|
|
|
حالة الأقباط في أوائل القرن الثامن عشر:
+ عاد الضيق يجثم على صدر المصريين عامة، والكنيسة القبطية خاصة. فقد عَاوَد المماليك إثارة الفتن والقلاقل ضد الأتراك العثمانيين القابعين في مقر الخلافة العثمانية في ”الآستانة“ في تركيا. وبالرغم من أن الأتراك والمماليك كليهما كان غريباً عن أرض مصر: الأول مُحتلٌّ، والثاني غريبٌ عن مصر وقومية أهلها؛ ومع ذلك فقد كان كلاهما يُحاربان بعضهما بعضاً، وكـل منهما يطمع في المغانـم لنفسه، ولم يكن ذلك لمصلحة أصحاب الوطن - أي المصريين - الذين لم يكن لهم أي مَغْنَم من صراعهما!
+ إلاَّ أنَّ المماليك كانوا يبحثون عن مصالحهم الشخصية، بالرغم من تصويرهم بأنهم يطلبون مصلحة مصر أكثر من القابعين في الآستانة.
+ وقد اشتد الولاة المبعوثون من الآستانة في مطالبة المصريين بالأموال، بل وضاعفوا طلباتهم، أي ضاعفوا قيمة ”الجوالي“ أي الضرائب بلغتنا الحاضرة، والتي لم تكن مفروضة إلاَّ على غير المسلمين. ولم يكتفوا أيضاً بمضاعفتها على الأغنياء منهم، بل ضاعفوها أيضاً حتى على فقراء الأقباط، بل وامتدُّوا في تعسُّفهم إلى المُعْدَمين! كذلك فرضوها على الأساقفة والكهنة والرهبان الذين كانوا معفيين سابقاً من هذه الضرائب في فترات عديدة. وهكذا لم ينجُ من هذا التعسُّف أحدٌ من الأقباط إكليروساً وشعباً.
موقف الدولة العثمانية من تسلُّط المماليك:
+ الواقع أنَّ الدولة العثمانية في الآستانة إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت مشغولة بحروبها ضد النمسا والروسيا، مما أَنْهَك قواها وأعاقها عن الالتفات نحو مصر وغيرها من ولايات الدولة. ولكنها - في الواقع - لم ترضخ لهؤلاء المماليك. ففي الأوقات التي لم تكن مشغولة فيها بحروبها في أوروبا، كانت تحاول استرجاع سيطرتها الضائعة في مصر، وفي سبيل ذلك كانت تلجأ إلى وسائل خاصة.
أولاً: إغلاق أسواق الرقيق في البلقان والبحر الأسود أمام هؤلاء المماليك، الذين كانوا يشترون المزيد من العبيد من هناك ليقوموا بتدريبهم وتربيتهم على أعمال الفروسية والقتال، ليُجدِّدوا كيانهم بتوريث وظيفتهم لهذه الأجيال الجديدة الواردة من الخارج.
ثانياً: إرسال حملات تأديبية لردع هؤلاء المماليك عن التمرُّد ضد الدولة العثمانية، مما يضطر هؤلاء المماليك إلى الهرب إلى الصعيد. ولكن حينما كانت تضطر الدولة العثمانية إلى الحروب، فتطلب هؤلاء المماليك لينضموا إلى حملاتها، كان هؤلاء المماليك يرجعون إلى القاهرة ليستعيدوا نفوذهم وسلطانهم.
موقف الشعب المصري من هذا
الحُكْم المملوكي؟ كان الرد: الثورة:
بالرغم من أن الفكرة التي كانت سائدة على جماهير المصريين إبان هذا العهد كان الذي يحكمها ”الدين“، إذ كان المجتمع المصري في هذا العهد أحد مجتمعات العصور الوسطى التي يستحوذ الدين فيها على مكانة قوية، فينظرون إلى السلطان العثماني على أنه خليفة المسلمين وحامي حِمَى الإسلام ضد الفرنج (الكفرة) في الغرب وضد الفرس أي الإيرانيين (الشيعة)؛ إلاَّ أنَّ قوميتهم المصرية كانت قد اندثرت تحت هذا الطغيان الفكري الديني.
+ ولكن مع ذلك فقد كان عامة الشعب المصري في هذا العهد لا يتردَّدون في القيام بالثورات والمقاومة، حين يضجرون من قسوة معاملة جُباة الضرائب ومعهم السلطات الحاكمة.
ومن ذلك ما رواه الرحَّالة ”سونِّيني“ (أحد الباحثين في العلوم الطبيعية)(1)، في كتابه: ”رحلة في مصر العليا والسُّفلى“ عن ثلاث ثورات قابلته أثناء مروره بالصعيد. وكانت إحداها في ”طهطا“، والثانية في ”منفلوط“، والثالثة في ”أبو تيج“؛ وفيها اعتصم الفلاحون ورفضوا دفع الضرائب وقاوموا السلطات الحاكمة بالقوة.
+ وهكذا كان شعب مصر وسيظل مقاوِماً للظلم والتعسُّف والبطش، حتى ولو كان رؤساؤه من نفس الدين.
مَن هو البابا يؤانس البطريرك الـ 105؟
+ وعلى الرغم من هذا الضيق والقلق، فقد نجح الأساقفة والأراخنة في الالتقاء مع بعضهم البعض للتشاور حول مَن يُمكنه أن يمسك بدفة الكنيسة تحت إمرة رب الكنيسة وبانيها ومُدَبِّرها الحقيقي. فقد أجمعوا على راهب من دير القديس البار أنبا بولا اسمه ”عبد السيِّد“.
+ وكان هذا الراهب من أهالي ملوي. وقد ربَّاه والداه التربية المسيحية الروحية كعادة أهل الصعيد من الأقباط؛ إلى أن بلغ حدَّ الشباب، حيث استجابت روحه للنداء الإلهي، فاندفع تاركاً أهل بيته للانضمام إلى مجمع رهبان دير القديس الأنبا أنطونيوس، ثم اختاره البابا الأسبق يؤانس السادس عشر ضمن الرهبان الأربعة من هذا الدير الذين اختارهم الله ليُعمِّروا دير القديس الأنبا بولا. وهناك قضى عدة سنوات في تعبُّد وسَعْي روحي متواصل مما جعل البابا السابق أنبا بطرس السادس أن يُلْبسه الإسكيم الرهباني (وهو الزي الرسمي للرهبان، وهو زي مخفي عن أنظار الناس، إذ يُلبسُون الراهب صليباً من الجلد يلتف حول عنقه نازلاً إلى صدره وملتفاً حول بطنه، وهذا ما يجعل اسم الرهبان هو ”لُبَّاس الصليب“)، ثم رسمه البابا الأنبا بطرس السادس قسّاً ليرعى الرهبان الجُدُد المنضمين حديثاً للدير، وكان ذلك بناءً على اختيار رهبان الدير.
اختياره للبطريركية:
+ لذلك اتَّجهت إليه الأنظار حين خلا كرسي الإسكندرية الرسولي بنياحة أسقفه البابا رئيس الأساقفة الأنبا بطرس السادس، وذلك بعد حوالي 9 أشهر من نياحة البابا بطرس السادس. وأرسلوا إليه وأحضروه من الدير إلى مصر، ووضع الأساقفة عليه الأيادي ليرسموه أسقفاً على كرسي المدينة العظمى الإسكندرية باسم ”يؤانس السابع عشر“ بابا وبطريرك ورئيس أساقفة الكرازة المرقسية حسب الطقس المَرْعي، وهكذا تمَّت رسامته في كنيسة الشهيد العظيم القديس مرقوريوس بمصر القديمة. فأصبح البابا الإسكندري الـ 105 في عداد أساقفة الكرسي الإسكندري منذ القديس مار مرقس الرسول الإنجيلي والشهيد، وكان ذلك في يوم الأحد 6 طوبة سنة 1443ش/ الموافق 12 يناير سنة 1727م، في أيام السلطان العثماني أحمد الثالث.
إبطال عادة استلام الصليب والعكَّاز
من مقبرة البطريرك السالف:
وتذكر إحدى المخطوطات القديمة هذه الحادثة: إذ أنه بعد قسمة البابا يؤانس السابع عشر، أن قاموا بفتح مقبرة البطاركة - كما جرت به عادة الآباء البطاركة - ليتسلَّموا من يد سَلَفهم الصالح الصليب والعُكَّاز (ما يسمونه الآن ”عصا الرعاية“). فلما نزل البابا يؤانس في المقبرة لإتمام هذا التقليد - تقول المخطوطة - ”طقطقت العظام من المقبرة في وجهه، فانفزع في تلك اللحظة، وحتَّم إبطال هذه العادة قائلاً لهم: إنَّ الصلبان والعكاكيز كثيرة“. وقد أُبطِلَت فعلاً العادة المذكورة من ذاك الحين إلى يومنا هذا(2).
+ وسواء استلم البابا الجديد العكَّاز والصليب من يد سَلَفه المدفون في مدافن الآباء البطاركة أو استلمها من على المذبح، كما هو سائد الآن؛ فإنَّ المعنى الكامن وراء هذا التقليد أو ذاك، هو التزام كل البطاركة بالتقليد الكنسي المسيحي الأرثوذكسي المُستَلَم من القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية والذي يحوي: الأناجيل الأربعة المقدسة، ورسائل الرسل (البولس والرسائل الجامعة)، وقوانين الرسل، وقوانين المجامع المسكونية الثلاثة: نيقية، القسطنطينية، وأفسس، وغيرها من كتابات وأقوال وتفاسير الآباء القديسين، وكذلك سلوكهم الروحاني الملتزم بوصايا الإنجيل.
+ وبعد انتهاء الطقوس الكنسية الخاصة بالرسامة، أقام البابا يؤانس أسبوعاً في مصر (منطقة مصر القديمة)، ثم انتقل منها إلى القلاية البطريركية بحارة الروم.
أعمال البابا يؤانس بعد رسامته:
+ بناء الكنائس في الأديرة وترميمها وتكريسها: بمجرد اعتلاء البابا يؤانس السابع عشر الكرسي الرسولي، وجَّه همَّته نحو عمارة الكنائس والأديرة وترميمها وتكريسها. فقام ببناء كنيسة في دير القديس أنبا بولا أول السوَّاح، وذهب إليها وكرَّسها بيده. وكان في صحبته أنبا أبرآم أسقف البهنسا وجماعة من الأراخنة، وعلى رأسهم المعلم جرجس السروجي الذي قام بتكاليف بناء الكنيسة. وبعد ذلك بمدة تمَّ بناء كنيسة مقدسة، ومائدة، بدير القديس أنطونيوس على نفقة نفس المعلم جرجس السروجي. وقام البابا بصُحبة أنبا أبرآم أيضاً بتكريسها، كما قام في الوقت ذاته برسامة بعض القسوس والشمامسة.
زيادة ”الجوالي“ (الضرائب) على الأقباط:
وفي السنة التاسعة من حَبْرية البابا يؤانس السابع عشر (أي في سنة 1451ش)، أَمَرَ السلطان محمود الأول ”الباشاتلية“ أي ”الولاة“ بزيادة قيمة الجوالي في أرض مصر على المسيحيين واليهود ثلاثة أضعاف، وكذلك القبض على الآباء الأساقفة والرهبان والقسوس. فتمَّ فرض هذه الجوالي حتى على الصغار غير البالغين والفقراء والمساكين، ثم زادت القيمة بعد ذلك بمدة.
حدوث الغلاء والزلازل في البلاد:
+ في أيام هذا البابا صارت شدة عظيمة، وحُزن عميق على الفقراء وأرباب الحِرَف والصناعات. وفي سنتَي 1455، 1456ش (الموافقتين لسنتَي 1152، 1153 هجرية) حدث غلاء شديد، حتى بِيعَ الأردب المصري من القمح بست عُملات ذهبية، وقاسى آنذاك الناس شدائدَ صعبة، وخصوصاً الفقراء الذين ذاقوا الأَمَرَّين من الغلاء الفاحش، وأيضاً من مُحصِّلي الضرائب (الجوالي) بلا رحمة.
+ وكان بمصر يومئذ أراخنة أقباط مُحبُّون للمسيح: المعلِّم نيروز، المعلِّم رزق الله البدوي، والمعلِّم بانوب الزفتاوي، وغيرهم. هؤلاء كانوا يشترون من حَبْس (نصيب) الجوالي، وينقذون أولئك الفقراء بأن يُسدِّدوا عنهم الثمن المطلوب منهم.
+ وبعد ذلك، صارت زلزلة عظيمة بمصر في منتصف الليل بمقدار ساعة، حتى زعزعت أساسات الأرض، وارتجف الناس، وسقطت عدة مبانٍ، إلى أن لَطَفَ الله بعباده وشمل شعبه برحمته.
الهجوم على مدينة أخميم:
بينما كان المماليك يُقاتلون بعضهم بعضاً في مصر، أو يُحاصرون الوالي في القلعة؛ كان العرب يهجمون على البلاد، وينهبون البيوت، ويقتلون الرجال، ويَسْبَوْنَ النساء.
وقد انتهزوا هذه الفرصة مرة، فهجموا على مدينة أخميم في الوجه القبلي، وكان معظم سُكَّانها من المسيحيين الذي يكدُّون في أعمالهم؛ ونهبوا المدينة وخرَّبوها، وقتلوا كثيرين من أهلها.
(يتبع)
(1) Sonnini, Ce Voyage dans la Haute et Basse d'Egypt, Paris, 1796.
عن كتاب: ”تاريخ مصر“، عبد العزيز جمال الدين، 2006، الجزء الرابع، المجلد الثاني، ص 1134.
(2) كتاب: ”التواريخ“ لابن الراهب، ص 247؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات“، الحلقة الخامسة، تأليف: كامل صالح نخلة، مطبعة دير السريان، ص 18.