-110-


الكنيسة القبطية في القرن السابع عشر
البابا متاؤس الرابع
البطريرك الثاني بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1660 - 1675م)


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

مقدِّمة: خلو الكرسي البطريركي لمدة كبيرة:
لما تنيَّح البابا مرقس السادس (البهجوري) في 20 أبريل سنة 1656م، ظل الكرسي الإسكندري بعده شاغراً لمدة أكثر من 4 سنوات؛ ذلك لأن الأقباط كانوا قد سئموا من تصرفات البابا السابق، حتى صار على ألسنتهم هذا الشعار: ”ما لنا حاجة إلى بطاركة، وكفانا ما حصل“ (قيام خصومة بين البطريرك وأحد الأراخنة، وفرضه أموالاً كثيرة على الشعب بصفة جبرية. ويقول كاتب سيرته إنه كان ”كثير الحمق“ وضج منه الجميع – عدد يونية 2013، ص 49،48).

بدء انتخابات البطريرك:

ولما طال الزمن وظل الكرسي البطريركي شاغراً، قام الأساقفة وأقنعوا الشعب بضرورة العدول عن رأيهم، وبدء النظر في أمر اختيار البطريرك بحيث يكون جديراً بإسناد هذا المركز السامي إليه.

ترشيح راهبين اثنين للبطريركية:

وبعد البحث والاستقصاء، وقع اختيار البعض على الأب الإيغومانس جرجس رئيس دير العذراء براموس، واختار البعض الآخر الإيغومانس يوحنا (من دير البراموس أيضاً). ولم يمكن التوفيق بين الفريقين، حتى زال الاختلاف ووقع الاختيار على الأب الإيغومانس جرجس.

مَن هو الإيغومانس جرجس البراموسي:

كان والدا هذا الراهب من المسيحيين الأتقياء أصحاب الصدقات. وكانا من أغنياء قرية ”مير“ من إقليم ”الأشمونين“ بكرسي قسقام المعروف بالمحرَّق.

وقد رُزق الوالدان بثلاثة أولاد ذكور منهم الأب جرجس، وكان محبوباً أكثر من أخويه لتميُّزه وذكائه.

وقد اعتنى والداه بتربيته الروحية، فلم يكلِّفاه بالمضيِّ إلى الحقل والاشتغال بالزراعة ولا إلى مرعى المواشي مثل أخويه، بل أدخلاه الكُتَّاب بالكنيسة، فتعلَّم القراءة والكتابة ودراسة الكتاب المقدس وحِفظ الألحان الكنسية والتراتيل وتسابيح الكنيسة، وكان بارعاً فيها أكثر من أقرانه، وكان يقوم بتفسير معاني الآيات والطقوس لكل مَن يسأله.

+ ولما بلغ سن الرشد، زَهَدَ في هذا العالم الزائل، ومضى من بيت أبيه إلى دير العذراء براموس ببرية شيهيت بوادي النطرون.

+ وبعد أن لبث في الدير مدة 6 سنوات، رأى في حُلم أنَّ والديه حزينان بسبب عدم معرفتهما بمكانه، لأنه لم يُخبر أحداً بنيَّته في الالتحاق بالرهبنة وبدخوله دير البراموس. فقام من نومه منزعجاً، واستشار إخوته الرهبان في ذلك، فوافقوه على أن يُسافر إلى بلدته ”مير“ ليُطمئن والديه على نفسه. فمضى إلى بلدته ”مير“ وزار والديه وإخوته. فلما رأوه فرحوا به كثيراً، ثم أراد أبوه أن يُثنيه عن الرهبنة ويُزوِّجه. فلما شعر الراهب جرجس بهذه النيَّة وعَلِمَ بحقيقة ما نوى عليه والده من أحد أصدقائه، هرب من البلدة مُسرعاً إلى ديره دون أن يشعر به أحد. ففرح الإخوة بالدير بعودته فرحاً عظيماً.

+ وظل الراهب جرجس مُقيماً في ديره عائشاً مع إخوته الرهبان بمحبة وإخلاص، وكان يقوم بخدمتهم روحياً ومادياً، حتى قرروا رسامته قسّاً على الدير. وبعد رسامته قسّاً، ظل يكدُّ في السهر في الصلوات في ساعاتها، والنُّسك بالصوم في مواسمه، وفي أوقات فراغه كان يقوم بالعمل أكثر مما هو مفروض على باقي الرهبان. واستمر على هذا المنوال سنين عديدة.

قصة الخلاف على اختياره للبطريركية:

لما ظل الكرسي البطريركي للإسكندرية خالياً مدة طويلة، كما ذكرنا، قام الأساقفة مع الأراخنة والشعب بالبحث في سائر الأديرة عن الرهبان الذين يمكن اختيار البطريرك من بينهم. فدلَّهم الآباء على الإيغومانس (القمص) جرجس (الميري) رئيس دير البراموس، وكان في ذلك الحين مُقيماً بمدينة طوخ النصارى للإشراف على أوقاف الدير من الأراضي الزراعية، وللقيام بإرسال قوافل تحمل تموين الدير. فلما فاتحوه في أمر ترشيحه للبطريركية، رفض مُعتذراً لهم، ولم يشأ أن ينزل معهم. فاتَّجه تفكيرهم نحو القمص يوحنا، وكان رجلاً مشهوراً بالورع والعلم مثل زميله القمص جرجس (الميري)، ولكن لم يجدوا من الشعب تأييداً لهذا الترشيح.

+ وبعد ذلك، أرسل الأراخنة وفداً من أعيان الشعب وكبار الكهنة لإحضار القمص جرجس (الميري) من طوخ النصارى (مكان إقامته آنذاك). فلما وصلوا إلى طوخ قابلوه هناك.

ويقول كاتب السيرة: إنهم أخذوا معهم جنداً (كانوا يُسمَّون آنذاك بـ ”الجندرمة“) واقتادوه عنوة إلى بيت الوالي، وأودعوه في بيت الوالي مع زميله القمص يوحنا، وظلاَّ هناك 40 يوماً.

+ ويقول كاتب السيرة: إن الشعب انقسم في اختيار الأصلح منهما، وتمسَّك كل فريق بمرشَّحه حتى طالت مدة حجزهما في بيت الوالي، وتعطَّلت رسامة البطريرك مدة 3 أشهر أيضاً بسبب هذا الانقسام.

+ كما يقول كاتب السيرة إنَّ الجُند شاهدوا في بعض الليالي أثناء حراستهم للراهبين كأنَّ قنديلاً يُضيء فوق رأس الراهب جرجس الميري.

+ ولكن ظل الكرسي خالياً حتى تيسَّر إزالة هذا الخلاف، وتمَّ الصُّلح بين الفريقين واجتمعت كلمتهما على تقديم القمص جرجس الميري، ورَضِيَ به الشعب مجتمعاً عليه(1).

رسامة القمص جرجس بطريركاً:

وهكذا قُدِّم القمص جرجس الميري للرسامة بوضع أيدي المطارنة والأساقفة على رأسه، ليصير ”رئيس أساقفة على مدينة الإسكندرية“. وتمَّ ذلك في كنيسة القديس مرقوريوس بمصر القديمة في يوم الأحد الأخير من شهر هاتور، 30 هاتور سنة 1377/ 6 ديسمبر 1660م. وكان ذلك في أيام السلطان العثماني محمد الرابع.

البابا متَّاؤس الرابع بطريركاً

على الإسكندرية (الثاني بعد المائة):

وكان يوم رسامة البابا متَّاؤس الرابع يوماً مشهوداً في البلاد المصرية. فكان فرح الأقباط والمسيحيين على اختلاف طوائفهم عظيماً بعد طول الانتظار.

+ وجلس هذا البابا على الكرسي المرقسي داخل ”القلاية البطريركية“ بكنيسة العذراء الأثرية بحارة زويلة، وبدأ النظر في الأحكام الشرعية وأمور الكنيسة.

أخلاقه وتواضعه مدة رئاسته، وأعماله:

كان هذا البابا يتمتع بتواضعٍ جمٍّ، فلم يتغيَّر في أحواله عن أيام رهبنته وحياته النسكية التي كان يُمارسها في ديره. فما كان يحب التعظُّم ولا التفاخُر، فما كان يعتلي كرسي البطريرك الموضوع في الكنيسة مطلقاً، بل كان يظل واقفاً بجانبه.

+ وقد اشتهر – كما سجَّل له سنكسار دير القديس أنطونيوس – بأنه كان يفتقد الأرامل والأيتام ويزور المسجونين ويُواسيهم، وكان يعتني بالرهبان المنقطعين للعبادة في الأديرة ويُزوِّدهم بما يحتاجونه. وباختصار، كان مُحبّاً للبراري وساكنيها والكنائس وشعبها.

+ ورغم كل هذه الأعمال، لم يكن – مثل سَلَفه البابا السابق – يطلب من أحد زيادة في الرسوم المطلوبة العادية.

+ وذُكِرَ في كتاب: ”التوفيقات الإلهامية“، ص 541، حدوث حريق هائل في حي باب زويلة، وذلك في شهر بشنس سنة 1386ش، حتى مات فيه ضحايا كثيرون، وتخرَّبت المساكن في ذلك الحي.

+ وفي سنة 1387ش، انتشر وباء عظيم في مصر سقط فيه ضحايا كثيرون. وقد أطلقوا عليه اسم ”الحريق“، ومات فيه كثيرون من الناس.

الكنيسة الإثيوبية:

قام هذا البابا برسامة مطران على الكنيسة الإثيوبية سنة 1665م، باسم ”المطران خريستوذولو“، وظل بها حتى تاريخ نياحته بعد ذلك بسبع سنوات عام 1672م.

+ وقد أقام الأب البطريرك لهذه المملكة مطراناً آخر بعد نياحة المطران ”خريستوذولو“، يُدعى ”أبونا شنودة“ الذي ظل رئيساً للكنيسة الإثيوبية حتى سنة 1694م، وكان ذلك في أثناء عهد الملك الإثيوبي ”واسيليدس“ (الذي تولَّى المملكة من 1632-1667م)، كما عاصَر خليفته الملك يوحنا الأول (تولَّى المملكة من 1667-1682م). وكان ”أبونا شنودة“ (كما يُطلق الإثيوبيون على مطرانهم) قد عاصر بعد الملك يوحنا الملك ياسو الأول الذي تولَّى المُلْك من سنة 1682-1706م.

نقل الكرسي البطريركي إلى حارة الروم:

ظلَّت كنيسة العذراء بحارة زويلة مقرّاً رسمياً للبطاركة من عهد البابا يوحنا الثامن (البطريرك الـ 80) منذ سنة 1303م إلى عهد البابا متَّاؤس الرابع الذي كان آخر مَن سكن من البطاركة في حارة زويلة، وأول مَن نَقَل الكرسي البطريركي إلى حارة الروم في سنة 1660م عقب رسامته.

فشل المحاولات الشيطانية

أمام وداعة وتقوى البابا متَّاؤس:

+ في مرة أراد بعض الحانقين أن يهدموا بيعة القديس مرقوريوس بمصر القديمة، وتوجَّهوا إلى ديوان الوالي وطلبوا تعيين ”أغا“ من قِبَل الدولة للقيام بتنفيذ هذه المهمة. فلما بلغ الخبر البابا متَّاؤس، اغتمَّ غمّاً شديداً، وأقام ساهراً بالليل في مناجاة الله وشهيده القديس مرقوريوس. فما كاد الجنود ينامون حتى وقع عليهم حائط، فماتوا جميعهم، وشاع الخبر في المدينة كلها. فاضطربوا وعدلوا عن مشورتهم الرديئة. وقدَّم البابا الشكر لله على تلبية ندائه وخلاص الكنيسة من الهدم.

رسالة لاهوتية يكتبها البابا متَّاؤس الرابع عن

حقيقة الحضور الإلهي في سرِّ الإفخارستيا:

لم يقف جهاد البابا متَّاؤس عند احتماله المضايقات والمعاكسات من الخارجين، بل امتدَّ نشاطه إلى أن يُعلن في عام 1672م الإيمان الأرثوذكسي ليُدعِّمه في قلوب المؤمنين. وهكذا كتب رسالة أوضح فيها حقيقة الحضور الإلهي في سرِّ الإفخارستيا، وذلك في مواجهة التعاليم التي ظهرت في الغرب على يد ”يوحنا كالفن“ في أواخر القرن السابع عشر (1670-1689م)، وكان قد طُلب منه أن يوضِّح تعليم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حول هذه التعاليم ما يخص ”سر الإفخارستيا“.

+ وفي هذه الرسالة يُظهِر البابا كيف أن طقس القداس الإفخارستي يُعيد حضور التجسُّد. وفي هذا الإطار يُلقي البابا متَّاؤس الضوء على حقيقة أنَّ لاهوت المسيح يبقى مُختفياً تحت أعراض الخبز والخمر، كما كان مُختفياً في أحشاء البتول القديسة العذراء مريم. وبتعليم البابا متَّاؤس الرابع في القرن السابع عشر، يُعتبر سر الإفخارستيا هو المضمون الوحيد والممتاز الذي من خلاله يصير الكلمة المتجسِّد منظوراً بالإيمان وحاضراً لدى المؤمن، من أجل أن يشترك في جسد المسيح من خلال الأَكْل والشُّرب، وبهذا يعترف المؤمن بعمل الله الخلاصي بتجسُّده(2).

اللغة القبطية في الجيلين

السادس عشر والسابع عشر الميلاديَّيْن:

+ قال المقريزي في كتابه ”الخطط“ إن رهبان مصر لبثوا يتكلَّمون باللغة القبطية لغاية القرن الخامس عشر، وأنَّ بعض النساء والأطفال في الصعيد ورهبان الأديرة الكائنة حول أسيوط وأهل درُنكة وأخميم والبلاد المجاورة في الجهة الشرقية، كانوا يتكلَّمون جميعاً بها في ذلك العصر (الجزء الرابع – ص 417،416).

+ وقد ذَكَرَ الأب ”فانسليب“ في كتاب سياحته في مصر سنة 1672م، أنه وجد بين الأقباط مَن يتكلَّم بلغته الأصلية عند زيارته لأسيوط، فقد قابَلَ المطران القبطي أنبا يؤانس. وقال عنه إنه رجل شريف للغاية، تقيٌّ، فاضل، وأنه عرَّفه بأحد أصدقائه المدعو ”المعلم أثناسيوس“، وهو الشخص الوحيد في مصر العُليا الذي يتكلَّم لغة البلاد الأصلية أي اللغة القبطية (صفحة 363).

آخر أيام البابا متَّاؤس:

وقام البابا متَّاؤس الرابع برعاية شعبه رعاية حسنة مقرونة بالصلاح والتقوى والوداعة والرأفة. ولما قربت أيامه، مضى إلى مَقْبَرة الآبـاء البطاركة بمصر ووقف أمامها، وهـو يقول:

- ”انفتحي واقبليني كي أسكن عند إخوتي“.

ولما مضى وعاد إلى قلايته، اعتراه مرض الموت، فأرسل إلى الأساقفة كي يُحضرهم ويُوصيهم على رعاية رعية المسيح، كما أحضر رئيسة الراهبات بحارة الروم من ديرها، وأعطاها كامل ما عنده وأوصاها قائلاً:

- ”تحفَّظي على هذه الوديعة، واعْطِها للذي يأتي بعدي، لأنها وَقْف على القيامة“.

وكان عمر البابا متَّاؤس الرابع وقتئذ خمساً وسبعين سنة(3).

نياحة البابا متَّاؤس الرابع:

وأقام البابا متَّاؤس الرابع على الكرسي الرسولي الإسكندري مدة 14 سنة، 6 أشهر، 23 يوماً. وتنيَّح بسلام في يوم 16 مسرى 1391ش/ 15 أغسطس 1675م.

وكانت نياحته بالقلاية البطريركية القديمة في كنيسة الشهيد مرقوريوس بمصر القديمة. واجتمع سائر الكهنة والشعب في يوم جنازته بعد أن استأذنوا من والي مصر بدفنه. فأطلق سبيلهم بعد أن أَخَذَ منهم أموالاً طائلة.

وقد ناح على فقدانه جميع الشعب المسيحي، ودفنوه في المغارة المخصَّصة للبطاركة تحت الهيكل في الكنيسة المذكورة.

بركة صلاته تكون معنا، آمين.

+ في العدد القادم سنذكر بعض أخبار عن الكنيسة القبطية في ذاك العصر، كما رآها الراهب الإيطالي فانسليب الذي مكث 3 سنين في مصر، وكتب ما شاهده في هذا الكتاب.

(يتبع)

(1) كتاب ”تاريخ البطاركة“، تأليف أسقف فوَّة، ص 188 ”أ“، 189.
(2) Stephen J. Davis, Coptic Christology in Practice, Oxford University Press, New York, 2008, p. 279. وفي هذا الكتاب الفريد من نوعه، يعرض المؤلِّف الكتابات اللاهوتية لآباء الكنيسة القبطية من القرن الأول وحتى القرن العشرين، ثم يعرض ما كتبه الأب المطوَّب متى المسكين من كتابات لاهوتية حول شخص المسيح.
(3) كتاب 289 طقس، وكتاب 343 طقس، وجه 160 – مكتبة دير الأنبا أنطونيوس.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis