دراسة كتابية |
|
|
يظل الحديث عن العلاقة بين الإيمان والأعمال ودور كل منهما في التبرير والخلاص عموماً موضع الجدل، بل ويبلغ الأمر تصنيف الرسولَين بولس ويعقوب ووضعهما في معسكرين متقابلين: فالأول هو رسول ”الإيمان“، والثاني هو رسول ”الأعمال“!
ومن جهة المبدأ، فالكتاب هو كلمة الله، و«كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب، الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهِّباً لكل عمل صالح» (2تي 3: 17،16). وما دام مصدر الكلمة والموحى بها واحداً، فلا يمكن أن تتناقض آيات الكتاب بأي حال إلاَّ لو انتُزعت قسراً من سياقها، ولكنها تتكامل، وفي تكاملها يُستعلَن الحق الإلهي.
الكتاب كلٌّ لا يتجزَّأ، والمسيح لا ينقسم (1كو 1: 13)، وشريعته واحدة، وخدمة كل رسول تُكمل خدمة الآخر. واليهود والأُمم بالإيمان الواحد صاروا واحداً في المسيح يسوع. الفصل بين الإيمان والأعمال، أي جعل الإيمان مقابل الأعمال، فيه تعسُّف، فلا يقف أحدهما دون الآخر، كما لا ينفصل الروح عن الجسد في الإنسان الحي (يع 2: 26)؛ فارتباط الإيمان بالأعمال - والعكس - حتمي، وبانفصالهما يموت كلاهما. الإيمان الحقيقي هو الإيمان العامل (غل 5: 6)، والأعمال الحقيقية هي أعمال الإيمان (1تس 1: 3).
ولا يُعقل أن يُنادي كارزٌ بإيمان سطحي كلامي، مجرد من الفاعلية مقطوع الصلة بوصايا الكتاب، ولا يُترجَم إلى أفعال واتجاهات تشهد بانتقال الحياة من الظلمة إلى النور؛ أو يُنادي كارزٌ بأعمال شكلية وعبادات شفوية هي ليست ثماراً طبيعية لإيمان مسيحي حيّ، وشركة عضوية في شخص المسيح والكنيسة التي هي جسده.
ولا ننسى أن العبادات ليست قاصرة على كنيسة المسيح. فكل الديانات - حتى عبادة الشيطان والنار - لها صلواتها وطقوسها. وهناك جماعات تذلِّل الجسد بالتقشُّف الشديد بل وبالسير على الجمر، ولكن لأن هذه كلها ليست من الإيمان بالمسيح «الذي ليس بأحد غيره الخلاص»، فأصحابها يستوفون أجرهم هنا على الأرض سواء من رضا الذات أو تقدير الآخرين.
ولكي نعرض لدور كل من الإيمان والأعمال في قضية الخلاص على ضوء كلمة الله، ربما يكون من المفيد أن نحدد في البداية المعنى الدقيق لكل من الإيمان، والأعمال، والنعمة، والخلاص، وبعدها ننطلق لدراسة ما كتبه كل من القديسَيْن بولس ويعقوب في هذا الصدد، والذي يرى فيه البعض تناقضاً. وسنتيقن في ختام الأمر أن الرسولَيْن بولس ويعقوب إنما هما يخدمان إنجيلاً واحداً وإيماناً واحداً، وإنهما جنديان مخلصان في كتيبة المسيح، يُعلِّمان نفس التعليم الذي أخذاه عن معلِّمهما وسيط العهد الجديد والمخلِّص الوحيد. فالهدف واحد، وإن اختلفت الوسائل والكلمات باختلاف الظروف والمخدومين.
وسوف يتاح لنا أن نرى أن الجدل حول الإيمان والأعمال يحجب أمام البعض حقيقة عظمى، وهي أن الخلاص بكل روافده: التبرير والتقديس والتمجيد، لم ننلْه في المقام الأول بالإيمان أو بالأعمال، وإنما أساساً بدم المسيح المُحب كنعمة مجانية (أف 2: 8)، أو هبة إلهية (رو 6: 23؛ أف 4: 7) بغير أدنى فضل أو استحقاق، وأن الإيمان هو مجرد الوسيلة التي بها قَبلنا الخلاص ونلناه.
وفي الكتاب المقدس تُستعمل كلمة ”الإيمان“ بمعناها الاصطلاحي أي المتعلِّق مباشرة بالله (مر 11: 22؛ يو 14: 1)، والنموذج هو إيمان إبراهيم (تك 15: 6) الذي صار أباً للجميع (رو 4: 16-18)، يهوداً وأُمماً، في المسيح يسوع (رو 4: 25،24؛ غل 3: 16).
وفي أصحاح الإيمان الشهير (عب 11) يكتب القديس بولس محدِّداً المعنى المجرد للإيمان أنه «الثقة بما يُرجَى، والإيقان بأمور لا تُرَى» (عب 11: 1)، ثم يُطبِّقه فيما يتعلَّق بالإيمان بالله سارداً قائمة بأسماء آباء الإيمان من هابيل وأخنوخ ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى إلى داود وسائر الأنبياء الذين ماتوا على رجاء الوطن الأفضل (عب 11: 16) بمجيء وسيط العهد الجديد يسوع (عب 12: 24)، مُشدِّداً أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله (عب 11: 6).
والإيمان، في العهد الجديد، يقصد به تحديداً الإيمان بشخص يسوع المسيح (يو 6: 29؛ 14: 1؛ أع 20: 21) والاعتراف به ربّاً (1كو 12: 3) ومخلِّصاً (أع 4: 12)، حيث المسيح هو «رئيس الإيمان ومُكمِّله» (عب 12: 2) الذي مَن يؤمن به ينال الحياة الأبدية (يو 3: 36،16)؛ وأيضاً الإيمان بالإنجيل (مر 1: 15)؛ وهو عطية الله (أف 2: 8؛ في 1: 29) والروح القدس (1كو 12: 9).
ولكي يكشف القديس بولس عن أن كلمة ”الإيمان“ وحدها تعني توجُّهاً حقيقياً فاعلاً يقود إلى تغيير الحياة كلها (وليس مجرد اعتراف بالشفاه)، ذكرها في رسالته إلى غلاطية هكذا: «الإيمان العامل بالمحبة» (غل 5: 6).
فبالإيمان الحقيقي نوهَب الخلاص (مر 16: 16؛ أع 16: 31)، وفيه نقاوم إبليس (1بط 5: 9)، ونغلب العالم (1يو 5: 5،4)، وننال السلام (رو 15: 13)، والفرح (1بط 1: 8)، ونعبر الآلام والضيقات (في 1: 29).
2 - الأعمال:
كأعمال الرسل في الكرازة Acts، والأعمال التي يفترض أن يقوم بها المؤمنون Works، وضمنها أعمال الناموس (رو 3: 2؛ غل 2: 16؛ 3: 2) أي التي تضمَّنها ناموس موسى. وهذه إما كانت رموزاً أُبطلت في المسيح (مثل: الختان والفصح وسائر الذبائح)، أو أُكملت بالمسيح مثل: التطهيرات والأمور المتصلة بالنجاسة وما تعلَّق بالسبت والكفُّ فيه عن كل عمل حتى أعمال الخير، فالذي يُنجِّس الإنسان صار هو ما يخرج من الفم لا ما يدخله (مت 15: 11)، وفعل الخير في السبوت كسائر الأيام صار واجباً (مت 12: 12).
[ وقد أعفى مجمع أورشليم (أع 15) الأمم الراجعين إلى المسيح من الالتزام بالختان وحفظ الناموس بعد أن اعتبر البعض الختان شرطاً للخلاص بالنسبة للجميع].
أما فيما يتعلق بالوصايا الروحية في العهد القديم (لا تقتل - لا تزن - عين بعين وسن بسن)؛ فالرب أكملها ووسَّع مداها «ما جئت لأنقض بل لأُكمِّل» (مت 5: 17)، «قيل للقدماء... أما أنا فأقول لكم...» (مت 5: 21-48)، مُحذِّراً من الرياء في العبادة وتقديمها لله لا للناس.
والرب أكَّد على عمل الآب وعمله هو: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» (يو 5: 17)، وأنه يعمل ”أعمال أبيه“ (يو 10: 27)، أي إعلان هيمنة الله على الوجود وفيض محبته.
وهناك أعمال البر والفضائل والمحبة «التي تليق بالتوبة» (مت 3: 8؛ أع 26: 20). والرب اعتبر أعمال المسيحي إعلاناً عن نور الله فيه وأوصانا: «فليُضِئ نوركم قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويُمجِّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16)، وهي ثمار الروح (غل 5: 23،22)، ودليل الإيمان والحياة الجديدة (غل 5: 6؛ يع 2: 18)، وهي التي ستشهد لنا في اليوم الأخير (مت 25: 34-36؛ رؤ 14: 13). وهذه كلها إن انفصلت عن أن تكون باسم المسيح والإيمان به تصير لحساب الذات، وبالتالي تتحوَّل إلى أعمال فقدت كل قيمتها.
كما أن هناك بالمقابل «أعمال الجسد» (رو 8: 13؛ غل 5: 19)، أو «أعمال الظلمة» (رو 13: 12؛ أف 5: 11)، أي الأعمال الشريرة (يو 3: 19) النابعة من «أعمال الناموس» (1يو 3: 8).
3 - النعمة:
المعنى الخاص للنعمة في العهد الجديد أنها تعبير عن عطاء الله الغني والثمين الذي يفيض الله به من خلال محبته على كل خليقته، نباتاً وحيواناً وبشراً: «لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أع 17: 28).
وأعظم النِّعَم قاطبة هي نعمة الخلاص (أف 2: 8؛ تي 2: 11؛ 3: 7)، ورغم أنها ثمينة بهذا المقدار إلاَّ أنها مجانية كسائر النعم (مت 10: 8؛ رو 3: 24؛ رؤ 21: 6؛ 22: 17)، فلا أحد يستحق كما أن أحداً لا يقدر أن يُقدِّم شيئاً مقابلها غير أن يؤمن. وهبات الروح والأسرار ونور الكلمة خلال مسيرة الحياة وامتدادها إلى الحياة الأبدية، هي جوانب من فيض نعمة الله التي لا تُستَقصى.
وفي الكتاب، فإن عرش الله هو عرش النعمة (عب 4: 16)، أي أنه من الله تنحدر كل النعم؛ وإذا كان الكتاب يصف الله بأنه محبة (1يو 4: 16،8)، بمعنى أنه تتجسد فيه المحبة الكلِّية، فكذلك يمكن القول إن ”الله فرح“ (أي فيه كل الفرح)، و”الله سلام“ (أي فيه كل السلام)، و”الله نعمة“ (أي فيه كل النِّعَم).
وتُنسب النعمة للابن: «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 17)، كما تُنسب للآب والابن: «نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح» (رو 1: 7؛ 1كو 1: 3...، وباقي رسائل القديس بولس). والروح القدس هو ”روح النعمة“ (عب 10: 29) الذي يُعِدُّ القلوب للإيمان: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربٌّ إلاَّ بالروح القدس» (1كو 12: 3)، والذي من خلاله نلنا ثمار الخلاص وحياة القداسة؛ وهو الفاعل في الأسرار، ومؤسِّس الكنائس، ومعضِّد الخدمة، وواهب الثمر المتكاثر لحساب مجد الله.
4 - الخلاص(1):
المعنى الحرفي للخلاص هو النجاة والتخلُّص من ضيقة أو ظلم أو التحرُّر من قيد أو عبودية، أو الانفلات من خطر أو تجربة أو محنة أو هلاك.
ولكن في الكتاب تأخذ كلمة الخلاص بُعداً أعمق. فالمخلِّص هو الله (خر 14: 13): «الرب نوري وخلاصي» (مز 27: 1)، «هوذا الله خلاصي» (إش 12: 2).
وقد تأتي كلمة الخلاص بالمعنى الحرفي أو المطلق خاصة في العهد القديم كخلاص شعب إسرائيل من عبودية فرعون وخروجهم من مصر (والذي يرمز بشكل ما إلى الخلاص الذي صنعه الرب)؛ كما أن دم خروف الفصح الذي سبق الخروج يرمز إلى دم ذبيحة الصليب الذي به كان الفداء الأبدي (عب 9: 12).
- أو تأتي بالمعنى العام أو الشامل دون تفصيل، اتصالاً بشخص الرب المخلِّص الوحيد: «وتدعو اسمه يسوع، لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم» (مت 1: 21)، «عيني أبصرتا خلاصك» (لو 2: 30).
- أو تأتي تعبيراً عن مراحل الخلاص الثلاث في حياة الناس:
أ - بدء الخلاص (أو التبرير)، أي الإنقاذ من الموت الأبدي والانتقال من حياة الخطية إلى الحياة الجديدة بالمعمودية وممارسة التوبة والتغيير المستمر. والنفس الخاطئة تدلف إلى هذه المرحلة بالإيمان وتسليم الحياة الخالية من كل بر إلى المخلِّص.
ب - حياة الخلاص (أو التقديس)، حيث تظهر ثمار الإيمان كالنمو في القداسة والتوبة وحفظ الوصية والأعمال الحسنة والخدمة والجهاد وقبول الألم من أجل المسيح، وهي المرحلة التي تمتد كل الحياة بمساندة النعمة: «تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة» (في 2: 12).
ج - تمام الخلاص (أو التمجيد أو الخلاص الأخير)، أي بلوغ الوطن السماوي عند مجيء الرب الثاني: «الذي يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص» (مت 10: 22؛ 24: 13)؛ «وإذ كُمِّل، صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب 5: 9)؛ «سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عب 9: 28)؛ «أنتم الذين بقوة الله محروسون، بإيمانٍ، لخلاصٍ مستعدٍّ أن يُعلَن في الزمان الأخير» (1بط 1: 5)؛ «وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: الآن صار خلاص إلهنا» (رؤ 12: 10).
(يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان
(1) راجع مقال: ”المعاني المختلفة للخلاص في الكتاب“ (مجلة مرقس، نوفمبر وديسمبر 2002). **********************************************************************
(من 7/1/1997)
على اسطوانات CD في مجموعتين:
- مجموعة (صوت وصورة)
- مجموعة (أوديو - صوت فقط)
تُطلب من:
دار مجلة مرقس
القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614
الإسكندرية: 8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740
أو من مكتبة الدير