من الكتابات المسكونية الأرثوذكسية |
|
|
+ القديس الروسي يوحنا كرونستادت كان كاهن رعية متزوجاً، عاش في روسيا في القرن التاسع عشر. وقد كرَّس حياته كلها لخدمة الشعب في بذل وحُب وتفانٍ منقطع النظير، وفي نفس الوقت كان رجل صلاة وأُلفة دائمة مع الله. ترك مؤلَّفات روحية كلها نابعة من خبرات حياته. وقد تُرجم كتابه: ”حياتي مع المسيح“ إلى عدَّة لغات. وكان الشعب الروسي يُجِلُّه ويُقدِّسه حتى قبل وفاته. وكانت له مواهب الكشف والنبوَّة والشفاء. وقد انتقل من العالم في 20 ديسمبر عام 1908. وقد حدثت معجزات كثيرة بصلواته بعد انتقاله. وأعلنت الكنيسة الروسية قداسته في أول نوفمبر عام 1964 تحت اسم: ”القديس يوحنا كاهن كرونستادت العجايبي“. وقد وردت مقتطفات من أقواله في كتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ للأب متى المسكين.
الكهنوت والليتورجية:
نادراً ما تكلَّم القديس الروسي يوحنا عن الكهنوت دون أن يذكر الليتورجية، التي كان يُسمِّيها ”السماء على الأرض“. وقد أوضح أن ينبوع كل تقديس، الذي يُتمِّم السرائر الكنسية، هو المسيح نفسه. فهو يُذكِّر شعبه في أول عظة له بقوله: [المسيح هو رئيس الكهنة الوحيد، الأول والآخِر، فهو بنفسه يؤدِّي واجبات الكاهن فينا ومن خلالنا].
كما أنه يُكرر ذلك في الذكرى الخامسة والثلاثين لرسامته فيقول: [كهنوتي وكهنوت الآخرين جميعاً هو كهنوت المسيح. الكاهن الحقيقي الأعظم وحده هو المسيح، وهو بنفسه يخدم من خلالنا، فهو الكاهن الأبدي على رتبة ملكي صادق].
كان للأب يوحنا وعيٌ عميق بالمغزى العظيم لسرِّ الكهنوت، فقد كتب يقول: [الكاهن يكون مَهيباً أثناء الاحتفال بجميع الخدمات اليومية وخصوصاً أثناء إتمام السر الكنسي، حيث يكون الله قد منحه أعظم سلطان، فهو يكون ممتلئاً بالقوة ويمكنه أن يتوسَّل من أجل العالم كله!].
وفي الفقرة التالية يشرح بالتفصيل المعنى المقصود من قوله: [الله يمنحه أعظم سلطان]، فيقول: [قيمة رتبة الكهنوت يمكن أن تُقاس بعظمة نعمتها وخواصها المُخلِّصة وقوتها المعجزية. إنَّ الله يُتمِّم بواسطة الكهنوت أعمالاً عظيمة وفادية بين البشرية. فهو يُطهِّر ويُقدِّس الناس والحيوانات والعناصر، وهو يُحرِّر البشر من أعمال الشيطان البغيضة، وهو يُجدِّد ويُشجِّع، وهو يُحوِّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الله المتأنِّس القدوس ذاته، وهو يُزوِّج الناس ويجعل الزواج مُكرَّماً وفراش الزيجة غير دنس، وهو يحلُّ من الخطايا، ويشفي من الأمراض، ويُحوِّل الأرض إلى سماء، ويُوحِّد السماء بالأرض والإنسان مع نفسه، وهو يضمُّ الملائكة مع البشر في جماعة واحدة. وليس باطلاً أن يُدعَى الرب، الذي هو المُتمِّم لخلاصنا، رئيساً للكهنة. إنه هو المؤسِّس والمُتمِّم لسرِّ الكهنوت، مؤسِّساً إياه على الأرض مع ”المُقدِّس والمُتمِّم الذي هو الروح القدس“].
سمو رتبة الكاهن واقتناؤه الحب الإلهي:
وفي مكانٍ آخر يُسمِّي الأب يوحنا الكاهن ملاكاً فيقول: [أية شخصية سامية هو الكاهن! إنه يتكلَّم دائماً مع الله، والله يستجيب له دائماً أياً كان الطقس ومهما كانت الصلاة... فالكاهن من المفروض أن يكون ملاكاً وليس إنساناً].
والأب يوحنا يذكر دائماً أن السلطان الذي يُعطَى للكاهن يضع عليه مسئولية ضخمة. وكان الأب يوحنا يُقيم في تلك المسئولية بصفة رئيسية. وهو يربط مسئولية الكاهن بقداسة الليتورجية وكمالها غير المحدودَيْن، وبصفة خاصة سر الإفخارستيا. فهو لم ينسَ قط أن ذبيحة الإفخارستيا هي امتدادٌ لذبيحة الرب على الصليب وأسمى تعبير عن حُبِّه للبشر. ولذلك فإنَّ على الكاهن، بحق السلطان الإلهي، أن يكتسب بالضرورة الحب الإلهي، وهو يقول في ذلك: [يجب على الكاهن في المقام الأول أن يكتسب، بواسطة نعمة الله، حُبّاً إنجيلياً، فهو يحتاج إلى هذا الحب في كل لحظة. ولكنه يحتاج إلى هذا الحب بصفة خاصة أثناء الاحتفال بالليتورجية الإلهية التي هي بكلِّيتها سر الحب الإلهي غير المحدود للجنس البشري. ففي سرِّ الإفخارستيا يبرز الحب الإلهي في خلوده الكلِّي عندما يُخلي الرب يسوع ذاته إلى أقصى حدٍّ لكي يُخلِّصنا، مُعطياً ذاته لنا كطعام وشراب. ففي أثناء القداس يجب أن يكون الكاهن ممتلئاً بالحب لله وللبشر الذين افتداهم المسيح جميعاً بدمه].
إن أسمى عطية للروح القدس هي الحب الإلهي، والهدف من الحياة المسيحية هو اقتناء هذا الحب. والتسليم الكلِّي لله هو فقط الذي يُمكِّننا من تحقيق ذلك. ولهذا السبب يجب أن يُمارس الكاهن إنكار الذات والتخلُّص من الأهواء. ويقول الأب يوحنا في ذلك: [يجب ألاَّ يكون في الكاهن حتى ولا ظِل للغضب أو الغمّ أو الشكوى، أو مشاعر مجروحة تجاه أي أحد، ولا أي مَيْل لأيِّ شيء أرضي: طعام أو لباس أو زينة أو رتبة رسمية، أو مَيْل لأيِّ شخص].
ضرورة أن يكون الكاهن خالياً من الأهواء:
وكثيراً ما تكلَّم الأب يوحنا عن ضرورة أن يكون الكاهن بدون هوى لكي يقتني الحب الإلهي. وها هي بعض الاقتباسات من كلامه عن طهارة الكاهن وخُلوِّه من الهوى: [أيُّ قلبٍ طاهر يجب أن يقتنيه الكاهن، وأن يكون مُتغرِّباً عن جميع المجاذبات الدنيوية، وذلك لكي يكون إناءً حاملاً للحب الإلهي المقدس، الحب المُتَّقِد للبشرية كلها، ولكي يُقدِّم لله الذبيحة غير الدموية (الإفخارستيا) من أجل العالم كله. الكاهن ينبغي أن يكون ملاكاً بلا هوى، ينتمي بكلِّيته إلى السماء، لهيباً من الحبِّ لله وللبشر. وكم يجب أن تكون شفتا الكاهن طاهرة، تلك التي تنطق كثيراً باسم الثالوث الأقدس. بل إنَّ القلب ينبغي أن يكون أكثر طهارة حتى يَحوي ويشعر بحلاوة ومجد وبهاء الاسم المجيد. وكم يجب عليه أن يتجنَّب بلا انقطاع المسرَّات الجسدية حتى لا يصبح جسدياً يمتنع روح الله أن يسكن فيه].
زهد الكاهن في الأرضيات
كرجل سماوي وقدوة:
وفي مذكِّراته اليومية يقول الأب يوحنا: [كيف يكون الكاهن مُولَعاً بالمسرَّات الدنيوية في حين أنَّ حاجته المتواصلة وبهجته هما في الربِّ وحده؟ ما هي المسرات الدنيوية عند ذاك الذي له أبناء روحيون يأتون إليه باحتياجاتهم الروحية والجسدية؟ ماذا تكون هذه بالنسبة للكاهن، بينما يجب عليه أن يُقيم مراراً وتكراراً الصلوات في الكنيسة ويقف أمام مذبح الله؟].
ولكن لأن الأب يوحنا يعلم الضعف البشري، فهو ينطق أحياناً بتحذيرات مُشدَّدة من الأخطار التي تنشأ من الجسد، فيقول: [أنت كاهن الله، خادم العَلي الخالق، فأَقِم الطقس الليتورجي بمخافة، ولا سيما إذا كنتَ تُجريه يومياً، واهتم بمعاملة بطنك بألاَّ تجعلها أداةً للشَرَه. حافظ على الصوم بصرامة كما أوصى به المخلِّص. أصغِ بانتباه للصوت الداخلي فيك والآتي إليك من آخرين، وانقِذ نفسك والناس]. كما أنه يُنبِّه الكاهن إلى ضرورة عدم التربُّح من الخدمة، فيقول: [بينما أنت تخدم الله فلا تُفكِّر في الغِنَى. لا تُكدِّر روح الله ولا تَبِع مواهب الله لئلا يصير الغِنَى هو سبب سقوطك].
والكاهن ينبغي أن يكون على دراية بالمشاعر غير الطاهرة والشريرة والأنانية. والأب يوحنا يُشير دائماً إلى تلك الأخطار بالإضافة إلى الضعفات الأخرى مثل الخوف والجُبن، فيقول: [إنك تقف في الكنيسة كممثِّل للإيمان بالله، فأنت كاهن مُمثِّل للرب نفسه، فيجب أن تكون صورةً للرقَّة والشجاعة والجَلَد والصبر وسمو الروح. إنك تعمل عمل الله ولا ينبغي أن تكون مكتئباً أمام أيِّ أحد، ولا تتملَّق أحداً ولا تكن ذليلاً، بل اعتَبِر أنَّ عملك أسمى من أية أنشطة بشرية أخرى].
ويؤكِّد على ذلك بقوله: [الكاهن - كملاك الرب القدير - يجب أن يكون فوق كل الأهواء وعصيان الروح وجميع الشهوات والمخاوف الباطلة التي هي من أعمال الشياطين. يجب أن يكون بكلِّيته في الله، فيحبُّه ويخافه هو وحده. الخوف من الناس معناه أنَّ التصاقه بالله ليس كاملاً].
جراءة الكاهن في صلاته:
ويشرح الأب يوحنا السبب في أنَّ الجرأة مطلوبة من الكاهن، فيقول: [ذبيحة الإفخارستيا، هي ينبوعٌ وفيرٌ لا يَنْضب للمصالحة مع الله، واقتناء النعمة والتطهير والتجديد والخلود، ومشاركة جميع المؤمنين للطبيعة الإلهية: الأحياء والراحلين. في هذا الينبوع تكمن مُصالحة وتطهير العالم كله، والدعوة الفعَّالة العُظمى لجميع شعوب الأرض لكي يتَّجهوا للمسيح. أيها الكاهن، استَمِع! إنك تُقيم أسْمَى ذبيحة، فكُن جريئاً في الصلاة. آمِن، وتَرَجَّى، وأَحِب. واقهَر الشيطان والعالم المليء بالزنا. اجتَذِب كل إنسان للمسيح، حَمَل الله، الذي حمل في جسده كل خطايا العالم].
والجرأة الروحية لا تكون، بالطبع، كبرياءً ولا غروراً، وهي تتطلَّب مسكنة روحية واتضاعاً. ولذلك يقول الأب يوحنا: [الكاهن الخادم يكون دائماً على دراية بعدم استحقاقه وضعفه وعدم سهولة وصوله إلى الله وعظمته وقداسته وحقه].
وإدراك الكاهن لذلك بدون المعونة المباركة التي من فوق إنما هو الحافز الرئيسي لحبِّه لخدماته، حبه للسرائر المقدسة، وجرأته في الرجاء، أنه فيها يجد معونة لنفسه وللآخرين. وكان يؤمن باستمرار ويُبشِّر بأنَّ كل قوة يملكها الكاهن يحصل عليها من سرِّ الإفخارستيا، فقد كتب قائلاً: [الطعام الإلهي، أي جسد الرب ودمه، يُجري فيَّ عجائب عظيمة من النعمة يومياً. إنه يُحطِّم فيَّ قوات الجحيم التي تهاجمني بأهواء متعدِّدة وعادات خاطئة. إنه يُجري فيَّ معجزات من التطهير والتقديس والسلام والحرية وتجديد الجسد والروح. ولكنني أتنازل عن ذِكْر تلك المعجزات عندما أُلاقي أفكاراً خاطئة في ذهني وقلبي. إنَّ معجزات قوة السرائر الإلهية تسكن فيَّ كل يوم، ومن أجل ذلك أُقدِّم تشكُّرات قلبية لربي يسوع المسيح مع الآب والروح القدس].
ولكن كيف يتحقَّق الحب الذي يختبره الأب يوحنا أثناء الليتورجية، والذي ينبغي أن يقتنيه كل كاهن؟ إنه يتحقَّق بالدرجة الأولى في الصلاة الحارة من أجل الآخرين، من أجل البشرية كلها. فهو يقول: [أية كرامة سامية وسعادة أن نُصلِّي من أجل البشرية، أن نُصلِّي من أجل أن يكون لنا الربح الثمين لإلهنا واقتناؤه. بأيِّ فرحٍ ومشاعر صالحة واجتهاد وحُب يجب علينا أن نُصلِّي لله الآب من أجل شعبه الذي اقتناه بدم ابنه!].
ويجب أن يكون طلبنا في الصلاة هو لأجل العطية العظمى للحبِّ الإلهي الحقيقي، لأنها نعيمٌ وحياةٌ أبدية، وهي في النهاية الله ذاته. فقد كتب الأب يوحنا يقول: [صَلِّ أنت ككاهن أولاً من أجل تطهير وتقديس وتجديد شعب الله ومن أجل تجديدك أنت]. وقد قال ذلك لأنه عَلِمَ أن هذا التقديس والتجديد لشعب الله يمكن البلوغ إليه باكتساب الحب الإلهي الذي يُعطَى للناس عندما يكونون مع المسيح وفي المسيح.
ويقول الأب يوحنا: [احْكُم على نفسك: كم أنَّ الإنسان عظيمٌ، فإنَّ الله يسكن فيه وهو في الله (1يو 4: 16)، حتى أنَّ المسيح نفسه، وليس إنساناً آخر، هو الذي يحيا في المسيحي التقي، وتصير النفس بكلِّيتها للمسيح؛ وذلك كما أنَّ الحديد المُحمَّى في فحم مشتعل يصبح ناراً وكأنه يشتعل، هكذا يصير كل شيء ناراً، كل شيء يكون نوراً].
(يتبع)