انتقال رئيس تحرير المجلة


الأب يوحنا المقاري
(1931 - 2021 م)


*الاسم قبل الرهبنة: رؤوف جرجس رزق
تاريخ الميلاد: 12/5/1931
محل الميلاد: شبرا – القاهرة
بكالوريوس صيدلة – جامعة القاهرة – 1951
ترهَّب بوادي الريان: 1966
أخذ الشكل الرهباني: 7/1/1967
انتقل إلى الأمجاد السماوية: السبت 3/7/2021

يعزُّ علينا أن يصدر هذا العدد وقد فارقنا رئيس تحرير المجلة منذ نشأتها عام 1963م الأب يوحنا المقاري، إذ فارق هذا العالم الفاني يوم السبت 3 يوليو 2021م الماضي، شيخًا وشبعان أيام، وله من العمر تسعون عامًا.

وقد أرسل قداسة البابا تواضروس الثاني برقية تعزية لرهبان الدير، كتب فيها:

[خالص تعزيتي القلبية في رحيل هذا الأب الراهب الوقور،
متذكرًا رهبنته وجهاده وخدمته الديرية والكنسية.
المسيح يحفظ آباء الدير العامر ويحفظ نعمته في حياتكم،
ودومًا في رعايته وحنانه، وعلى رجاء القيامة نودِّعه،
طالبين صلواته من أجلنا حتى نكمِّل أيام غربتنا بسلام واستعداد].

***

وهنا نقدِّم لك عزيزنا القارئ ما كتبه أحد رهبان الدير معبِّرًا عن مشاعره تجاه هذا الأب الفاضل:

وإن مات يتكلَّم بعد

كان الأب القس يوحنا المقاري شيخًا وقورًا من آباء البرية الروحانيين، وكنتُ قد رأيتُه مراتٍ عديدة عند زياراتي لدير القديس أنبا مقار للخلوة، عندما كان مسئولًا عن مضيفة الدير وخدمة الشباب. وكان يجتمع بصفةٍ مستمرة مع الشباب والخُدَّام والجامعيين الذين يزورون الدير للخلوة والصلاة وحضور التسبحة التي أثَّرت في الكثيرين منَّا. أمَّا أول مرَّة أجتمع فيها مع قدسه شخصيًّا وأستمع إلى توجيهاته الروحية؛ ذلك عندما حضرتُ إلى الدير للرهبنة، دون أن يكون لي سابق معرفة بأيِّ راهب من رهبان الدير، وذلك صباح الجمعة 9 مارس عام 1979م. وقد قصصتُ عليه قصة تركي العالم وحضوري للدير للرهبنة دون أن يكون معي أيَّة متعلِّقات شخصية. فكان كلامه مُشجِّعًا لي على هذا الطريق ال‍مُبارَك، ومُعزِّيًا لضعفي على مصاعب الطريق الذي تُرافق فيه نعمة المسيح طالب الرهبنة وتُعينه على الجهاد الروحي ليستمرَّ في هذه المسيرة المقدَّسة حتى بلوغ ملكوت السموات.

والذي عزَّاني بالأكثر بشاشته الظاهرة على وجهه، وصوته الهادئ، وكلماته ال‍مُتزنة المملوءة حكمة، وتوجيهاته الرصينة. ولأول مرَّة أسمع من قدسه كيف ترك هو العالم بكلِّ ما فيه من مسئوليات، وتكريس حياته بالكامل لشخص المسيح، ودخوله إلى الرهبنة تحت إشراف وتدبير قدس أبينا الروحي القمص متى المسكين. ثم كَشْفه لي عن تعزيات المسيح التي يهبها للراهب المجاهد، وواجبات طالب الرهبنة – وكذلك الراهب – والتزاماته من نحو التدبير الروحي الرهباني، وأيضًا من نحو الدير الذي سيحيا فيه وسط الآباء الرهبان والإخوة المبتدئين. كما أوضح لي الصعوبات والحروب التي يواجهها كل من يسلك هذا الطريق الملوكي من عدو كل خير، والوعد الإلهي لنا بأنَّ الرب سيسحق الشيطان تحت أرجلنا سريعًا (رو 16: 20).

ولذلك، فإنني بعد سيامتي راهبًا، كنتُ أتردَّد عليه بين الحين والآخر، للاستماع إلى توجيهاته الروحية، وأيضًا لأتقبل من قدسه كلمات النعمة والتعزية عندما كانت تواجهني ضيقة أو شدَّة أو ضعف. ولاحظتُ أن الإيمان والرجاء في شخص المسيح يملآن قلبه، مهما كانت تواجهه هو شخصيًّا مصاعب أو ضيقات، من داخل أو من خارج. كان هذا الرجاء العظيم الذي يملأ قلبه وكل كيانه، ينتقل إلى ضعفي، فيُشدِّدني ويُعزيني على مشقَّات الطريق وحروب الشرير.

وعندما ألتقي بقدسه، وأشكو له من بعض المضايقات، أجده يُردِّد أمامي أننا دخلنا من الباب الضيِّق ونسير في الطريق الكَرِب المؤدِّي إلى الحياة الأبدية، وكذلك يُذكِّرني بكلمات الرسل القدِّيسين: «بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (أع 14: 22). ولكنني كنتُ أُلاحظ، بوجهٍ عام، أنه لا يدين أو ينتقد أحدًا، سواء من الرهبان أو من العلمانيين، ولكنه كان يذكُر أمامي فضائل كل من يأتي ذِكْرهم.

وكثيرًا ما كان يُحدِّثني عن أبينا الروحي القمص متى المسكين، وعن تدبيره الروحي، لأنتفع أنا بهذا التدبير، وكذلك يتحدَّث معي عن توجيهاته سواء إليه شخصيًّا أو إلى جميع الرهبان. وأيضًا كان يُرشدني إلى عظات أبينا الروحي، وكتاباته المتعدِّدة وخصوصًا الكتابات والمقالات الرهبانية.

كان قدسه مُتحدِّثًا لبقًا، ذا خبرة روحية وعملية واسعة. كما كان واسع الاطِّلاع مُتبحرًا في الدراسات، خصوصًا دراسة الكتاب المقدس، وكتابات الآباء. فكان يُتقن القراءة والترجمة من اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكان له إلمام باللُّغات القديمة، وكذلك أيضًا كان يُتقن قواعد اللغة العربية. وقد ظهرت براعته ودقَّته وجزالة لُغته فيما كتبه من مقالاتٍ في مجلة مرقس، والتي معظمها تدور حول دراسة أسفار الكتاب المقدس، والتي تمَّ تجميعها في مجلَّدات ضخمة تحوي شرحًا لأسفار موسى الخمسة: تكوين، خروج، لاويين، عدد، تثنية. كما بدأ يكتب بعد ذلك مقالات تتركَّز حول العهد الجديد والمناسبات الكنسية، أَطلق عليها اسم: ”طعام الأقوياء“، وقد تمَّ تجميعها في مُجلَّدين يحملان نفس العنوان.

لاحظتُ أيضًا طوال السنين السالفة، أنه عندما تحدُث مشاكل أو سوء تفاهم بين راهب وأخيه، يقوم هو، بحكمته الرصينة، بحلِّها بمجرَّد كلماتٍ قليلة يذكرها، سواء من الكتاب المقدَّس، أو أقوال الآباء الروحانيين، أو من أقوال وكتابات الأب متى المسكين. وهذا ما رأيته بنفسي شخصيًّا. كما لاحظتُ أيضًا أنه لا يضطرب أو ين‍زعج حتى إذا كان مَن يتحدث إليه يُسيء التصرُّف أو الكلام، فكان هو يبتسم دون انفعال، ثم يشرح ل‍مُحدِّثه حقيقة الأمر بوضوح.

كان مسئولًا ورئيس تحرير مجلة مرقس منذ عقودٍ عديدة، وكان من أوائل مَن كتبوا فيها، وكذلك مَن قاموا بمراجعة مقالاتها. وكانت تصل إليه مقالات من بعض الرهبان، فكان يقوم بمراجعتها بدقته المعهودة، ثم يقوم بتصحيح وتنقيح الفقرات التي تحتاج إلى تعديل لتصلح بعد ذلك للنشر في المجلة؛ أما المقالات التي تصله ولا تُناسب النشر في المجلة، فرأيته لا يحرج مَن كتبها، بل كان أمامي يُشيد بمجهود ومثابرة كاتبها، ولكنه يُوضِّح له أنها - في هذا التوقيت - لا يُتاح لها النشر، ولكنها ستُنشر في وقتٍ لاحق بعد إجراء بعض التعديلات. فكان رقيقًا في تعامُلاته، ليس مع الرهبان فقط، بل مع عُمَّال الدير، وكذلك العلمانيين.

كنتُ أستشيره، ليس فقط فيما يختص بالحياة الرهبانية والتدبير الروحي، ولكن أيضًا في بعض الكتابات وأقوال الآباء، وأيضًا فيما يختص بأسلوب وقواعد اللغة العربية. فكان يُجيب باستفاضة ولا يضنُّ بمعرفةٍ أو معلومة، بل يُوضِّح ما أَستفسر عنه بكلِّ جلاءٍ. وفي أحيانٍ أخرى، يَظهر اتضاعه وعدم اعتداده برأيه، عندما أُناقشه أيضًا فيما يكتبه، وأَعرض عليه بعض التعديل في بعض الكلمات أو الفقرات التي يكتبها؛ فكان يقتنع ويأخذ باقتراحي، ويقوم بالتعديل، دون التمسُّك برأيه أو الإصرار على ما يكتبه. وكان هذا الأسلوب الرصين وال‍مُتضع يؤثِّر فيَّ كثيرًا.

كان قدسه يكتب المقالات في ذِكْرى نياحة أيِّ راهب من رهبان الدير، بما لديه من معلومات متَّسعة عن الرهبان وسيرتهم قبل الرهبنة وأثناء الرهبنة، حتى يوم انتقالهم من هذا العالم إلى الأبدية السعيدة. وكان آخر ما عمله، أنه كَتَبَ تقديمًا لآخر كُتُب الراهب ال‍مُتنيِّح باسيليوس المقاري، وهو كتاب بعنوان: ”تأملات في شخص المسيح الحي“ (والذي صَدَر منذ فترة وجيزة). وكذلك كَتَبَ تقديمًا لكتاب قدس أبينا الروحي القمص متى المسكين ”الطريق إلى ملكوت الله“، والذي هو عبارة عن 28 عظة ألقاها الأب متى المسكين على رهبان دير القديس العظيم أنبا مقار على أناجيل قدَّاسات أيام الصوم الأربعيني المقدَّس لعام 1990، بعد أن نُشِرَت تِبَاعًا في مجلة مرقس.

في مرضه وتعبه لم نجده يئنُّ أو يشتكي، بل كان شاكرًا الرب على نِعَمه الجزيلة وعلى ما يسمح به من أجل خلاصنا. وكان بالرغم من شيخوخته الجليلة ومرضه، يحضر في أواخر أيامه – في بعض الأحيان – القدَّاس الإلهي. وبالرغم من أنَّ جسده – في أيامه الأخيرة – كان عليلًا ومريضًا؛ إلاَّ أن ذهنه كان مُتوقِّدًا مُنتبهًا، مُتذكِّرًا أدق تفاصيل حياته عندما كان في كلية الصيدلة والأساتذة الذين كانوا يُدرِّسونه بعض المواد العلمية، وكذلك يتذكَّر زملاءه في الخدمة بالاسم دون أن ينسى أحدًا، كما ذَكَر هذا أمامي، منذ شهورٍ قليلة. ويكفي أنه كان يكتب ويترجم من أقوال الآباء في مقالات: ”دراسة الكتاب المقدس“ وكذلك مقالات: ”طعام الأقوياء“ حتى آخر عدد من أعداد مجلة مرقس!

وأخيرًا، استُودِعت الوديعة الطاهرة في يدَي المسيح رب‍ها ومُخلِّصها، تم ذلك يوم السبت 3 يوليو 2021، كما قال بولس الرسول: «لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ» (2تي 1: 12). وسوف يسمع صوت رب المجد ال‍مُفرح: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت 25: 21، 23). فنياحًا لنفس أبينا الطوباوي الراهب القس يوحنا المقاري، وليُعْطِهِ المسيح حسب غِنَى عطاياه وهِباته، ولا ينسى تعب المحبة التي أظهرها هذا الشيخ الجليل من نحو الكنيسة والدير والرهبان والعلمانيين. وأخيرًا، نُردِّد كلمات سِفْر الرؤيا: «طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ. نَعَمْ، يَقُولُ الرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ» (رؤ 14: 13).

ولإلهنا القدوس المجد والكرامة، في كنيسته المقدَّسة، من الآن وإلى دهر الدهور، آمين.

الراهب يسطس المقاري


****************************************************************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار
صدر حديثًا كتاب

الطريق إلى ملكوت الله

للأب متى المسكين

(وهو عبارة عن 28 عظة ألقاها قدس أبينا الروحي على رهبان دير القديس العظيم أنبا مقار على أناجيل قداسات أيام الصوم الأربعيني المقدَّس لعام 1990م. وقد نُشِرَت تباعًا في مجلة مرقس ابتداءً من عدد مارس 2012م، إلى عدد أغسطس 2019م).

232 صفحة (من القَطْع الكبير- تجليد فاخر) ...... الثمن 60 جنيهًا ......كود 673

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis