دراسة الكتاب المقدس |
|
|
(تابع)
الأصحاح التاسع
قبول الله لشفاعة موسى من أجل الشعب ومن أجل هارون:
ما زلنا أمام ذكريات موسى المؤلمة عن هذا الموقف الذي وُجد فيه في حضرة الله على جبل حوريب لاستلام لوحي العهد الذي قطعه الرب مع شعبه، وبعد أن صام موسى أربعين نهاراً وأربعين ليلة وهو في عمق الشركة مع الله الذي ابتلع كل كيانه، واختبر خلالها كيف يمكن للإنسان أن يحيا بكل كلمة تخرج من فم الله وينسى كل ما يختص بحاجة الجسد من خبز وماء، وفجأة يقول له الرب: «قُم انزل عاجلاً من هنا لأنه قد فسد شعبك الذي أخرجتَه من مصر، زاغوا سريعاً عن الطريق التي أوصيتهم، صنعوا لأنفسهم تمثالاً مسبوكاً». ثم أضاف الرب: «رأيتُ هذا الشعب وإذا هو شعبٌ صُلْب الرقبة. اترُكني فأُبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء، وأجعلك شعباً أعظم وأكثر منهم».
أما موسى، فعند سماعه لهذا التهديد، هاله أن يَحمَى غضب الله على شعبه ليفنيهم، بل هاله بالأكثر أن يتبرَّأ الله من انتسابهم إليه، فيقول لموسى: «قد فسد شعبك الذي أخرجته من مصر»، وإذ كان الرب يتوقَّع توسُّط موسى في التشفُّع من أجل الشعب، لأنه كان يعرف قلب خادمه، الذي من أجل قلبه الممتلئ رحمة كان اختياره له، لذلك قال له الرب: «اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء، وأجعلك شعباً أعظم وأكثر منهم». ولكن ألعل موسى أكثر شفقة وحنوّاً من الله ”الرؤوف الرحيم“؟! فالله في حمو غضبه لن يتخلى عن كونه ”محبة“، فلا يمكن أن يتعارض غضبه مع محبته ورحمته. وكأن الله بقوله لموسى: ”اتركني“، يستحثه على التشفُّع لأجلهم.
لذلك لم يلتفت موسى لقول الرب له: «وأجعلك شعباً أعظم وأكثر منهم»، لأنه لم يطلب قط ما لنفسه، بل أخذ يتضرَّع أمام الرب إلهه لأجلهم، ثم نزل عاجلاً من الجبل وقلبه يغلي من الغيظ، دون أن يُفكِّر في شيء إلاَّ في مصير ذلك الشعب الذي أخرجه الرب من أرض مصر بآيات عظيمة:
+ «فانصرفتُ ونزلتُ من الجبل، والجبل يشتعل بالنار، ولوحا العهد في يديَّ. فنظرتُ وإذا أنتم قد أخطأتم إلى الرب إلهكم، وصنعتم لأنفسكم عجلاً مسبوكاً وزغتم سريعاً عن الطريق التي أوصاكم بها الرب. فأخذتُ اللوحين وطرحتهما من يديَّ وكسَّرتهما أمام أعينكم. ثم سقطتُ أمام الرب كالأول أربعين نهاراً وأربعين ليلةً لا آكل خبزاً ولا أشرب ماءً من أجل كل خطاياكم التي أخطأتم بها بعملكم الشرَّ أمام الرب لإغاظته. لأني فَزِعتُ من الغضب والغيظ الذي سخطه الرب عليكم ليُبيدكم. فسَمِعَ لي الربُّ تلك المرة أيضاً. وعلى هارون غَضِبَ الربُّ جداً ليُبيده. فصلَّيتُ أيضاً من أجل هارون في ذلك الوقت. وأما خطيتكم، العجل الذي صنعتموه، فأخذتُه وأحرقتُه بالنار، ورضضتُه وطحنتُه جيداً حتى نَعُمَ كالغبار، ثم طرحتُ غُباره في النهر المنحدر من الجبل» (9: 15-21).
نزل موسى مباشرة من مجد حضرة الله البهية ليتواجه مع خطية الشعب وسقطته الشنيعة. فصناعتهم لعجل مسبوك ليعبدوه بدلاً من الله، هو كَسْرٌ صارخ للوصيتين الأولى والثانية من الوصايا العشر. وما عمله موسى بطرحه لوحَي العهد من يديه وكسرهما، لم يكن مجرد رد فعل غاضب لخطيتهم البشعة، ولكنه كان أيضاً تعبيراً عن كونهم بخطيتهم هذه قد كسروا العهد الذي كان الله قد قطعه معهم لتوِّه، حينذاك. وبمجرد أن حطَّم موسى اللوحين، إشارة إلى انفصام العهد المبرم بين الله وشعبه إسرائيل، بدأ موسى مباشرة في التوسُّط والشفاعة. وهكذا سقط على وجهه أمام الرب صائماً مرة أخرى، أربعين نهاراً وأربعين ليلةً. ولم يكن صومه في هذه المرة لاستلام لوحَي العهد، بل للتذلُّل أمام الله من أجل قبول توبة الشعب والصفح عنه، ولتجديد العهد الذي كسروه ولاستلام لوحين جديدين رمزاً لعهدٍ جديد. وفي هذا تقول رسالة برنابا:
[يقول الكتاب: إن موسى كان صائماً على الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلةً، وقَبـِلَ العهد من الرب: لوحان من الحجر مكتوبان بإصبع يد الرب؛ ولكن بارتداد الشعب إلى الأصنام، فقدوا العهد. لأن الرب تكلَّم مع موسى حينذاك: ”موسى، انزل سريعاً لأن الشعب الذي أصعدته من أرض مصر قد أخطأوا“. وفَهِمَ موسى معنى كلام الله، وطرح اللوحين من يديه، وانكسر عهدهم، لكي يُختَم على قلوبنا عهد يسوع المحبوب بالرجاء المنسكب من إيماننا به](1).
ويُعلِّق على ذلك أيضاً القديس كيرلس الأورشليمي، في إحدى عظاته للموعوظين المُقبلين إلى المعمودية، قائلاً:
[حتى خطية الشعب كله لم تُبطِل رحمة الله. فالشعب صنعوا عجلاً، ولكن الله لم يترك لطف محبته، البشر أنكروا الله، ولكن الله لم ينكر نفسه: «هذه آلهتك يا إسرائيل»، هكذا قالوا، ومع ذلك فإله إسرائيل، كعادته، صار مخلِّصهم. ولم يكن الشعب وحده هو الذي أخطأ، ولكن هارون أيضاً، رئيس الكهنة، لأن موسى قال: «وعلى هارون غضب الرب جداً ليُبيده. فصلَّيتُ من أجل هارون». فسامحه الله. والآن، إن كان موسى بتقديمه التوسُّلات من أجل رئيس الكهنة الذي أخطأ، قد تغلَّب على الرب بلجاجته، أفلا يغلب يسوع الابن الوحيد بشفاعته عند الآب من أجلنا؟ فإذا كان الله لم يمنع هارون، بسبب سقطته، من قيامه في منصب رئاسة الكهنوت، فهل يمكن أن يمنعكم أنتم المقبلين إليه من الوثنية من أن تحظوا بالخلاص؟](2)
أما موسى، فلم يقف غضبه عند حدِّ تحطيم لوحَي العهد اللذين تسلَّمهما من يدي الله شهادة على الشعب بكسره للعهد المبرم بينهم وبين الله، بل إنه أضاف قائلاً: «وأما خطيتكم، العجل الذي صنعتموه، فأخذته وأحرقته بالنار، ورضضته وطحنته جداً حتى نعم كالغبار. ثم طرحت غباره في النهر المنحدر من الجبل».
ويُلاحظ هنا أنه قد اعتبر العجل تجسيداً لخطيتهم التي عمل على حرقها وسحقها وإبادتها، ثم طرحها في النهر المنحدر من الجبل. أما هذا النهر فهو الماء الذي تفجَّر من الصخرة التي ضربها موسى بالعصا في حوريب، التي هي رمز للمسيح الذي طُعِن في جنبه على الصليب، فخرج منه دم وماء. وهذا النهر أيضاً هو رمز لماء المعمودية التي فيها اغتسلنا من خطايانا: «لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تي 3: 5).
وقد جاء في سفر الخروج أيضاً أن موسى بعد أن أحرق العجل وطحنه حتى صار ناعماً وذرَّاه على وجه الماء، سقى منه بني إسرائيل (انظر خر 32: 20). ويُذكِّرنا هذا التصرُّف بشريعة الغيرة التي أعطاها الله لموسى في حالة خيانة امرأة لرجلها (انظر عد 5: 15-28). فبما أن الشعب قد زنوا من وراء إلههم وخانوه وعبدوا آلهة أخرى غير الرب إلههم، وكسروا وصية الله القائلة لهم صراحةً: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً... لأني أنا الرب إلهك إله غيور» (خر 20: 3-6)؛ فالله في غيرته دان خيانتهم له وارتدادهم عنه، فوجبت عليهم شريعة الغيرة.
ويُعلِّق على ذلك القديس أوغسطينوس قائلاً:
[يا للغضب النبوي، والعقل المستنير غير المشوَّش! فماذا فعل (موسى)؟ طرح العجل في النار لكي ينطمس أولاً الشكل نفسه، وأخذ منه قطعةً قطعةً وطحنه ناعماً لكي يمكن التهامه قليلاً قليلاً. فقد ذرَّاه على وجه الماء وأعطى الشعب لكي يشربوا! وما هذا إلاَّ دليلاً على أن عَبَدَة الشيطان قد صاروا جسده؟ كما أن الذين يعترفون بالمسيح يصيرون جسد المسيح...](3).
أمثلة أخرى لعصيان بني إسرائيل المتكرر:
+ «وفي تبعيرة ومسَّة وقَبْروت هتَّأَوَة أسخطتم الرب.وحين أرسلكم الرب من قادش برنيع قائلاً: اصعدوا امتلكوا الأرض التي أعطيتكم عصيتم قول الرب إلهكم ولم تُصدِّقوه ولم تسمعوا لقوله. قد كنتم تَعْصُون الرب منذ يوم عرفتكم» (9: 22-24).
ساق لهم موسى أمثلةً أخرى لعصيانهم المتكرر. فبعد أن ذكَّرهم بعصيانهم الأول والأكبر في حوريب، عاد يُذكِّرهم بتمرُّدهم على الرب في تبعيرة ومسَّة وقبروت هتَّأوة، لكي يؤكد لهم على هذه الحقيقة التي يجب ألاَّ تغيب أبداً عن أذهانهم، وهي أن هبة الأرض الجيدة التي كانوا مزمعين أن يدخلوا إليها، لا يمكن أن تكون بسبب برِّهم أو مكافأةً لطاعتهم وخضوعهم لله. ففي تبعيرة تذمروا على الرب باطلاً، ناسين كل إحساناته عليهم، وأخذوا يشتكون سرّاً من تدابير الله معهم. وإن كان الكتاب لم يُفصِح عن سرِّ شكواهم صراحةً، إلاَّ أنه يتضح أن الأمر لم يتعدَّ تمرمرهم وشكواهم بين بعضهم البعض، فسمع الرب شكواهم «فحَمِيَ غضبه»، لأنه رأى في تصرُّفهم هذا نُكراناً لفضله عليهم ورعايته الخاصة لهم وعنايته الفائقة بهم. وكان غضب الرب شديداً على تذمُّرهم الذي بلا سبب، «فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المحلة، فصرخ الشعب إلى موسى، فصلَّى موسى إلى الرب، فخمدت النار» (عد 11: 2،1). ودُعِيَ ذلك المكان ”تبعيرة“ أي ”احتراقاً“.
أما في مسَّة التي تعني ”تجربة“، أو ”مريبة“ أي ”مخاصمة“، فقد حدثت قبل حادثة ”تبعيرة“، وذُكرت في (سفر الخروج 17: 1-7) في رفيديم: «وعطش هناك الشعب إلى الماء. وتذمَّر الشعب على موسى وقالوا: لماذا أصعدتنا من مصر لتُميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟! فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني». فقد ارتفع تذمُّر الشعب على موسى والرب، وتهديدهم له إلى درجة عزمهم على رجمه بالحجارة وتساؤلهم متشكِّكين: «أفي وسطنا الرب أم لا؟» (خر 17: 7)
وقد تركت فداحة هذه الخصومة أثراً لا يُمحَى في ذاكرة تاريخ هذه الأمة على مر الدهور، حتى أنه تكرر ذِكر هذه الحادثة في الأسفار المقدسة مرات عديدة. ورغم أن الرب لم يُعاقبهم على تذمُّرهم في تلك المرة، لأنه لم يكن قد قطع معهم عهده بعد في سيناء، إلاَّ أن موسى لم يفتأ أن يُذكِّرهم بين الحين والآخر مُحذِّراً ومُنذراً من خطورة التذمُّر وتجربة الرب.
أما في قبروت هتَّأوة التي معناها ”قبور الشهوة“، فقد حدثت مباشرة بعد حادثة تبعيرة، حينما اشتهى الشعب أكل اللحم في البرية وأخذوا يبكون في أُذني الرب قائلين: مَن يُطعمنا لحماً. إنه كان لنا خير في مصر! فحَمِيَ غضب الرب عليهم، لأنهم نسوا سريعاً كل خيرات الرب وأعماله معهم، وطلبوا أن يُشبعوا شهواتهم بأكل اللحم، فأعطاهم السلوى ليأكلوا منها شهراً من الزمان حتى تخرج من مناخرهم: «وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم قبل أن ينقطع، حَمِيَ غضب الرب على الشعب، وضرب الرب الشعب ضربةً عظيمة جداً. فدُعِيَ اسم ذلك الموضع قبروت هتَّأوة، لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا» (عد 11: 30-34).
أما المثل الرابع الذي ساقه موسى لهم دليلاً على عصيانهم المتكرر، فكان ما حدث منهم منذ ثمانية وثلاثين عاماً، عندما كانوا في قادش برنيع التي تقع على حدود برية فاران بالقرب من جبل الأموريين الذي أعطاهم الرب إلههم ليمتلكوه. فقد أمرهم الرب أن يصعدوا ليمتلكوا الأرض التي وعدهم بأن يُعطيها لهم. ولكنهم طلبوا من موسى أن يُرسلوا قدَّامهم رجالاً ليتجسسوا الأرض ويردُّوا إليهم خبراً عن الطريق التي يصعدون فيها والمدن التي يأتون إليها. فحسن الكلام في عيني موسى، لأنه صحيح حسب المنطق البشري.
ولكن بعد عودة الجواسيس انقسموا في رأيهم، فاثنان منهم أشادوا بما رأوه من خصبها ووفرة خيراتها، أما العشرة الباقون فأشاعوا المذمَّة في الأرض وقالوا عنها: «هي أرض تأكل سكانها... وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق مـن الجبابرة، فكُنَّا في أعيننا كالجراد، وهكذا كُنَّا في أعينهم» (عـد 13: 33).
وهكذا بكى كل الشعب ورفضوا الصعود لامتلاك الأرض وعصوا أمر الله ولم يُصدِّقوه ولم يسمعوا لقوله. ونتج عن ذلك أنْ غضب الرب عليهم وحرم ذلك الجيل الذي تذمر عليه من دخول أرض الموعد.
لقد كان لكل هذه الوقائع المؤلمة أثرها العميق في نفسية موسى النبي الذي اكتوى معهم بنتائجها، وظل معهم في البرية تائهاً أربعين سنة، لذلك ذكرها قبل ذلك في حديثه الأول في نفس هذا السفر في بداية سرده لأحداث البرية بعد ارتحالهم من حوريب وسلوكهم كل ذلك القفر العظيم المخوف حتى وصولهم إلى قادش برنيع (تث 1: 19-40).
وها هو مرة أخرى يُعيد على مسامعهم بكل أسى تلك الذكريات المؤسفة، لكي يُبيِّن لهم مدى عنادهم وصلابة رقابهم، ويؤكِّد على عِظَم مراحم الرب وطول أناته عليهم، وأنه ليس لأجل برِّهم وعدالة قلبهم يُدخلهم ليمتلكوا الأرض.
صوم موسى أربعين يوماً أخرى، وصلاته الشفاعية لأجل الشعب:
+ «فسقطتُ أمام الرب الأربعين نهاراً والأربعين ليلةً التي سقطتها، لأن الرب قال إنه يُهلككم. وصلَّيتُ للرب وقلتُ: يا سيد الربُّ لا تُهلِك شعبك وميراثك الذي فديته بعظمتك الذي أخرجته من مصر بيد شديدة. اذكر عبيدك إبراهيم وإسحق ويعقوب. لا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيَّته. لئلا تقول الأرض التي أخرجتَنا منها لأجل أن الرب لم يقدر أن يُدخِلهم الأرض التي كلَّمهم عنها، ولأجل أنه أبغضهم، أخرجهم لكي يُميتهم في البرية. وهم شعبك وميراثك الذي أخرجتَه بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة» (9: 25-29).
نلاحظ هنا أن موسى أعاد ذِكر صومه أربعين نهاراً وأربعين ليلة التي صامها ثانية بعد كسره للَّوحين (في الآية 18). فقد كان صومه في هذه المرة بتذلُّل شديد وانسحاق، من أجل الخطية العظيمة التي أخطأ بها الشعب أمام الله وكسر العهد الذي أقامه الرب معه؛ لذلك فهو يُعبِّر عن ذلك بقوله: «فسقطتُ أمام الرب الأربعين نهاراً والأربعين ليلةً التي سقطتها لأن الرب قال إنه يُهلككم»، فقد كان مرتعداً من تهديد الرب.
لقد كان صومه الأول من أجل استلامه لوحَي العهد المكتوبين بأصبع الله، فكان منحصراً بالروح في حضرة الله، متغذِّياً على كلمة الله، منجذباً بشدة بكل كيانه في شركة عميقة مع الله.
أما صومه الثاني، فقد كان مصحوباً بحزن ومرارة وتذلُّل شديد متوسِّلاً إلى السيد الرب، معتمداً على دالته القوية معه وثقته الكاملة في قدرته وعفوه، مُقدِّماً تشفُّعاته محدَّدة في هذه النقاط:
1. «لا تُهلك شعبك وميراثك»: فهو يُذكِّر الرب بأن إسرائيل هو شعبه وميراثه الذي اقتناه لنفسه، فكيف يمكن أن يُهلكه أو يتخلَّى عنه؟
2. «اذكُر عبيدك إبراهيم وإسحق ويعقوب»: وهو يتوسل إلى الرب مُذكِّراً إياه بوعده الصادق مع إبراهيم حبيبه وإسحق عبده وإسرائيل قديسه، فليس لأجل برِّ الشعب يُدخِله الرب ليرث أرض الميعاد، بل «لكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب» (9: 5). لذلك يُطالب موسى الرب قائلاً: «لا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيته».
3. «لئلا تقول الأرض التي أخرجتَنا منها لأجل أن الرب لم يقدر أن يُدخِلهم الأرض التي كلَّمهم عنها، ولأجل أنه أبغضهم، أخرجهم لكي يُميتهم في البرية»: حتى لا يشمت بنا أعداؤنا ولا يقولوا إن الرب قد عجز عن أن يُخلِّص شعبه.
4. «وهم شعبك وميراثك الذي أخرجتَه بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة»: هنا يعود موسى ويُكرر ما قاله أولاً إنهم شعبه وميراثه الذين فداهم بقوته وخلَّصهم من أرض العبودية.
(يتبع)
(1) ANF, Vol. I, The Epistle of Barnabas, Chap. IV.
(2) The Fathers of the Church, Vol. 61, Catechesis, II, 10.
(3) NPNF, 1st series, Vol. VIII, On the Psalms, Ps. LXXIV.