من تاريخ كنيستنا
- 188 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا يوأنس التاسع عشر
البطريرك الثالث عشر بعد المائة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1928 م - 1942 م)
- 3 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)

استكمالاً لما كتبناه في (عدد مايو 2021):

مخالفة تقليد وقوانين

اختيار البطاركة في الكنيسة القبطية:

قبل أن نسترسل في سرد التاريخ لعصر البابا يوأنس التاسع عشر، يلزم عرض التقليد الكنسي الخاص باختيار بطاركة الكنيسة والقوانين المنظِّمة له. هذا الموضوع تلوكه الألسن اليوم كأنه أمر يخضع للرأي الشخصي، متجاهلين أن لكنيستنا تقليد عريق، حيث تعتبر أقدم كيان مؤسَّسي قائم على الأرض على مدى ألفي عام. إن التقليد الكنسي مع الخبرة القانونية التاريخية لكنيستنا سخرهما الله في الحفاظ على استمرار الكنيسة قائمة عبر السنين بالرغم مما تعرَّضت له من أهوال. لذلك لا يوجد أي مبرر لأن نخالف نظام كنيستنا لنتبع نُظُمًا خارج نطاق التقليد والقانون الكنسي.

كنيستنا القبطية العريقة لها تقليدها الخاص وقوانينها العتيقة المختبرة بالزمن. وحسب تلك القوانين فإن قداسة البابا الأنبا يوأنس، البطريرك الثالث عشر بعد المائة من بطاركة الإسكندرية، يعتبر أول مَنْ خالف قوانين الكنيسة الخاصة باختيار البطريرك في تاريخ كنيستنا بقبوله منصب البطريرك، بينما كان قد سبق له أن رُسم مطرانًا للبحيرة.

ويلزم التنويه إلى أن تقرير تلك المخالفات للقانون الكنسي لا يلغي الواقع التاريخي للبطريرك المخالف في زمن شَغْلِه لتلك الرتبة مع تقبل الشعب. ولا يقلل بأي شكل من قيمة ما قدَّمه من خدمات وأعمال جليلة، أو ما حدث في زمان حبريته من إخفاقات ومتاعب للكنيسة.

خلال القرن التاسع عشر حدثت عدة محاولات لترشيح أساقفة للكرسي البطريركي، وكان ذلك أمرًا مرفوضًا من الكنيسة الواعية، فحقَّقت كل المحاولات فشلًا بسبب وقفة الشعب وأراخنته الحافظين للتقليد الكنسي القويم مع مطارنة الكنيسة القبطية المستنيرين. وبعد نياحة البابا بطرس الجاولي البطريرك 109، سنة 1852م قام أنبا يوساب أسقف أخميم وجمع حوله بعض من رجال الكهنوت والأراخنة في محاولة لإقامته بطريركًا للكنيسة. لكن الشعب الواعي تمسَّك بالراهب داود الأنطوني ورفض مخالفة القانون، فتمت رسامته باسم البابا كيرلس الرابع البطريرك 110. وكذلك بعد نياحة البابا ديمتريوس الثاني البطريرك 111، سنة 1870م قام الأنبا مرقس مطران البحيرة القائم مقام، وحاول ترشيح نفسه للبطريركية. لكن الشعب مع مطارنة الكنيسة المتعففين عن المناصب، وقفوا بقوة ضد محاولاته المخالفة للقانون الكنسي. وفي عام 1873 قام المطارنة بتشكيل مجمعًا مقدسًا حسم الأمر لمنع تكرار تلك المحاولات.

وصدر قرار المجمع المقدَّس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عام 1873(1)، يحمل دراسة شاملة قدَّم فيها شرحًا وافيًا للقانون الكنسي والحكمة البالغة في منع ترشيح الأسقف للبطريركية. ورجع في ذلك للكتاب المقدَّس وقوانين المجامع وأقوال الآباء. وبناء على ذلك قرر المجمع عدم جواز ترشيح الأسقف للبطريركية. وختم المجمع القرار بما يلي:

[لا نسلم ولا نسمح قط للكهنة وشعب الكرازة المرقسية بحل وتعدِّي هذه الحدود الأبوية، وكل مَنْ يطلب رتبة البطريرك من الأساقفة أو المطارنة أصحاب الكراسي أو سعى فيها أو رضي بها، أو أحد سعى له في شأن يطلبون له، كاهن أو رئيس كهنة أو علماني؛ يكون محرومًا].

ونتيجة لذلك الموقف الحاسم للمجمع أن تم انتخاب الراهب يوحنا الناسخ ورسامته بطريركًا باسم البابا كيرلس الخامس في أول نوفمبر 1874م.

البطريرك هو أسقف المدينة العظمى الإسكندرية:

درجة الأسقفية هي أعلى رتبة كنسية، فالبطريرك يحمل رتبة أسقف ولا يوجد ترقي بين رتب الكنيسة لكنه أمر مستحدث. البطريرك هو أسقف مدينة الإسكندرية حسب القانون السادس من قوانين مجمع نيقية المسكوني. وهو الأول بين متساويين، فرتبته تتساوى مع كافة أساقفة الكنيسة. لذلك لا يوجد قوانين كنسية خاصة باختيار البطريرك، حيث أن قوانين الكنيسة لاختيار الأسقف تشمل اختيار البطريرك باعتبار أنه أسقف مدينة الإسكندرية العظمى.

لقب "بطريرك" استخدم أولًا لأسقف مدينة أنطاكية(2) باعتباره متقدِّم الأساقفة. ثم تناقلته كنائس العالم. أمَّا لقب "بابا" فقد أُطلِق على أسقف الإسكندرية لا كرتبة كنسية، بل مجرد تعبير عن شعور شعبي أبوي للبطريرك، وأُطلِق لأول مرة للبابا ياروكلاس البطريرك الثالث عشر لكنيسة الإسكندرية.

قوانين مجمع نيقية وأسقف الإسكندرية

المجمع المسكوني المقدَّس الأول المنعقد بنيقية عام 325 م. كان من أهم أهدافه وضع تنظيم مسكوني لإدارة الكنيسة على مستوى العالم المسيحي كله، فقام بوضع 20 قانونًا لهذا الغرض. القانون السادس والقانون الخامس عشر من قوانين المجمع لهما أهمية خاصة بالنسبة لكنيسة الإسكندرية وتنظيم اختيار أسقفها.

القانون السادس يقرر رئاسة أسقف الإسكندرية على الكنيسة في إقليم مصر وليبيا والخمس مدن الغربية. أما القانون الخامس عشر فقد حرَّم نقل الأسقف (أو أية رتبة كنسية أخرى) من المدينة التي رُسِمَ عليها إلى مدينة أخرى. هذه القرارات صدرت نتيجة لخبرات عملية أضرت بسلام الكنيسة وتسببت في متاعب جمة لها.

أولًا: القانون السادس من قوانين مجمع نيقية: [فلنحفظ العادات القديمة في مصر وليبيا والمدن الخمس في أن لأسقف الإسكندرية الرئاسة عليها]. هذا القانون يُعرِّف متقدم الأساقفة (المتروبوليت) في الكرازة المرقسية أنه "أسقف الإسكندرية" وحده. سبب ذلك أن ميليتس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) قام في غيبة البابا بطرس خاتم الشهداء برسامة أساقفة. مجمع نيقية حرم ميليتس كما حرم كل من رسمهم واعتبر هذا التصرف هرطقة، حيث أنه لا يجوز لأي أسقف أن يقوم بهذه المسئولية سوى الأسقف المنتخب لمدينة الإسكندرية وحده.

ثانيًا: نص القانون رقم 15 من قوانين مجمع نيقية: [أنه بسبب ما ينشأ من الخلاف والتشويش البالغين قد تقرر منع العادة التي شاعت في بعض الأماكن المخالفة للقانون الرسولي، فلا يُسمَح بعد الآن لأسقف أو قس أو شماس أن ينتقل من مدينة إلى أخرى. وإذا حاول أحد الإكليريكيين، بعد صدور قرار المجمع المقدَّس والعظيم هذا، القيام بعمل من هذا النوع أو استمر على المخالفة، فكل ما يقوم به يعتبر باطلًا، ويلزم أن يُعاد للكنيسة التي رُسِم أُسقفًا أو قسًّا عليها]. وتؤكد نفس الفكرة [قوانين الرسل 14، 15 - مجمع أنطاكية 3، 21 - مجمع سرديقيا 1، 16 - مجمع قرطاج 57].

توضيح قديم لنص القانون:

[لا يجوز لأسقف أو قس أو شماس الانتقال من مدينة إلى مدينة أخرى، بل يجب إرجاع كل واحد إلى الكنيسة التي سيم لخدمتها. ولو لم يحدث شيء من المشاكل، فإن فكرة الإيمان نفسها بأن العلاقة بين الإكليريكي وكنيسته التي سيم لخدمتها تشبه عقد زواج مقدَّس سري بينهما مما لا يُجيز انفصال أو استبدال]. إنَّ أهم أسباب ذلك المنع أنَّ دافع التنقل هو الطمع. وكان ذلك باعثًا لإغراء أساقفة الأبروشيات الصغيرة للتسلُّق لتحقيق مطامعهم بتملق أصحاب السلطان. وكثيرًا ما كانت السلطة الزمنية تتدخل لمساعدة الأسقف على الانتقال لأبروشية أكبر وأكثر غنى.

القانون رقم 14 من قوانين الرسل لا يمنع الانتقال منعًا مطلقًا بل يأذن به لسبب مقبول.

قرار الأنبا ميخائيل الأول بابا الإسكندرية السادس والأربعين الخاص بأسقف حاران وهو التهديد من الحاكم: [لا السيف ولا النار ولا الرمي للأسد ولا النفي ولا هذه كلها مجتمعة تُخيفني. لن أرضى بعمل غير قانوني (قوانين مجمع نيقية). ولن أُدخل نفسي تحت حرمي الذي كتبته بخط يدي والذي أعلنت فيه أنه لا يجوز لأسقف أن يصير بطريركًا. ولقد حرم آباؤنا المكرَّمون كل من يأخذ الكهنوت من يد السلطان. فإن الأساقفة كانوا قد كتبوا إليَّ من أنطاكية في أيام يوحنا البطريرك أن كل من جلس بعده من المطارنة على السدة البطريركية يكون محرومًا. وقد وقَّعت بإمضائي على قرارهم هذا. فكيف أحرم نفسي الآن؟ وكيف أبرر اليوم ما حرمته بالأمس؟ بل كيف أعترف الآن بما أنكرته من قبل؟ وأن الآباء المكرَّمين أنفسهم قد حرموا كل من يسلك هذا المسلك].

إن التاريخ يشهد لأمانة كنيستنا القبطية في احترام القانون الكنسي بكل دقة، والالتزام بالتقليد الكنسي الصحيح في اختيار البطريرك على مدى عشرين قرنًا. منذ الربع الأول من القرن العشرين بدأ التغيير والمخالفة قام بها ثلاثة بطاركة متعاقبين كانوا أول مَنْ خالف القانون الكنسي للكنيسة القبطية. لذلك تعرضوا لهجوم شعبي. وظهرت عدة كتب تعارض سلوكهم. كتاب: "سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية" للأستاذ بشارة بسطوروس الذي أهداه للبابا الأنبا يوساب! كما ظهر الجزء السادس من كتاب قصة الكنيسة القبطية، إيريس حبيب المصري، يحمل نفس العنوان "كيف سقط الجبابرة" شرحت فيه تفاصيل 32 عامًا من المخالفة (عام 1927 حتى عام 1959) اعتبرت فيها الكنيسة القبطية يتيمة بلا بطريرك، حين لم يكن أيًّا من البطاركة أسقفًا مرسومًا للإسكندرية بالمخالفة للقانون السادس والقانون الخامس عشر لمجمع نيقية. كما صدرت مجلة مدارس الأحد "رسالة البعث الجديد" في عام 1947 يحمل غلافها صورة المسيح وهو يطرد الباعة من الهيكل. كان أهم أهدافها هو العودة للقانون الكنسي الغائب في اختيار البطريرك. وكانت مطالب الإصلاح للأرشيدياكون حبيب جرجس مع حبيب باشا المصري تتردد في المجتمع الكنسي.

ليس أحد ينكر ما قام به البطاركة الثلاثة من أعمال عظيمة، سواء أثناء خدمتهم كأساقفة أم فوق الكرسي البطريركي يقودون الكنيسة. الله لا ينسى تعب المحبة حتى لو كان كأس ماء بارد. وبالرغم مما قدمه البطاركة الثلاثة من مشاعر الندم حتى البكاء، وكل ما عملوه من خير يلزم ألا يُنسينا ذلك الخطأ التاريخي الذي كانت له آثار ضارة بالكنيسة، حيث يلزم العمل على منع تكراره. وذلك لا يعني أبدًا أن ننكر حقهم فيما قدَّموه من جهد عظيم.

يقول أبونا متى المسكين في تقديمه لكتاب قصة الكنيسة القبطية الجزء السادس: [بل إني أعتقد أن هذه الإخفاقات المريرة التي عبرت عليها الكنيسة في حياة كل من المطوَّب الذكر الأنبا يؤانس التاسع عشر وأنبا مكاريوس الثالث قد أصابت الوعي الروحي للشعب بقصور وأتلفت حاسة تقييمه للتقليد المقدس. لكن موقف والِدِكِ العظيم "حبيب المصري" كان ولا يزال يمثل عنصر الديمومة للأمانة المطلقة في الكنيسة من نحو تقليدها وتراثها الحي الذي لن تحجبه عن الإشراق إلا فترات زمنية قصرت أو طالت].

***

المراجع:

1 - قصة تاريخ الكنيسة القبطية ج 6: إيريس حبيب المصري
2 - سلسلة تاريخ البطاركة ج 3: كامل صالح نخلة
3 - التدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة: الراهب باسيليوس المقاري.
4 - سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية: بشارة بسطوروس.
5 - مجلة مدارس الأحد عام 1954 م.

(يتبع)
م. فؤاد نجيب يوسف

__________________________________
(1) كتاب "سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية" بقلم الأستاذ بشارة بسطوروس؛ عرض الدراسة في 14 صفحة (ص 54 - 68).
(2) مجلة مدارس الأحد يونيو عام 1954، الأستاذ يسى حنا ص 2.

_
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis