دراسة الكتاب المقدس
سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية
لبني إسرائيل
- 43 -


(تابع) تفاصيل العهد وشروطه
(12: 1 - 26: 19)
ثانياً: أحكام متعلقة بالأمور المدنية
وعلاقتها بالعبادة
(16: 18-20: 20)


(تابع) الأصحاح العشرون

كانت آخر توصيات الرب عمَّا يجب مراعاته في حالة الدخول في حرب مع الشعوب التي سوف يواجهها بنو إسرائيل عند دخولهم أرض الموعد، هي كيفية التعامُل مع حالتين مختلفتين من المدن التي يُقْدِم على محاربتها. فهناك مدن تقع في داخل أرض الموعد، وأخرى تقع على أطرافها. وقد رأينا في المقال السابق (عدد يونية 2011، ص 39) أنَّ الوضع يختلف بالنسبة للمدن البعيدة عن تلك التي تقع في داخل أرض الموعد.
فأول ما كان ينبغي عمله بالنسبة للمدن البعيدة هو استدعاؤها للصُّلح. والمقصود هنا هو دعوتها لعقد معاهدة. فإذا استجابت المدينة لدعوى الصُّلح والسلام، عندئذ يُعفَى شعبها من حُكْم الإبادة والتحريم، ويصبحون خاضعين لإسرائيل، ويكون من حقِّ شعب إسرائيل تسخيرهم واتخاذهم عبيداً لهم.

أما إذا رفضت الصُّلح، وعملت مع إسرائيل حرباً، فلابد من محاصرتها وضرب ذكورها بحدِّ السيف، أما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من ممتلكات يؤول غنيمة لهم. وهذا ما فعله موسى مع شعب مديان قبل دخول بني إسرائيل أرض الموعد (انظر عد 31: 25-30). وكذلك تعامُـل يشوع فيما بعد مع المدن التي فوق التلال التي صادفها وكانت مُسالمة وقَبـِلَت الصُّلح (انظر يش 11: 13).

أما المدن الواقعة في نطاق أرض الموعد، فقد أَمَرَ الرب بتحريمها تحريماً كاملاً، بأنْ يُباد أهلها إبادة كاملة، بما في ذلك الناس والبهائم، وحتى الغنيمة والأملاك التي فيها كان الأمر بحرقها بالنار. فقد كانت هذه الشعوب الكنعانية في أحطِّ المستويات الأخلاقية، وكان الإبقاء عليها فيه خطورةً داهمةً على شعب إسرائيل إ ذا خالطوهم وعاشروهم وصاهروهم. وهذا ما حدث بالفعل حينما تهاونوا في تنفيذ أوامر الرب كما سنرى في سفر القضاة وما بعده.

وفي ختام هذا الأصحاح العشرين، يُعطيهم الرب توصياتٍ بخصوص ما يُصادفهم من أشجار عند حصارهم لتلك المدن:

+ «إذا حاصرت مدينةً أياماً كثيرة مُحارباً إيَّاها لكي تأخذها، فلا تُتلف شجرها بوضع فأسٍ عليه. إنك منه تأكل، فلا تقطعه، لأنه هل شجرة الحقل إنسانٌ حتى يذهب قدَّامك في الحِصار. وأما الشجر الذي تعرف أنه ليس شجراً يؤكل منه فإيَّاه تُتلف وتقطع وتبني حِصْناً على المدينة التي تعمل معك حرباً حتى تسقط» (20: 20،19).

ويُعلِّق على ذلك العلاَّمة كليمندس الإسكندري بقوله:

[(الله) الكلمة في صلاحه، الغَني في محبته للبشرية، يُعلِّم أنه ليس جيداً أن يُقطَع شجر مُثمر، كما أنه لا يصحُّ إتلاف زراعات بقصد التخريب قبل موسم الحصاد، وأيضاً لا يصحُّ تدمير جذع أو فرع، أو ثمرة مزروعة في أرض أو في نفس، حتى ولو كانت في أرض العدو. نعم، فإنَّ الفلاحين يجدون ربحهم في هذا القانون. فإنه يُفرض عليهم أن يعتنوا بشجرهم الصغير حتى يبلغ السنة الثالثة، ويُقلِّمونه حتى يُحفَظ من أن يتثقَّل بكثرة التحميل فيضعف بسبب نقص التغذية التي تجعل نموه غير مكتمل. فهو يفرض عليهم أن يحفروا حولها ويُعمِّقوا لكي يحموها من الأمراض الطفيلية التي تعوق نموها. كما أنه لا يُسمَح بقطف الثمار قبل نُضجها من الأشجار التي لم يتم نُضجها](1).

+ + +

الأصحاح الحادي والعشرون

ثالثاً: الأحكام المتعلقة بالأمور الاجتماعية

(21: 1-26: 19)

اعتباراً من هذا الأصحاح الحادي والعشرين حتى نهاية الأصحاح السادس والعشرين يسود على الأحكام الواردة فيها طابع التنوُّع، الذي قد يُناسب جمعها ضمن إطار واحد يختص بالشئون الاجتماعية للشعب الإسرائيلي بعد دخوله أرض الموعد، دون إغفال علاقتها بالارتباط الأبدي بالعهد القديم بين بني إسرائيل ويهوه إله إسرائيل. وأول ما نُقابل في هذا الأصحاح هو قضية اجتماعية مرتبطة بعُمق لاهوتي وهي:

جريمة قتل والجاني مجهول:

+ «إذا وُجـِدَ قتيلٌ في الأرض التي يُعطيك الرب إلهك لتمتلكها، واقعاً في الحقل، لا يُعلَم مَن قتله. يخرج شيوخك وقضاتك ويَقيسون على المدن التي حول القتيل. فالمدينة القُرْبَى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عِجْلَةً من البقر لم يُحْرَث عليها لم تَجُرَّ بالنِّيْر، وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعِجْلة إلى وادٍ دائم السَّيَلان لم يُحْرَث فيه ولم يُزرَع، ويكسرون عُنُق العِجْلة في الوادي. ثم يتقدَّم الكهنة بنو لاوي، لأنه إيَّاهم اختار الرب إلهك ليخدموه، ويُباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة. ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العِجْلة المكسورة العُنُق في الوادي، ويُصَرِّحون ويقولون: ”أيدينا لم تَسْفِك هذا الدم، وأعيننا لم تُبصر. اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديتَ يا ربُّ، ولا تجعل دمَ بَريٍّ في وسط شعبك إسرائيل“. فيغفر لهم الدم. فَتَنـزع الدم البَريِّ من وسطك إذا عَمِلتَ الصالح في عيني الرب» (21: 1-9).

تعرَّض الأصحاح التاسع عشر لجرائم القتل التي قد تحدث دون قصد أو عن غير عَمْد، والتي من أجلها تم تحديد مُدنٍ خاصة سُمِّيَت مُدن الملجأ لكي يهرب إليها القاتل الذي قتل بغير عَمْد. أما هنا في هذا الأصحاح، فنجد شرحاً للإجراءات التي يجب اتِّخاذها في حالة العثور على جثة قتيل في الأرض العراء ”في حقل“، و”لا يُعلَم مَن قتله“. في هذه الحالة يتورَّط المجتمع كله في جريمة القتل، التي تُدنِّس الناس والأرض. وهذا يستوجب إجراءات طقسية يقوم بها شيوخ المدينة الأقرب إلى موقع الجريمة تحت إشراف الكهنة بني لاوي الذين ”اختارهم الرب إلهك ليخدموه ويُباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة“، وذلك للتكفير عن الأرض، ولتقديم الفِدْية وطلب المغفرة لشعب إسرائيل، ونزع الذنب الذي يتعلَّق بسفك دم بريء على الأرض.

أما البُعد اللاهوتي لهذا الإجراء الطقسي من أجل جريمة قتل لم يُعرَف فاعلها، فهو أنَّ الأرض بما عليها هي مِلْكٌ للرب: «للرب الأرض ومِلْؤها» (مز 24: 1)، أما الشعب الساكن فيها فهُم نُزلاء عنده؛ كما جاء في قول الرب لبني إسرائيل: «والأرض لا تُباع بتَّةً. لأن لي الأرض، وأنتم غرباء ونُزلاء عندي» (لا 25: 23). وخطاياهم ليس فقط تُحزن قلب الرب، ولكنها أيضاً تُدنِّس الأرض، وبالأخص جريمة القتل، كما جاء في سفر العدد: «لا تُدنِّسوا الأرض التي أنتم فيها، لأن الدم يُدنِّس الأرض، وعـن الأرض لا يُكفَّر لأجل الدم الذي سُفك فيها إلاَّ بــدم سافكه. ولا تُنجِّسوا الأرض التي أنتم مُقيمون فيها التي أنا ساكنٌ في وسطها. إني أنا الرب ساكنٌ في وسط بني إسرائيل» (عد 35: 34،33).

فسَفْك الدم البريء جريمةٌ بشعة منذ بدء الخليقة. فحينما قتل قايين أخاه هابيل، وقَبـِلَت الأرض دم هابيل، قال الرب لقايين: «صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض. فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملتَ الأرض لا تعود تُعطيك قوَّتها. تائهاً وهاربـاً تكون في الأرض» (تك 4: 10-12). ويتضح من ذلك كيف أنَّ جريمة القتل تُدنِّس الأرض وتجلب اللعنة على فـاعلها. كما أنَّ قانونها الروحي منذ بدء التشريع الإلهي، بعد الطوفان، هـو أنَّ: «سافـك دم الإنسان بـالإنسان يُسفَك دمه، لأن الله على صورتـه عَمِلَ الإنسان» (تك 9: 6).

من أجل ذلك، فإنَّ الرب يحفظ سِفر تذكرة من أجل كل دم بريء يُسفك على الأرض من دم الناس بواسطة البشر أو الحيوانات، لذلك يقول: «وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط. من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه» (تك 9: 5)، فسوف يأتي يوم الحساب لأجل كل دم بريء سُفك على الأرض، لذلك يقول الرب أيضاً في موضع آخر: «لأنه مُطالِبٌ بالدماء، ذكَرَهم، لم ينسَ صراخ المساكين» (مز 9: 12). وعندما يأتي الرب ليُجازي الأرض، ستكشف الأرض دماء قتلاها الأبرياء: «لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقِب إثم سكان الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها ولا تُغطِّي قتلاها في ما بعد» (إش 26: 21).

أما عن الإجراءات الطقسية في ناموس موسى، في حالة جريمة قتل لا يُعرف فاعلها، التي تُشرح في هذه الفقرة من هذا الأصحاح، فقد كان شيوخ القرية الأقرب لموقع الجريمة هم الذين يتحملون مسئولية التكفير عن هذه الجريمة، وذلك بأن يأخذوا عِجْلة من البقر لم يوضع عليها نير، كرمزٍ لاعتبارها مُكرَّسة لهذا الغرض الذي ستُستخدم فيه. ثم تؤخذ إلى موضع خارج القرية ذي مواصفاتٍ خاصة، إلى وادٍ ماؤه جارٍ، ولكنه لم يُحرث ولم يُزرع من قبل، ولعل ذلك يُشير أيضاً إلى كَوْنه موضعاً بـِكْراً لم يسبق استخدامه في شيء مثلما هو الأمر في حالة العِجْلة. وهناك يكسرون عُنُق العِجْلة في الوادي، ويسفكون دمها.

ومن الواضح هنا أن قتل العِجْلة ليس بالطريقة التي كانت تُتَّبَع في ذَبْح الذبائح الطقسية، ويُعتَبَر هذا الأمر استنكاراً لجريمة القتل التي لم يُعرف فاعلها، وإعلاناً لاستحقاق القاتل للموت، وأنَّ هذه البقرة قد قُتِلَت لتكون نفسها بدلاً عن نفس القتيل، ويُحسَب موتها تكفيراً عن شعب المدينة الأقرب لموقع القتل.

وكان لابد من حضور الكهنة بني لاوي، الذين اختارهم الرب ليخدموه، وليُباركوا الشعب باسم الرب، والذين بحسب كلمتهم يكون الحُكْم في كل خصومة بين أفراد الشعب، وكل ضربة أو اعتداء يقع من شخص على آخر.

وبعد سَفْك دم العِجْلة، يغسل شيوخ المدينة أيديهم على العِجْلة، إشارة إلى أنهم أبرياء من دم ذلك القتيل، إذ يصرخون قائلين: «أيدينا لم تسفك هذا الدم، وأعيننا لم تبصر»، أي أنهم لم يبصروا القاتل ولا يعرفون شخصه. ثم يطلبون المغفرة لشعب إسرائيل جميعه لكي لا يجعل الرب عليهم مسئولية دم إنسان بريء قُتِلَ بينهم.

أما قولهم: «اغفر لشعبك إسرائيل»، فهو إشارة إلى ما فعله الله قبلاً لهم عندما فداهم بدم الخروف في خروجهم من أرض مصر وخلاصهم من عبودية فرعون، وإلى ما سيفعله لكل العالم عندما فدانا بدم الحَمَل الذي بلا عيب، دم المسيح، الذي هكذا أحب العالم كله فبذل ابنه من أجل خلاص العالم. وهذا يُذكِّرنا بالمزمور القائل: «ليرْجُ إسرائيلُ الربَّ، لأن عند الرب الرحمة وعنده فدًى كثير، وهو يفدي إسرائيل من كل آثامه» (مز 130: 8،7)، وكما تنبَّأ إرميا النبي قائلاً: «وأُطهِّرهم من كل إثمهم الذي أخطأوا به، وأغفر كل ذنوبهم التي أخطأوا بها إليَّ والتي عَصَوْا بها عليَّ» (إر 33: 8). وهذا لم يتم طبعاً إلاَّ بصليب المسيح.

وكان الكهنة في الغالب يُلقِّنون الشيوخ هذه الطِّلْبة ويُردِّدونها معهم. فيستجيب الرب لصلاتهم، وينـزع خطية سَفْك الدم البريء من وسطهم. ولكن هذا الإجراء الطقسي ليس كافياً وحده، بل يلزم أن يعملوا الصالح في عيني الرب، ويسلكوا في طاعته كل حياتهم، لذلك تُختتم هذه الفقرة بقوله: «فتنـزع الدم البريء من وسطك إذا عَمِلتَ الصالح في عيني الرب» (21: 9).

(يتبع)

*************************************************************************

صدر حديثاً للأب متى المسكين

هجرة المسيحي إلى الله

نص عظات على أناجيل قدَّاسات

أيام الصوم الأربعيني المقدَّس عام 1981

192 صفحة الثمن 8 جنيهات

يُطلب من:

دار مجلة مرقس

القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614

الإسكندرية: 8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740

أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:

www.stmacariusmonastery.org

**********************************************************************

(1) Clement of Alexandria, Stromaties 2.18.95.1-3 (FC 85; 280-2).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis