الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
- 18 -

المسيح هو غذاؤنا الروحي(1)

إنجيل يوم الثلاثاء من الأسبوع الخامس من الصوم المقدس

المزمـور: «17اصْنَعْ مَعِي آيَـةً لِلْخَيْرِ، فَيَرَى ذلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا، لأَنَّكَ أَنْتَ يَـا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي» (مز 86: 17).

الإنجيل: «12ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: ”أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ“. 13فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: ”أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا“. 14أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: ”وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. 15أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. 16وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. 17وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. 18أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي“. 19فَقَالُوا لَهُ: ”أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً“. 20هذَا الْكَلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ» (يو 8: 12-20).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

آية إنجيل قدَّاس هـذا الصباح واضحة وقويَّة، ولكنها صعبة: «أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة».

تكلَّمنا فيما سبق عن النور والظلمة. ولكن في هذا الصباح سنتدرَّج من النور إلى الحياة، وسنرى كيف أنَّ النور ارتبط بالحياة: «يكون له نور الحياة»، وارتبطت الحياة بالنور.

حينما يقول المسيح: ”أنا هو“ +++ ++++، فهو يتكلَّم عن صفة إلهية كانت مُستترة وبدأ في إعلان‍ها. المسيح هنا يُعلِن عـن النور الإلهي غير المنظور بالعين، أنَّ هذا النور قد دخل إلى العالم، وبدخوله أنار الإنسان بالروح من الداخل، لأنه هو ”نور الحياة“.

فالحياة في الإنسان، مركزهـا ”الروح“. والنور إذا كان هـو نور الحياة للروح، يكون نوراً داخليّاً، لا دخل للعينين الجسديتين في هذا الموضوع.

الفرق بين النور المخلوق وبين النور غير المخلوق:

يوجد نورٌ مخلوق، وهو نورٌ عظيم جداً، وينتهي أيضاً إلى الله؛ لكنه نورٌ مخلوق. وهناك فرقٌ كبير بين النور المخلوق والنور غير المخلوق.

النور المخلوق كنور الشمس، وكل نور منبعث من المادة. فالشمس تحدث فيها انفجارات ذرية هائلة، والإشعاع الصادر منها يصل إلى الأرض. إذن، فهو نور مادي، ليست له حياة في ذاته، تستقبله العين البشرية لكي به ترى الأشياء التي في العالم.

ومعروفٌ أن نور الشمس هو أول مصدر أساسي للطاقة على الأرض: الطاقة الضوئية والطاقة الحرارية، وهي طاقة تُقيم الحياة المادية.

فالنور المخلوق ليس نوراً بسيطاً، ولكن بالرغم من ذلك فهو نورٌ ميت، ليس فيه حياة في ذاته.

أمَّا بالنسبة للنور الإلهي غير المخلوق، فهو طبيعة الله. الله نورٌ وهـو حيٌّ: «أنا هو نور العالم... نور الحياة» (يو 8: 12)، «والحياة كانت نور الناس» (يو 1: 4). فالنور حياةٌ، والحياة نورٌ، وهما ليسا اثنين. وعندما دخل ابن الله إلى العالم متجسِّداً، دخل بطبيعته الإلهية ال‍مُنيرة متَّحدة بالطبيعة البشرية في شخصه الإلهي، فهو نورٌ حي: «أنا هو نور العالم». والنور الحي، نور الحياة، الحياة ال‍مُنيرة؛ هذا هو أصل الحياة الروحية.

أصل الحياة الروحية:

الله بعدما خلق آدم من الت‍راب، نَفَخَ فيه نسمة الحياة، روح من روحه، حياة مخلوقة، حياة مُنيرة، ولكنها ليست كحياة الله. فحياة الإنسان محدودة، مخلوقة، تستمدُّ حيات‍ها من حياة الله، أي من حياة الله ال‍مُنيرة. كانت حياة آدم ستنمو، وكذلك روحه سترتقي إلى أن يصل إلى الاتِّحاد بالله. ولكن بسقوط آدم، أعمت الخطية عينيه، فلم يَعُد يرى نور الله، ولا استمرت روحه تتغذَّى أو تتَّصل بروح الله وبنور الله. هنا توقَّف نموه وبالتالي انقطعت تغذيته من روح الله، وكذلك اتِّصاله بالله، وبدأ يسود عليه الموت.

دخول المسيح إلى العالم:

المسيح دخل إلى العالم ب‍هذه الطاقة الروحية ال‍مُنيرة. وعمله الأساسي أن يَهَبَ روح الإنسان مرة أخرى الغذاء الروحي الذي انقطع عنها بسبب تعدِّي الإنسان وسقوطه، والغذاء الروحي هو حياة الله ال‍مُنيرة.

الروح إن لم تتغذَّ على النور، تضعف وتموت؛ ولكن مـا تتغذَّى عليه الروح هو نورٌ حي، نورٌ روحي، هو ”الروح القدس“. وعندما أخطأ الإنسان، تغلغلت الخطية في غرائز الإنسان، وارتبطت هذه الغرائز بالأرض، بكل ما هو ظاهري، بكل ما هو خارج عن الإنسان. فأصبح الإنسان يشتهي ويُخطئ ويسرق ويزني... إلخ. وصار مُرتبطاً بالأرض بعدما كان مُرتبطاً بكل ما هو فوق، أي بالله.

كان الإنسان حُرّاً طليقاً، ولكنه عندما ارتبط بالأرض، صار له مركز جذبٍ أرضي، يجذب الجسد بكل ما فيه. وما يزال الإنسان يدور حول هذا المركز الأرضي، مركز الخطية والموت، وصار القصور الذاتي يشدُّه بقوة ويجعله يلفُّ ويدور بلا هوادة، حتى إلى الموت.

مركز الجذب الأرضي أضاع على الإنسان النمو الروحي، والامتداد بالروح، والاتصال بالله. وصار الإنسان طيلة حياتـه على الأرض يلفُّ ويدور إلى أن استن‍زفت الخطية كل طاقته الروحية المُختَزَنة من النور، فسقط ومات.

عندما تجسَّد ابن الله، صار هو مركز الجذب الثاني؛ فوضع شخصه - كإلهٍ متجسِّد - بدلاً من الخطية والموت التي كانت هي مركز الجذب الأرضي.

المسيح وضع نفسه داخلنا، وليس خارجاً عنَّا. وتعلمون أنَّ الخطية تعمل في الجسد، والموت يسود على الجسد. أمَّا المسيح فقد أعطانا شخصه كمركز داخلي في أعماقنا بدلاً من الخطية والموت التي هي أصلاً خارجنا وليست من صميم طبيعتنا البشرية.

هذا المركز الداخلي الجاذب - الذي هو شخص المسيح - هو النور الحي، هو الحياة ال‍مُنيرة، هو نور الحياة، فهو مركزٌ جاذبٌ بشدَّة؛ بينما كانت الخطية تجذبنا إلى الجسد بشدَّة؛ وكان الموت هو الذي يسود على الإنسان كسيِّد رهيب، ومَن له سلطان الموت هو قاتلٌ للناس منذ البدء. ولكن بتجسُّد ابن الله، أعطانـا القدرة للانجذاب إليه؛ وَهَبَنا روحه القدوس الذي يجذبنا إلى هذا المركز المُضيء، يجذبنا بشدَّة وباستمرار إلى مركز حياتنا الجديدة، مركز نمونا، مركز غذائنا، الذي هو ربنا وإلهنا يسوع المسيح.

فالإنسان الروحي يتغذَّى بالروح القدس، يتغذَّى بالنور الإلهي، يتغذَّى بالنور غير المخلوق.

«أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة»:

لقد عرفنا السير في الظلمة، وكذلك اللف والدوران حول مركز الجذب الأرضي. ولكن عندما جاء مركز الجذب الجديد، أي ربنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، وثبَّت نفسه داخلنا؛ بدأنا ننجذب إليه، وصار هو غذاءنا الروحي. هذا الغذاء الروحي يرفعنا إلى فوق. فالمسيح هو مركزٌ جاذبٌ إلى فوق، إلى الحياة الأبدية؛ بينما المركز الأرضي يجذبنا إلى الأرض وإلى الموت.

الغذاء الروحي:

نحن الآن ننجذب إلى شخص المسيح ونغتذي من: الصلاة، القدَّاس، التسابيح، السجود، قراءة الإنجيل، والتأمُّل الروحي. وهنا نتذكَّر الآية التي تقول: «وُجِدَ كلامك فأَكلتُه. فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إر 15: 16). فكلام الله يؤكل، والنور الذي في الكلمة الإلهية يؤكل أيضاً. ولكن الأكل هنا هو على مستوى الروح وللروح، وليس على مستوى الجسد وللجسد.

كل عمل روحي يعمله الإنسان يُختَزَن داخله، منذ أن يعرف الإنسان شخص المسيح، منذ أن يتعلَّم السجود، منذ أن بدأ يُصلِّي بالأجبية ويقف على رجليه ويرفع يديه لمدَّة ساعة أو أكثر، منذ أن بدأ يُخاطب الله ويستمع إليه الله، منذ أن انفعل بروحه في أعماقه وأحسَّ بالنور. هنا يبدأ النور الإلهي يقترب من الإنسان ويُشرق في أعماقه؛ فيرتاح الإنسان، ويُرفَع عنه ثِقل خطاياه. وحينئذ يتكوَّن داخله مخزونٌ من الطاقة الروحية.

وكما أن الطاقة الطبيعية للحياة الجسدية ال‍مُختَ‍زَنة يمكننا قياسها بالزيادة أو بالنقص؛ كذلك فإنَّ المخزون الروحي داخلنا يزداد كلما انجذبنا إلى شخص المسيح، واغتذينا بكلمة الله، وأشرق علينا نور معرفته.

فكلما انجذبنا إلى المركز الروحي، كلما ارتفعنا إلى فوق. فالروح حُرَّة قويَّة طليقة، كلما اغتذت على كل ما هو روحي، تخفُّ وتشدُّ معها الإنسان بكل ما فيه إلى أعلى.

هناك مركزان يشدَّان الإنسان: مركزٌ روحيٌّ يجذبنا إلى فوق منذ أن آمنَّا وتعرَّفنا على شخص المسيح، وهو يزيد من مخزوننا بالنعمة والروح؛ وهناك مركزٌ آخر يشدُّنا إلى أسفل إلى الأرض من خلال الطاقة الجسدية. كِلاَ المركزين يعملان، ولكن كلما ازداد المخزون الروحي يجذبنا أكثر إلى فوق حيث المركز الروحي، في الوقت الذي يضعف ويقلُّ فيه المركز الجسدي على مدى الأيام بالرغم من عمله أيضاً.

المسيح أبطل الموت من داخلنا ووهبنا الحياة والخلود:

مخزوننا الروحي يزداد أكثر فأكثر بالتوبة والتجديد والحياة مع المسيح، في الوقت الذي يقلُّ فيه انجذابنا إلى الأرض. ولذلك يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «... ظهور مُخلِّصنا يسوع المسيح، الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1: 10).

المسيح أبطل الموت مـن داخل، إذ الموت يعمل من خارج. فالخارج يَفْنَى، أمَّا الداخل فيتجدَّد يوماً فيوماً. الخارج له مركز، أي الخطية والموت، والإنسان يلفُّ حول هذا المركز إلى أن تُستَن‍زَف عافيته وقوَّته. ولكن الذي من الداخل يزداد ويتجدَّد ويتقوَّى.

المسيح أبطل الموت من داخلنا، بالرغم من أنَّ الموت ما يزال يعمل في الخارج؛ وفي الوقت عينه أنار لنا المسيح الحياة والخلود. أنار لنا الحياة هنا وهناك، لأن المخزون الروحي الذي نتكلَّم عنه له عملٌ هنا على الأرض، وهناك في الخلود.

ويقول الرب يسوع: «حينئذ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت 13: 43)، «فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس (النور المخزون)» (مت 5: 16).

فنور الحياة ليس هو نور المعرفة الجسدية؛ ولكنه النور الروحي المختَ‍زَن في أعماقنا، والذي اقتنيناه من: الصلاة، العبادة، الإنجيل، الترتيل، والتسبيح.

فالمخزون الروحي في أعماقنا، مخزونٌ مُضيء، ولذلك يقول الرب: «فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي يَرَوْا أعمالكم الحسنة، ويُمجِّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16).

وهكـذا فـالاثنان متَّصلان أحدهما بـالآخر: ”فليُضئ نوركم“، وحينئذ ”يتمجَّد أبـوكم السماوي“.

فالنور له عملٌ هنا على الأرض، كما كانت الخطية والموت لهما عمل مُخرِّب يهدم كياننا الإنساني. الروح القدس يعمل ويُخزِّن طاقة روحية في أعماقنا، ابتداءً مـن هنا على الأرض، ولكن تبقى له شهادةٌ حيَّة.

جاء المسيح وقال: «فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس» (مت 5: 16)، وأيضاً: «حينئذ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت 13: 43). ولكن تكملة هذه الآية بديعة جدّاً: «مَن له أُذُنان للسَّمع فلْيسمعْ».

فالمخزون الروحي الذي تكوَّن في داخلنا منذ الآن، سيستمر معنا ويزداد عند انطلاقنا إلى الحياة الأبدية. هذا هو الكن‍ز الوحيد، وهو زاد الخلود، وهو غِنَى القدِّيسين.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) سننشر تباعاً بقية عظات الأب متى المسكين التي ألقاها في موسم الصوم المقدس عام 1990م، والتي تحمل عنوان: ”الطريق إلى ملكوت الله“. وكانت آخر عظة نُشرت من هذه السلسلة هي العظة رقم (17): «وكان هو في المؤخَّر على وسادة نائماً»، وقد نُشرت في عدد مارس 2017م. أما العظة التي ننشرها في هذا العدد وهي رقم (18)، فهي عن إنجيل قداس يوم الثلاثاء من الأسبوع الخامس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990م.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis