|
|
|
كيف نصير أقوياء؟
ليس المقصود بالعنوان ”طعام الأقوياء“، أنه حديث موجَّه للأقوياء، وإلاَّ كانت هذه المقالات غير مناسبة لجميعنا، لأنه ليس أحدٌ قويّاً في ذاته، فكلنا ضعفاء، وقوتنا هي في ثباتنا في المسيح. فقد قال الرب يسوع: «الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير. لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5). لاحِظ هنا ضرورة الثبوت المتبادَل، نحن فيه وهو فينا، بمعنى أنه كلما ثبتنا فيه ثبت هو فينا. فإذا ثبتنا في عهد الثبوت في المسيح بلا تردُّد، مهما كانت التكلفة، ثبت هو فينا بلا حدود، وصار هو قوتنا مهما كنَّا ضعفاء. وبالأخص إذا تيقَّنا في نفوسنا أننا بدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً: «ليس أننا كُفاةٌ من أنفسنا أن نفتكر شيئاً كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله» (2كو 3: 5).
وقد اختبر بولس الرسول هذا الاختبار العجيب، حينما تضرَّع للرب من أجل شوكة الجسد التي كان يُعاني منها، من أجل أن تُفارقه، فقال له الرب: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كو 12: 9). فبمجرد ما تقبَّل بولس الرسول هذا الردَّ من الرب يسوع، امتلأ قوة وشجاعة وصرخ قائلاً: «فبكل سرور أفتخر في ضعفاتي لكي تحلَّ عليَّ قوة المسيح. لذلك أُسرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو 12: 10،9).
أما مصدر القوة الذي وعد الرب به تلاميذه وهو بعد معهم في ليلة آلامه، فهو الروح القدس الذي قال لهم عنه: «وأما المعزِّي الروح القدس الذي سيُرسله الآب باسمي، فهو يُعلِّمكم كل شيء، ويُذكِّركم بكل ما قلته لكم» (يو 14: 26). ثم أكَّد قوله لهم أيضاً عن مجيئه قائلاً: «ومتى جاء المعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً، لأنكم معي من الابتداء» (يو 15: 27،26). ثم بعد قيامته من بين الأموات أوصاهم قائلاً: «ها أنا أُرسل إليكم موعد أبي، فأقيموا في مدينة أُورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي» (لو 24: 49). وهو نفس ما وعدهم به وذكره القديس لوقا الإنجيلي في سفر الأعمال أيضاً قائلاً: «وأوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني... لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونـون لي شهوداً في أورشليم وفي كـل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع 1: 8،4).
هذه القوة هي شركة الطبيعة الإلهية التي قال عنها بطرس الرسول: «كما أن قدرته الإلهية قد وَهَبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (2بط 1: 4،3).
وشركة الطبيعة الإلهية لا تعني أنَّ الإنسان يصير صاحباً أو مالكاً للطبيعة الإلهية، بل إنها تعني بكل بساطة ما قاله الرب يسوع لتلاميذه: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أُحبه وأُظهِر له ذاتي» (يو 14: 21). وأيضاً قوله: «إن أحبني أحدٌ يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23). كما قال الرب أيضاً في صلاته الأخيرة للآب: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ، ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني» (يو 17: 23،22).
وفي ذلك يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
[عندما يكون الروح القدس فينا، يكون فينا أيضاً الكلمة الذي يمنح الروح القدس، والآب الذي هو في الكلمة، وهذا يتفق مع ما قيل: «إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23)، لأنه حيث وُجد النور وُجد أيضاً الشعاع، وحيث وُجد الشعاع وُجد أيضاً نشاطه وُوجدت نعمته الخافقة، هذا ما نادَى به أيضاً الرسول عندما كتب لأهل كورنثوس: «نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله الآب، وشركة الروح القدس، تكون مع جميعكم» (2كو 13: 14)؛ لأن النعمة والموهبة التي تُمنح، إنما تُمنح في الثالوث من الآب والابن في الروح القدس](1).
كما يُعلِّق أيضاً القديس كيرلس الكبير قائلاً:
[... وكما خُلق الإنسان في البدء على صورة خالقه؛ كذلك الآن، بالاشتراك في الروح القدس، يتغيَّر إلى صورة خالقه ويصبح على مثاله. ولا يوجد لدينا أدنى شك في أن الروح القدس هو الذي يختم صورة المخلِّص على قلوب الذين يقبلون المخلِّص: «يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصَّور المسيح فيكم» (غل 4: 19)، وهو يقول إنَّ المسيح لن يتصوَّر فيهم إلاَّ بالاشتراك في الروح القدس](2).
وقد جاء في سفر الأعمال أنه عندما حلَّ الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين: «صار بغتةً من السماء صوتٌ كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة مُنقسمة كأنها من نار واستقرَّت على كل واحد منهم» (أع 2: 3،2). فالصوت صوت هبوب ريح عاصفة، والمظهر مظهر ألسنة منقسمة كأنها من نار، ولكنه لم يكن مجرد ريح تهب بل هو تحقيق لنبوَّة حزقيال: «هَلُمَّ يا روح من الرياح الأربع وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا» (حز 37: 9)، أو بحسب قول الرب عن المولودين من الروح: «الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب! هكذا كل مَن وُلد من الروح» (يو 3: 8)؛ وكذلك المظهر، مظهر ألسنة منقسمة كأنها من نار، ليكشف عن طبيعة الروح وفعلها المُطهِّر والحارق للخطية: «إلهنا نارٌ آكلة» (عب 12: 29)، وتأكيداً لقول الرب: «جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض، فماذا أُريد لو اضطرمت؟» (لو 12: 49)
ومما يُلفت انتباهنا بشدة ما قاله الرب لتلاميذه في ليلة آلامه: «أقول لكم الحق، إنه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إنْ لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إنْ ذهبتُ أُرسله إليكم» (يو 16: 7)، مما يعني أن الصعود كان ضرورة لحلول الروح القدس على التلاميذ والكنيسة؛ ذلك لأن الروح القدس كان هو الذي سيتكفل بأن يجعل كل ما للمسيح من موت وقيامة وحياة فينا ولنا مباشرة، ”فهو يرشدنا إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كل ما يسمعه يتكلَّم به، ويُخبرنا بأمور آتية“ (يو 16: 13).
كما أنه يجعلنا تحت أُبوَّة الآب وسلطانه وحبه وتدبيره وكل عطاياه، لأن المسيح قال: «كل ما للآب هو لي» (يو 16: 15). فهو الذي يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، لأن كل ما يحدث للنفس البشرية من مفاعيل إلهية هو حصيلة لعمل الثالوث المشترك، فهو عمل الآب والابن والروح القدس، على حدِّ قول القديس كيرلس الكبير: [كل شيء هو من الآب بالابن في الروح القدس](3). فالروح القدس هو المتكفِّل بتكميل مشيئة الآب والابن فينا. لذلك فإنَّ هذا الروح الناري هو الذي حثَّنا على قبوله القديس أنطونيوس الكبير والقديس مقاريوس الكبير، والكثيرون من الآباء القديسين. وفي هذا يقول القديس أنطونيوس:
[وأما أنا فطلبتي الآن ليلاً ونهاراً ليكون فيكم عظمة ولذة هذا الروح الذي قد قَبِلَه جميع الأطهار. وإني، يا أولادي الأحبَّاء، بعد أن كتبتُ هذه الرسالة تحرَّك فيَّ روح الله أن أكتب لكم عن هذا الروح الناري في آخرها وعن المحبة الإلهية... وأطلب إليكم أن تتركوا إرادتكم الحسية وتلزموا الهدوء بكل نوع، لكيما تسكن عندكم القوات العلوية بمؤازرة هذا الروح القدس، وتُعينكم على العمل بإرادة الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس. له السُّبح دائماً سرمدياً إلى أبد الآبدين، آمين.](4).
ويقول أيضاً القديس أنبا مقار:
[النفس إذا كان لها إقامة في شركة الروح القدس، فإنَّ طول إقامتها في نار الروح ونوره الإلهي يُحصِّنها ضد أية مضرَّة من أي روح شرير، لأنه إذا اقترب من النفس يحترق بنار الروح السمائي](5).
كما يقول القديس مار إسحق السرياني:
[الذي وُلد روحيّاً من العماد المقدس وتتلمذ للتدبير الملائكي، ينبغي له أن يعمل ويُجاهد مقابل الآلام، ويسأل نعمة الله أن يُولد للطهارة، ويؤهَّل إلى ما هو فوق الطبع (البشري) بسرِّ استعلان الروح القدس، لكي يقبل عربون مجد كنز البنوَّة](6).
روح الله وقوته في العهد القديم:
ما أكثر الآيات التي تُشير إلى عمل روح الله وقوته في العهد القديم، وفي أنبيائه ومختاريه الذين طلبوه فوجدوه، واستعانوا به في جهادهم وشهدوا لعمله فيهم. فقد كان الروح القدس هو:
1. القوة الفعَّالة في الأبطال الذين عيَّنهم الله للدفاع عن إسرائيل:
+ «الرب قوتي ونشيدي، وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأُمجِّده، إله آبائي فأرفعه... يمينك يا رب معتزَّة بالقدرة...» (تسبحة موسى بعد عبور البحر الأحمر - خر 15: 1-19).
+ «لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك. تشدَّد وتشجَّع» (كلام الرب ليشوع بن نون - يش 1: 6،5).
+ «فالتفت إليه الرب (إلى جدعون) وقال: اذهب بقوَّتك هذه وخلِّص إسرائيل من كفِّ مديان. أَمَا أرسلتك؟» (قض 6: 14)
+ «وحلَّ عليه روح الرب (على شمشون)» (قض 14: 19).
2. وكان هو إلهام الأنبياء للنطق بكلمة الله:
+ «أحبك يا رب يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به أحتمي» (مز 18: 1).
+ «يا قوتي أسرع إلى نصرتي» (مز 22: 19).
+ «ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصاً» (إش 12: 2).
+ «الرب السيِّد قوتي، ويجعل قدميَّ كالأيائل، ويمشيني على مرتفعاتي» (حب 3: 19).
+ «قوتي وترنُّمي (هو) الرب، وقد صار لي خلاصاً» (مز 118: 14).
الروح القدس هو قوة الكارزين
في شهادتهم للمسيح:
+ «لأني لستُ أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل مَن يؤمن» (رو 1: 16).
+ «ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة! وأمَّا للمدعوِّين: يهوداً ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله. لأن جهالة الله أحكم من الناس! وضعف الله أقوى من الناس!» (1كو 1: 23-25)
+ «فإنَّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأمَّا عندنا نحن المُخَلَّصين فهي قوة الله» (1كو 1: 18).
+ «وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع، بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله» (1كو 2: 5،4).
+ «إن إنجيلنا لم يَصِر لكم بالكلام فقط، بل بالقوة أيضاً، وبالروح القدس، وبيقين شديد، كما تعرفون أيَّ رجال كنَّا بينكم من أجلكم» (1تس 1: 5).
+ «ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منَّا» (2كو 4: 7).
+ «بل في كل شيء نُظهِر أنفسنا كخُدَّام الله، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام، في طهارة، في علم، في أناة، في لُطف، في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلام الحق، في قوة الله بسلاح البرِّ لليمين ولليسار...» (2كو 6: 4-10).
+ «وكان الله يصنع على يديْ بولس قوات غير المعتادة، حتى كان يؤتَى عن جسده بمناديلَ أو مآزرَ إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة منهم» (أع 19: 12،11).
الروح القدس والاستشهاد:
كما أنَّ الشهادة للمسيح بالكرازة هي عمل من أعمال الروح القدس، كذلك فإنَّ الاستشهاد بسَفْك الدم هو بقوة الروح القدس. وفي ذلك يقول العلاَّمة كليمندس الإسكندري:
[إنَّ الشهيد بسبب حبِّه للرب يُفارق الحياة بكل سرور... ولذلك نحن ندعو الاستشهاد كمالاً، ليس لأن الإنسان يصل به إلى تكميل حياته مثل الباقين، بل لأنه به يُظهِر كمال فعل المحبة...
ثم إن كان الاعتراف من أجل الله يُعتبر شهادة، فإنَّ كل نفس تسلك بالنقاوة وبمعرفة الله وتحفظ وصاياه، فإنها تكون شاهدة (أو شهيدة) بسيرتها وبكلامها، حتى أنها مهما كانت الطريقة التي تُفارق بها جسدها، فهي تسكب إيمانها عِوَض الدم طوال حياتها وحتى إلى وقت خروجها. ولذلك قال الرب في الإنجيل ”إنَّ كل مَن ترك أباً أو أُمّاً أو إخوة... من أجل الإنجيل ومن أجل اسمي، يكون مغبوطاً“؛ وهو بذلك لا يُشير إلى الاستشهاد العادي، بل إلى الاستشهاد بحسب المعرفة، بالسلوك حسب منهج الإنجيل من أجل محبة الرب](7).
(يتبع)
==========
دير القديس أنبا مقار
بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:
21.130.153
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر - فرع النيل هيلتون
===========
(1) الرسالة الأولى عن الروح القدس : 30 (نقلاً عن كتاب: ”الروح القدس الرب المُحيي“، للأب متى المسكين).
(2) على إنجيل يوحنا 20: 23،22 (نفس المرجع).
(3) In Jo. Evang., XI; PG 74, Col. 541.
(4) الرسالة الثامنة، ص 50-52 (نفس المرجع).
(5) العظة 30، ص 233 (نفس المرجع).
(6) رؤوس المعرفة - الجزء الرابع - ميمر ثانٍ (نفس المرجع).
(7) Stromata IV,4; ANF II, 411-412.