دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

في  تدبير  التجسُّد:

- 7 -

سـر  الفداء

- 4 -

الفداء وذبيحة الصليب

nvVvn

إن تدبير التجسُّد يتضمن - بحسب تعليم آباء الكنيسة - تدبير الخلاص من كِلاَ: خطية العصيان، كما من نتائج هذه الخطية. الخطية سبَّبت سقوط الإنسان، ولابد من إقامته. وكما أشار القديس أثناسيوس الرسولي مراراً، فإن محو الخطية بالغفران لا يكفي طالما بقيت نتائج هذه الخطية، وإلاَّ فسنظل في حالة الموت والهلاك([1]).

لذلك، فإن تجديد الخليقة يجب أن يتم بالتعامل مع كِلاَ نتائج السقوط وسببه. فالموت يجب أن يُهزم، والتوافق بين الجسد والنفس يجب أن يُستَرَدَّ، وشفاء الطبيعة البشرية من الموت يجب أن يتم، ليس على مستوى الفرد بل للبشرية جمعاء، كما يُعلِّم بهذا القديس غريغوريوس اللاهوتي([2]).

ومن هنا أتى تدبير التجسُّد يحمل تدبير الخلاص للبشرية، والذي يهدف في النهاية إلى الحياة الأبدية (بإبطال الموت)، وهذا الهدف يُسميه الآباء بـ ”الثيئوسيس“، وترجمته الحرفية ”التأليه“.

هذا الهدف - كما أوضحنا - يقف أمامه حاجز الخطية والموت. لذلك كان لابد أن يدخل ضمن تدبير التجسُّد، ليس فقط اتخاذ ابن الله الطبيعة البشرية والحياة البشرية لنفسه، بل وأيضاً اتخاذه الموت البشري نفسه. فقمة التجسُّد كانت الصليب.

الصليب في تعليم الآباء:

إن صليب الرب يسوع المسيح عند الآباء هو قمة وتكميل تدبير التجسُّد. فهو الأداة الأولى للخلاص. فيرى الآباء في صليب الجلجثة أوضح تحقيق لتنازل ابن الله وإخلائه لذاته، وتجميعه كل آلام البشرية وموتها في نفسه.

لقد نزل الله إلى أدنى مستوى في حالتنا الساقطة وهو ”الموت“([3])، كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي. لقد أخلى ابن الله ذاته من مجده ووضع ذاته أمام مذبح المحبة الإلهية الباذلة([4]). لقد ركَّز الله في نفسه المسيرة الخائبة لآدم الأول، فبدَّد من على شجرة الصليب نتائج تعدِّي آدم الأول أمام شجرة المعرفة، حتى يصير في إمكان البشرية مرة أخرى أن تشترك في شجرة الحياة([5]).

في تعليم آباء الكنيسة إن كل الإنسان قد خلص على الصليب، بما فيه مِن كِلاَ الخطية التي سبَّبت السقوط وكذلك الموت الناتج عنه. وفي التجسُّد كان اتخاذ الطبيعة البشرية كاملاً، واتخاذ الحياة البشريـة والوجـود البشري كـاملاً، باستثناء واحد وهـو الخطية؛ إلاَّ أن المسيح جُعل لأجلنا ”خطية“ (2كو 5: 21)، وأخذ معه هذه الخطية وسمَّرها على الصليب([6]). وكذلك صار المسيح ”لعنة“ لأجلنا (غل 3: 13). ولكن بَقِيَ عدو واحد لم يُبطَل وهو ”الموت“ (1كو 15: 26). لذلك فاتخاذ المسيح للموت البشري كان كاملاً أيضاً، إلاَّ أن القبر لم يقدر أن يمسكه (أع 2: 24). ونتيجة لذلك، فإن الموت هُزم وأُبيد بموت المسيح.

خطايانا سُمِّرت مع المسيح على الخشبة:

إن اتخاذ المسيح الطبيعة البشرية، في تجسُّده، كشف الحقيقة بأن ”بيت لحم الصغرى“ ”أرجعتنا إلى الفردوس“([7])، ومن هنا أتت مقولة القديس غريغوريوس اللاهوتي: ”بضع نقط من دم المسيح أعادت خلقة كل العالم“([8]). فبصليب المسيح أُبيد الموت، وتأسَّس الانتصار على القبر([9]).

وإذا كان المسيح قد ”نزل“ بإرادته ليصير خادماً، إلاَّ أنه ”صعد“ إلى الصليب، ”حاملاً خطاياي معه.“([10])

والمسيح ”وهو يُمثِّلنا في شخصه، جعل جهالاتنا وخطايانا على نفسه“([11])، وحينما صُلِب، ”صَلَب خطاياي“ في نفس الوقت([12]). لقد مات الابن المتجسِّد على الصليب، وبذلك الموت حطَّم الموت ووهبنا الحياة([13]).

المسيح الذبيحة، والكاهن مُقدِّم الذبيحة، بآن واحد:

إن القديس غريغوريوس اللاهوتي، مثله مثل كثير من آباء الكنيسة الأبرار، كانت لغته اللاهوتية متأسِّسة على لغة الإنجيل وهو يشرح ذبيحة صليب ربنا يسوع المسيح، وكان يستخدم التشبيهات والأمثلة الإنجيلية في شرح ذبيحة الفداء؛ ولكن ما يجب أن نُلاحظه أن ذلك الاستخدام لم يكن بطريقة محاكاة حرفية لألفاظ الإنجيل، بل بطريقته وبصياغته هو لأفضل التعبيرات والألفاظ التي تعبِّر عن رؤيته لمجد صليب الجلجثة.

ومن أكثر التشبيهات الإنجيلية التي كان يستخدمها لتصوير موت المسيح على الصليب، تشبيه: ”الذبيحة“([14]).

ففي ذبيحة الصليب، يظهر المسيح أنه كِلاَ مُقدِّم الذبيحة والذبيحة التي تُقدَّم؛ أي أنه رئيس الكهنة (كما في العهد القديم)، وفي نفس الوقت كان هو حَمَلُ الفصح الذي كان يُقدِّمه رئيس الكهنة داخل قدس الأقداس.

ويوضح القديس غريغوريوس أن ذبيحة الجلجثة لم تلغِ مفهوم الذبيحة كما كان في العهد القديم؛ بل بالحري قدَّست هذا المفهوم إذ صار المسيح هو وحده الذبيحة الحقيقية الواحدة التي تقدَّمت بإرادتها، وبطاعته الإرادية ”بإرادته وسلطانه وحده“ (كما في قدَّاس القديس غريغوريوس) تقدَّم إلى مذبح الصليب ليُقدِّم نفسه الذبيحة الكاملة التي تقدر أن تُطهِّر وتغسل العالم كله([15]).

إن هذا المفهوم عن المسيح أنه الكاهن والذبيحة معاً، يستخدمه القديس غريغوريوس ليشرح المفهوم الدقيق لاتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في المسيح.

فالمسيح، ابن الله المتجسِّد، هو دائماً أقنوم واحد من طبيعتين، وبالرغم من أن القديس غريغوريوس يضطر أحياناً أن يلجأ إلى شرح أفعال ”الطبيعة الأدنى - أي البشرية“ وأفعال الطبيعة الإلهية بنسبتها إلى ”الطبيعة الأسمى“، لكنه يرفض هذا الفصل في كتاباته المتأخرة، بل هو أول مَن استخدم تعبير ”اتحاد الطبيعتين“ الذي استخدمه الآباء اللاحقون في شرح وحدة شخص المسيح. ولذلك يهتم القديس غريغوريوس بالتأكيد على كمال الاتحاد بين الله والإنسان في المسيح، ذلك لأن كل طبيعتنا البشرية من جسد ونفس وعقل قد تأثرت بموت المسيح([16]), لأن الانتصار على الموت هو عمل لا يمكن لأحد عمله إلاَّ الله وحده. لذلك فإن آلام الابن المتجسِّد هي عمل الله في الابن المتجسِّد، الأقنوم الواحد من الطبيعتين المتحدتين معاً اتحاداً كاملاً.

ومن هنا أتى التأكيد على أنه على الصليب اتضح عمل الله الخلاصي بأوضح صورة، إذ هنا على الصليب نحن خلصنا بآلام ذاك الذي هو غير القابل للألم (أي أن الألم الذي وقع على الجسد وحده يمكن نسبته إلى الله ليتضح أنه ألم خلاصي قادر أن يُخلِّصنا من ربقة الموت)، مثلما قال القديس بولس: «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28)، ناسباً الدم إلى الله مع أن الدم سُفك من جسد ابن الله المتجسِّد، لكن الاتحاد بين الطبيعتين كان حاضراً حتى على الصليب من أجل كمال واكتمال ذبيحة الصليب.

وهكذا يقول الآباء المعلِّمون الأرثوذكس:

[مع كونه ”غير قابل للألم“ بطبعه (اللاهوتي)، إلاَّ أنه تألَّم في الجسد بإرادته.]

القديس كيرلس الكبير - في رسالته ضد نسطور 5:5

لماذا ذبيحة المسيح هي ذبيحة كاملة؟

ولهذا كانت ذبيحة المسيح كاملة وكفؤاً لإبادة الموت ومحو الخطية، وذلك ”ليس فقط بسبب لاهوت المسيح الذي ليس كاملاً سواه، ولكن أيضاً لأن الطبيعة البشرية التي اتخذها ابن الله قد مُسِحَتْ بلاهوت الابن الأقنوم الثاني المتحد بها.“([17])

سفك دم المسيح وعمله في خلاصنا:

لقد سُفك دم المسيح، ويؤكِّد الآباء القديسون أن الآب لم يطلب ولا سأل أن يسفك المسيح دمه، وهذا ينفي الزعم أن موت المسيح كان مطلباً إلهياً من الآب استيفاءً للعدل الإلهي:

[إن سفك دم المسيح لم يُدخل السرور على قلب الآب الذي سبق ولم يقبل أن يُذبح إسحق حينما قدَّمه أبوه، إذ أوْجَد كبشاً عِوَضاً عن هذه الذبيحة العاقلة. فواضح، إذن، أن الآب لم يطلب ولا سأل أن يسفك الابن دمه...]([18])

ولكن السبب في أن الله قَبـِلَ ذبيحة المسيح هو أنه قَبـِلها بـ ”التدبير“ (أي بموجب تدبير التجسُّد)؛ أي أن قبول الآب لذبيحة المسيح كان على أساس حقيقة أن الله نفسه هو الذي صنع هذه الذبيحة. فالتدبير الإلهي كان مصالحة الله مع البشرية ليس بناءً على مطالب العدل الإلهي، كما صوَّره لاهوتيو الغرب في العصور الوسطى، بل بناءً على أن الله هو صانع خلاصنا. فالله هو الدافع وهو الفاعل والوسيلة، فهو الفعَّال في تدبير الخلاص. الله المثلث الأقانيم (الآب والابن والروح القدس) هو فاعل خلاصنا، فهو الذي خلق الإنسان متوشِّحاً بحريَّة الإرادة ما جعلته يختار العصيان، وهو الذي دبَّر له الخلاص منذ أن أخطأ. ثم كان هذا الخلاص بالفداء بدم ابن الله. فالآب، إذن، قَبـِلَ ذبيحة ابنه لأن الآب الذي بذل ابنه هو الله، ولأن الابن الذي قدَّم نفسه هو الله. لقد كان الدافع وراء ذبيحة المسيح هو خلاص البشرية، وكل أقنوم أدَّى عمله المميَّز، لكن الأقانيم الإلهية أكملت الخلاص لغاية واحدة وحيدة. ويشرح القديس غريغوريوس معنى كلمته بأن الآب قَبـِلَ ذبيحة الابن ”بسبب التدبير“ بتأكيده على أنه:

[كان ضرورياً أن يتقدَّس الإنسان ببشرية الله، حتى إذا انهزم الطاغي (الشيطان)، فإن الآب يُطلقنا أحراراً ويردَّنا إليه من خلال توسُّط الابن، وكل هذا لمجد الآب صانع تدبير الخلاص.]([19])

وكما أن المسيح هو ”الذبيحة“، كذلك هو أيضاً ”الفدية“. فباعتباره ”ذبيحة“ فهو أيضاً ”الكاهن“، وباعتباره ”الفدية“ فهو ”الثمن“ الذي بذله الآب من أجل تحرير البشرية. و”بقوة التجسُّد“ تم تقديس البشرية بعمل الله للإنسان وهو في عمق حالة الخطية والموت.

([1]) هذه النقطة أكَّد عليها آباء الكنيسة مراراً، ولكن أفضل تعبير عنها ورد في كتاب: ”تجسُّد الكلمة“ للقديس أثناسيوس الرسولي: 7.

([2]) Oration 16:15 (PG 35,933C); 32:22 (PG 36:200B); 39:13 (PG 36,348D).

([3]) Oration 29:20 (PG 36,100C-101C), Or. 37:2 (PG 36,284C).

([4]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 37:3 (PG 36,285B).

([5]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 2:25 (PG 35,433C), 29:20 (PG 36,101B), 33:9 ( PG 36,225C).

([6]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 43:64 (PG 36,581A).

([7]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 38:17 (PG 36,329D-332A).

([8]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 45:29 (PG 36,664A).

([9]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Ibid., 22 (PG 36,653C).

([10]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 4:78 (PG 35,604BC).

([11]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 30:5 (PG 36,109B).

([12]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 38:16 (PG 36,329C).

([13]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 29:20 (PG 36,101B).

([14]) وهو يستخدم كلمة ”thuma“ و ”thusia“ اليونانيتين لشرح ما نترجمه للعربية ”ذبيحة“.

([15]) ظهر هذا التعليم في مواضع كثيرة من مقالات القديس غريغوريوس:

Oration 107; 2:88: 12:2; 30:6,27; 37:4; 38:16; 45:13 (PG 35:400C, 492B, 845A; 30:6,21; 36:109C, 132C; 36:288A; 38:16; 45:13).

([16]) كما في : Oration 30:21 (PG 36,132B).

([17]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 45:13 (PG 36,641A).

([18]) القديس غريغوريوس اللاهوتي: Oration 45:22 (PG 36,653B).

([19]) Oration 45:22 (PG 36,653B).