دراسة الكتاب المقدس |
|
|
الحديث الثاني لموسى النبي
”ما يتوقَّعه الرب من إسرائيل“
يبدأ الحديث الثاني بمقدِّمة أو تمهيد يتضمن الستة أعداد الأخيرة من الأصحاح الرابع (4: 44-49)، ويُغطي هذا الحديث متطلبات العهد الأساسية، مُطبِّقاً القوانين والأحكام التي وردت في سفر الخروج، لكي تتناسب مع الوضع الجديد الذي سوف يسود على الجماعة بعد دخولهم أرض الموعد. لذلك فهو يُعطي اهتماماً خاصاً للتحريم والتحذير الشديدين من عبادة الأصنام وسائر الممارسات الوثنية، وإقامة المقدس الرئيسي، والإعداد لإنشاء مملكة إسرائيل.
فإذا كان الحديث الأول قد عالج ”ما عمله الله لشعبه إسرائيل“، فالحديث الثاني يتكلَّم عن ”ما يتوقَّعه الرب من إسرائيل“، وهو يشمل الأصحاحات من 4: 44 إلى 26: 19.
وفي الأعداد الستة الأخيرة من هذا الأصحاح الرابع تمهيدٌ للحديث الثاني، ويبدأها بقوله:
+ «وهذه هي الشريعة التي وضعها موسى أمام بني إسرائيل. هذه هي الشهادات والفرائض والأحكام التي كلَّم بها موسى بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، في عَبْر الأردن في الجواء مقابل بيت فغور في أرض سيحون ملك الأموريين الذي كان ساكناً في حشبون، الذي ضربه موسى وبنو إسرائيل عند خروجهم من مصر، وامتلكوا أرضه وأرض عوج ملك باشان مَلِكَي الأموريين اللذين في عبر الأردن نحو شروق الشمس. من عروعير التي على حافة وادي أرنون إلى جبل سيئون الذي هو حرمون، وكل العربة في عبر الأردن نحو الشروق إلى بحر العربة تحت سفوح الفسجة» (تث 4: 44-49).
وخلاصة هذه الأعداد التي مهَّدت للخطاب الثاني، أنها تُحدِّد بدقة المكان الذي نطق فيه موسى بهذا الخطاب بعد الأحداث التاريخية الهامة التي استولوا على إثرها على مملكتَي الأموريين، وكانت هذه هي بداية انتصاراتهم وأول تملُّكهم للأرض التي وعد الرب آباءهم أن يُعطيها لهم.
أما موضوع الخطاب فلخَّصه في ثلاث كلمات هي: الشهادات، والفرائض، والأحكام، التي يلزم أن يحفظها بنو إسرائيل عند دخولهم أرض الموعد لكي يحيوا ويثبتوا فيها.
أما الشهادات فقد جاءت بالعبرية ”Edah“، وتُرجمت بالإنجليزية ”Testimonies“، وباليونانية ”mart?ria“ (في الترجمة السبعينية). وهي تعني شهادة أو إقرار، أي إعلان الله عن ذاته ووجوده ومحبته لشعبه الذي خلَّصه من العبودية وطالبه بعبادته وحفظ وصاياه، لكي تكون شاهدة عليه وعلى محبته لإلهه. وفي مقدمة هذه الوصايا التي تشهد عليه، الوصايا العشر التي كتبها الرب على لوحي الشهادة ووضعها موسى في تابوت العهد، لكي تكون شاهدة عليهم.
أما الفرائض فقد جاءت بالعبرية ”Huqqim“، وتُرجمت بالإنجليزية ”Statutes“، وباليونانية ”dikaièmata“ (في الترجمة السبعينية). وهي تعني الواجبات التي فرضها الله على شعبه ليعمل بها فيما يتعلق بالعبادة وطقوسها.
أما الأحكام فقد جاءت بالعبرية ”Mishpatim“، وتُرجمت بالإنجليزية ”Judgements“، وباليونانية ”kr…mata“ (في الترجمة السبعينية). وهي تعني الأحكام والقوانين والقواعد التي سنَّها الرب لشعبه لتحكم فيما بينهم في شئون حياتهم في الأرض الجديدة التي يُعطيها لهم.
ويشمل هذا الحديث الثاني الجزء الأكبر من سفر التثنية، فهو في الحقيقة لُبُّ السِّفر. وتدور الأصحاحات السبعة الأولى منه حول الوصايا العشر وأهميتها بالنسبة لإسرائيل وحياته في أرض الموعد، من الأصحاح الخامس إلى الأصحاح الحادي عشر؛ حيث يستعرض موسى أمامهم هذه الحقائق الهامة:
1. الله الحي يتكلَّم بصوته مع شعبه بدون وسيط (5: 1-22)، ولكن الشعب استعفى من سماع صوت الله (5: 23-33).
2. توصية الشعب بتعليم أولادهم ناموس الرب ووصاياه لكي يحيوا بها (6: 1-25).
3. حضّ الشعب على غزو كنعان أرض الموعد، وتحذيرهم من أن يقطعوا عهداً مع شعوبهم أو يختلطوا بهم (7: 1-26).
4. تحذيرهم من الارتداد عن الله الحي، فليختاروا بين البركة واللعنة (8: 1-11: 32).
الأصحاح الخامس
1 - الله الحي يتكلَّم بصوته مع شعبه بدون وسيط (تث 5: 1-33):
+ «ودعا موسى جميع إسرائيل وقال لهم: اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام التي أتكلَّم بها في مسامعكم اليوم، وتعلَّموها واحترزوا لتعملوها» (تث 5: 1).
مرة أخرى يدعو موسى جميع الشعب لكي يجتمعوا إليه ليُسمعهم كلام الله، وكأنه يُعيد إلى ذاكرتهم ذلك الاجتماع الرهيب الذي اجتمعوا فيه لأول مرة في حضرة الرب في حوريب، حينما قال الرب لموسى: «اجمع لي الشعب فأُسمعهم كلامي...» (تث 4: 10).
ويُلاحظ أن هذا القول الذي يشير إلى دعوة موسى لجميع الشعب، قد تكرر على مدى سفر التثنية تسع مرات في مواضع مختلفة (1: 1؛ 5: 1؛ 23: 29؛ 29: 1؛ 31: 11،7،1؛ 32: 45؛ 34: 12)، مما يدل على حرص موسى أن يصل كلامه إلى كل فرد من الجماعة باعتبارهم أعضاء متَّحدين يربطهم معاً العهد المقدس الذي قطعه الرب معهم، لكي يكون لهم إلهاً ويكونون له أُمة مقدسة.
ويعود أيضاً ويكرر على مسامعهم ما سبق ونطق به قوله: «اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام». وهذا الفعل ”اسمع“ بالعبرية ”شمَع“، يحمل معنى ”أَطِع“، فهو يعني: اسمع لكي تطيع ما تسمعه وتتعلَّمه وتعمل به. ومع ذلك، فهو لم يكتفِ بقوله لهم: ”اسمع“، بل أكَّد لهم أهمية ما يسمعونه وضرورة أَخذه مأخذ الجدِّ والفهم والتعلُّم والحرص والعمل. فكلُّ ما نسمعه من فرائض الله وأحكامه يلزم أن نحفظه ونعمل به في طاعة كاملة مُذعنة بلا نقاش، لأن الكلام الذي يُكلِّمنا الله به هو روح وحياة (يو 6: 63). أي أن كل مَن يعمله يحيا به وينال به الحياة الأبدية: «افعل هذا فتحيا» (لو 10: 28).
هذه الفرائض والأحكام التي أراد موسى أن ينطق بها في مسامعهم قد سبق لهم أن سمعوها في حوريب، وهو هنا يُذكِّرهم بها قائلاً:
+ «الرب إلهنا قطع معنا عهداً في حوريب. ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد، بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياءٌ. وجهاً لوجه تكلَّم الرب معنا في الجبل من وسط النار. أنا كنتُ واقفاً بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أُخبركم بكلام الرب، لأنكم خِفتُم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل» (تث 5: 2-5).
أراد موسى أن يُبيِّن لهم أن هذا العهد الذي قطعه الرب معهم في حوريب كان عهداً متميِّزاً وخاصاً لهم، غير العهد الذي قطعه الرب مع آبائهم الأقدمين نوحاً وإبراهيم وإسحق ويعقوب. فهو عهد شخصي مع كل واحد منهم الذين كانوا أحياء حينذاك أمامه جميعهم. هذا العهد الذي كتب موسى جميع بنوده وقرأه في مسامعهم في ذلك اليوم، وأصعد المحرقات وقدَّم الذبائح، ورش دم العهد على الشعب «وقال: هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال»، وأقرَّ الشعب قائلين: «كل ما تكلَّم به الرب، نفعل ونسمع له» (خر 24: 3-8).
وإن كان قد نقض هذا العهد كثيرون من آبائهم الذين كانوا حاضرين حينذاك، وعوقبوا بالموت وسقطت جثثهم في البرية، إلاَّ أن أبناء ذلك الجيل الأحياء أمامه حينذاك هم المعنيُّون والمطالبون بحفظ العهد. فالله بنفسه قد كلَّمهم مواجهةً بصوته من وسط النار. وكان موسى شاهداً على ذلك، ثم وسيطاً بينهم وبين الله عندما خافوا وارتعبوا ولم يستطيعوا الاقتراب.
ثم بدأ موسى يُعيد على مسامعهم نص الوصايا العشر التي نطق بها الرب في حوريب قائلاً:
+ «أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، صورةً ما مِمَّا في السماء من فوق، وما على الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقِد ذنوب الآباء في الأبناء، وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يُبغضونني، وأصنع إحساناً إلى ألوف من مُحبِّيَّ وحافظي وصاياي...» (تث 5: 6-21).
ابتدأ موسى بنفس المقدمة التي بدأ بها الرب بصوته المُرعد على جبل سيناء، مُعلِناً لهم عن شخصه أنه هو الرب إلههم ”يهوه“ الذي أخرجهم من أرض مصر أرض العبودية، وخلَّصهم بيده القوية وذراعه الرفيعة، لأنه أحبهم لأجل آبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب أحبائه، ولأنه سُرَّ أن يكونوا له مملكة كهنة، وأُمة مقدسة، وأن يكونوا له خاصة من بين جميع الشعوب (خر 19: 6،5).
فهذه الوصايا التي أعطاها لهم، ليست هي وصايا بالمفهوم الدقيق للَّفظ. فقد قيلت في إطار العهد المُبرم بين يهوه وإسرائيل، لكي يتعرَّفوا على إلههم الذي خلَّصهم من العبودية وقادهم إلى ذلك الموضع، بعد أن برهن لهم عن حقيقة وجوده أنه هو ”يهوه: الكائن بذاته“. لذلك فقد نطق الله نفسه بهذه الوصايا بدون أية وساطة من إنسان أو ملاك مُخاطباً إيَّاهم ”وجهاً لوجه“، أي مواجهة مع كل شخص، وفي حضور الشعب بأجمعه مجتمعاً لهذا الغرض عينه ليسمع الله يُخاطبه مباشرة، مُقرِّراً له المبادئ الأساسية للحياة في علاقة شخصية معه لكي يكونوا جميعهم مرتبطين مع الله بعهده معهم.
فإقامة هذا العهد كان عملاً من أعمال النعمة من جانب الله نحو هذا الشعب لكي يصير له شعباً خاصاً. وتقبَّل الشعب الدخول في العهد، بكامل حريته، وأجاب باستعداده للطاعة بدافع عرفانه بجميل الرب وفضله السابغ على شعبه. وهكذا صار الله والشعب كله بكامل أفراده شركاء في العهد. لذلك أعاد موسى عليهم هذه الوصايا العشر باعتبارها مبادئ العهد الذي قطعه الله معهم في حوريب، وها هوذا يُجدِّده لهم في سهول موآب. وهي نفس الوصايا التي تسجَّلت في سفر الخروج (خر 20)، فيما عدا هذا التغيير الطفيف في تفسير الغرض من الوصية الرابعة المختصة بحفظ السبت التي كانت في سفر الخروج مرتبطة براحة الرب في اليوم السابع في خلقته للعالم، وأعطاها هذه المرة مغزىً جديداً يرتبط بخلاصهم من العبودية التي كانت تُلزِمهم أن يعملوا مُسخَّرين رغماً عنهم بلا راحةٍ أو التقاطٍ للأنفاس من سخرة قاسية متواصلة لا يستطيعون فيها أن يذكروا خالقهم ويعبدوه. لذلك، فقد ربط لهم حفظ السبت بالتحرُّر من العبودية بقوله لهم: «واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيدٍ شديدة وذراعٍ ممدودة، لأجل ذلك أوصاك الرب أن تحفظ يوم السبت» (تث 5: 15).
وهكذا صار حفظ السبت بالنسبة لشعب إسرائيل شاهداً على اختيار إسرائيل وتحريره من العبودية. وصار امتناعهم عن كل عمل في يوم السبت إشارة إلى اعتمادهم الكلِّي على يهوه إلههم، بل وأيضاً إلى تحرُّرهم التام من كل قوة أخرى تحاول استعبادهم أو السيطرة عليهم، سواء كانت محبة المال أو الاهتمام بالغد، تلك الأمور التي قد تستعبدهم في حياتهم الجديدة التي كانوا مزمعين أن يعيشوها في أرض الموعد. ولم يحدث أي تغيير آخر في الوصايا العشر ذاتها فيما عدا بعض الكلمات الطفيفة التي تدلُّ على أنه كان ينقلها في جوهرها معتمداً على الذاكرة. ثم ختمها بقوله:
+ «هذه الكلمات كلَّم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم ولم يَزِدْ، وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها» (تث 5: 22).
ويعلِّق القديس أوغسطينوس على كتابة الله لهذه الوصايا على لوحين من الحجر مقارنةً بكتابة وصايا العهد الجديد في القلوب، فيقول:
[هناك حفر إصبع الله على لوحي الحجر، وهنا في قلوب البشر. وهكذا فقد كان هناك ناموس وُضع خارج البشر ليكون خوفاً لغير المستقيمين، وهنا أُعطي في داخلهم ليكون تبريراً لهم. من أجل هذا، فإنك لن ترتكب الزنا، ولن تقترف القتل، ولن تشته، وإذا كانت هناك أية وصية أخرى كُتبت - كما تعلمون على هذين اللوحين، فهي كما قال الرسول - «مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك، المحبة لا تصنع شرّاً للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس» (رو 13: 10،9). هذا الناموس ليس مكتوباً على لوحي الحجر، ولكنه طُبع في قلوبنا بالروح القدس الذي أُعطي لنا. إذن، فناموس الله هو المحبة. وليس الذهن الجسدي خاضعاً له، ولا هو بالفعل يقدر على ذلك. ولكن عندما تضع الخوف في الذهن الجسدي، فإن أعمال المحبة تصير كأنها مكتوبة على لوحين (من حجارة)، ويصير لنا ناموس الأعمال، حيث الحرف يقتل التعدِّي. أما إذا طُبعت المحبة (بالروح القدس) في قلوب المؤمنين، يصير لنا ناموس الإيمان، حيث الروح المُعطي الحياة للمحبين](1). (يتبع)
(1) St. Augustine, On The Spirit & The Letter, 17,29.