الحياة.](2)

باقي نبوَّة بلعام عن أدوم وبقية الشعوب:

استمر بلعام في نبوءاته عن بقية الشعوب قائلاً:

+ «ويكون أدوم ميراثاً، ويكون سعير أعداؤه ميراثاً. ويصنع إسرائيل ببأس. ويتسلَّط الذي من يعقوب، ويهلك الشارد من مدينةٍ.» (عد 24: 18و19)

أدوم هو عيسو الذي سكن في جبل سعير (انظر تك 32: 3؛ 36: 1و9)، ويقع جنوبي البحر الميت بجوار موآب.

وتشير النبوَّة إلى انتصار داود على الأدوميين واستعباده لهم (2صم 8: 14). ولكنها تشير بنوع أكمل إلى الرب يسوع الذي أُخضِعَت له كل الأمم. وفيه يتم قول المزمور: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» (مز 110: 1)، «اسألني فأُعطيك الأُمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك.» (مز 2: 8)

كما تشير النبوَّة إلى انتصار إسرائيل على أعدائه على مدى الأيام المقبلة، حيث سيكون انتصارهم ببأس وقوة غير عادية، لأنهم سوف يغلبون أُمماً عظيمة بقوة الله العامل معهم. ولكن انتصارهم هذا ليس سوى رمزٍ لانتصار شعب المسيح على إبليس وجنوده وكل قوى الشر الروحية بقوة صليبه المُحيي وقيامته التي غلب بها الموت وكسر شوكته.

وهكذا سوف يتسلَّط الكوكب الذي سيبرز من يعقوب، والقضيب الذي سيقوم من إسرائيل، على جميع أعدائه، ويهلك كل شارد وهارب من الذين لا يريدون الخضوع لإرادته.

نبوَّة عن عماليق:

+ «ثم رأى (بلعام) عماليق، فنطق بمثله وقال: عماليق أول الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك.» (عد 24: 20)

وقع بصر بلعام على العمالقة، وهم نسل أليفاز بكر عيسو (تك 36: 12-16). وكانت أرضهم جنوبي كنعان.

وقد دعاهم أول الشعوب لأنهم كانوا ذوي بأس وسطوة، كما كانوا أول الشعوب التي حاربت بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر (خر 17: 8)، ثم عادوا لمحاربتهم مرة أخرى عند قادش برنيع، وانتصروا على إسرائيل حينذاك، لأن الإسرائيليين خرجوا لمحاربتهم بدون أن يأذن لهم الرب (عد 14: 45).

لكن عماليق رغم أنه أول الشعوب إلاَّ أن آخرته إلى الهلاك. فقد حاربهم شاول بن قيس أول ملوك بني إسرائيل وانتصر عليهم (1صم 15: 1-8). ثم حاربهم داود أيضاً عدة مرات (1صم 27: 7-9، 30: 1و17، 2صم 8: 12). وأخيراً حاربهم حزقيَّا ملك يهوذا وقضى عليهم (1أي 4: 43).

نبوَّة عن القَيْنيين:

+ «ثم رأى (بلعام) القَيْنيَّ فنطق بمثله وقال: ”ليكن مسكنك متيناً، وعشُّك موضوعاً في صخرة. لكن يكون قَاين للدمار، حتى متى يستأسرك أشور“؟ ثم نطق بمثله وقال: آه، مَن يعيش حين يفعل ذلك. وتأتي سُفن من ناحية كتِّيم، وتُخضِع أشور وتُخضِع عَابر، فهو أيضاً إلى الهلاك. ثم قام بلعام وانطلق ورجع إلى مكانه. وبالاق أيضاً ذهب في طريقه.» (عد 24: 21-25)

”القيني“ أو ”القينيون“ هم نسل رجل اسمه ”قاين“، وكانوا بدواً. وقد جاء ذِكرهم لأول مرة عندما قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: «لنسلك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر، إلى النهر الكبير الفرات: القينيين، والقنزِّيين، والقدمونيين، والحثِّيين، والفرزِّيين، والرفائيِّين، والأموريين، والكنعانيين، والجرجاشيين، واليبوسيين.» (تك 15: 18-21)

ويبدو أن القينيين قد اندمجوا مع المديانيين، لذلك اعتُبر يثرون كاهن مديان وحمو موسى قينياً. وقد طلب موسى من حوباب (القيني) بن رعوئيل المدياني حَمِي موسى (يثرون) أن يصحب بني إسرائيل في البرية لكي يُريهم الطريق (عد 10: 29، قض 1: 16). وسكن بنو القيني حَمِي موسى مع بني إسرائيل كما جاء في (قض 1: 16): «وبنو القيني حَمِي موسى صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا التي في جنوبي عراد، وذهبوا وسكنوا مع الشعب».

وقد تنبَّأ بلعام عن القينيين أن مسكنهم سيكون متيناً كما لو كان قائماً في صخرة، ولكن وا أسفاه فهو لن ينجو من الدمار. فمتانته لن تحميه من الهلاك، لأن أشور سوف تستأسره وتستعبده.

أما قول بلعام: «آه، مَن يعيش حين يفعل ذلك»! فلعلها تشير إلى أن بلعام نفسه لن يعيش حتى يـــرى تحقيق هــذه النبوءات. فقد ذكر لنا الوحي أن بلعام قد قُتل قبل أن ينطلق إلى أرضه (عد 31: 8).

خاتمة نبوَّة بلعام:

+ «وتأتي سُفن من ناحية كتِّيم، وتُخضِع أشور وتُخضِع عَابر فهو أيضاً إلى الهلاك».

يُطلق اسم ”كتِّيم“ على الممالك الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. ونبوَّة بلعام هذه تشير إلى السفن التي من مملكة اليونان التي سوف تغزو بلاد الأشوريين والعبرانيين وتُخضع هذه الشعوب الأسيوية وتستولي عليها.

ولكن مصير هذه الشعوب كلها إلى الهلاك كممالك أرضية، ولكنها في النهاية ستخضع للذي سيُخضَع له الكل أي المسيح ابن الله الذي ستخضع له كل ممالك الأرض.

ثم قام بلعام وانطلق إلى مكانه، كما ذهب بالاق إلى طريقه. أما كلمة الرب فتدوم إلى الأبد.

أما ما نستدله من سيرة بلعام هذه وقصته مع بالاق وبني إسرائيل، فقد ألقى العهد الجديد الكثير من الضوء على شخصيته الغامضة التي يبدو فيها مزيج من النبوَّة والمعرفة بالإله الحقيقي مع سعي غريب نحو المكسب المادي والممارسات الوثنية.

ففي رسالة بطرس الثانية يتكلَّم عن بلعام فيقول: «قد تركوا الطريق المستقيم، فضلُّوا، تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم» (2بط 2: 15)، مبيِّناً أن طريق بلعام هو السلوك الشهواني لنبي مأجور توَّاق فقط أن يتاجر بموهبته.

أما رسالة يهوذا فيُبيِّن فيها كيف كان بلعام يعيش في ضلال، لأنه كان يطلب أن يلعن الله شعب إسرائيل، كأنه يستحق ذلك، بسبب الشر الذي فيه، وكل ذلك لأجل أُجرة سيحصل عليها من بالاق (يه 11).

أما في رؤيا 2: 14، فهو يتكلَّم عن قوم «متمسِّكين بتعليم بلعام، الذي كان يُعلِّم بالاق أن يُلقي معثرة أمام بني إسرائيل: أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان، ويزنوا» (انظر عد 31: 15و16؛ 22: 5و6؛ 23: 8- إلخ). فبلعام مثال لنبي عرَّاف يخلط بين الحق والإثم، وبين المعرفة الحقيقية للإله الحقيقي والممارسات الوثنية التي تجعل الحقيقة يشوبها الغموض، ويُغوي أولاد الله لعمل الشر والزنا عن الإله الحقيقي.

وفي النهاية، فإننا نرى في قصة بلعام تحذيراً لكل خادم من خدَّام الله ألاَّ يتاجروا بمواهبهم، وأن تكون خدمتهم نقية من كل شهوة وميل نحو العالم، أو مهادنة مع الشيطان في شرٍّ أو خطية.

(يتبع)

 


(1) انظر مقالة: ”دراسة الكتاب المقدس“ السابقة، عدد سبتمبر 2005، ص 6.

(2) Origène, Hom. 18 sur Nb; PG 12,717-718.