تدبير الروح القدس
الروح القدس حياة الكنيسة
- 2 -
الأسرار الكنسية


6 - سر الزيجة المقدسة
- 3 -

نظم الزواج في مراحله التاريخية والقانونية

الكنيسة لكونها هي تجمُّع شعب الله حول جسد المسيح ودمه الأقدسين لتتناول منهما لتصير جسداً واحداً وروحاً واحداً، تصير بالحقيقة هي الكنيسة جسد المسيح من خلال سر الإفخارستيا، وليس مجرد تنظيم اجتماعي أو شعبي مثل باقي التنظيمات البشرية. لذلك فالمسيح نفسه هو الذي يقود الاجتماع الإفخارستي الذي يتحوَّل في النهاية إلى جسد المسيح السرِّي.

ففي هذا الإطار يُعتبر الزواج المسيحي سرّاً كنسياً طالما يجري في إطار الخدمة الليتورجية وينتهي بالاتحاد بجسد المسيح ودمه الأقدسين في سر الإفخارستيا.

ويختلف الزواج المسيحي عن الزواج في اليهودية وعنه في المجتمع الروماني الوثني الذي عاش فيه المسيحيون الأوائل.

أولاً: الزواج في اليهودية

في الفكر اليهودي، وكما يتضح من أسفار العهد القديم، كان هدف الزواج الإنجاب. ومباركة الله للرجل تكمن في استمرار النسل، وهذا ما لا غِنَى للرجل اليهودي عنه. وقد أثمرت طاعة إبراهيم لله بالوعد بالنسل الكثير له. هذا الوعد المُعطَى لإبراهيم يوضح لماذا كان رجال العهد القديم ينظرون إلى قلة النسل على أنها لعنة، وعلى الأخص على النساء. لذلك فقد كان معنى الوعد لإبراهيم يتضمن أن الحياة يمكن أن تدوم في النسل، وبالتالي فكان الاهتمام مُركَّزاً على ولادة الأولاد.

هذه النظرة الواضحة جداً في العهد القديم بارتباط الزواج بالنسل والنسل بالبركة، كانت مرتبطة أساساً بحقيقة أن اليهودية في مراحلها المبكِّرة لم يكن فيها إشارة واضحة إلى وجود حياة بعد الموت. ولكن كان أتقى اليهود يأملون في نوع من الوجود بعد الموت غير مكتمل في مكان اسمه بالعبرية ”شيئول“ (الذي يُترجم الآن بـ ”الجحيم“). لذلك يسأل المرنِّم الله المعونة ضد أعدائه الذين يطلبون قتله، متسائلاً هل في الجحيم مَن يعترف لك؟ وفي الموت مَن يُسبِّحك؟ (مز 88: 10).

ولكن المسيح في العهد الجديد أعلن أن الله هو «إله أحياء» (مت 22: 32) وليس «إله أموات».

وإن كان الزواج في العهد القديم (الزواج الواحد أو تعدُّد الزوجات) هو الوضع الطبيعي، إلاَّ أن المعاشرة غير الزوجية في بعض قصص العهد القديم كانت مُباحة وأحياناً كان يوصَى بها لتأمين استمرار النسل (تك16: 1-3). وفي سفر التكوين 38: 8 نجد إلزاما على الإنسان أن يُقيم نسلاً لأخيه الميت عن طريق الزواج من أرملته، وكان هذا الإجراء بمثابة تأمين لاستحياء جزئي لذلك الإنسان الميت بولادة أطفال من زوجته. وهذا الوضع هو الذي علَّق عليه المسيح في العهد الجديد كما سنرى فيما بعد.

أما الزواج بزوجة واحدة على أساس المحبة الأبدية بين الزوج والزوجة، فكان مجرد مَثَل أعلى لم يتحقق إلا في حالة آدم وحواء حينما كانا في حالة النعمة قبل السقوط. وفي سفر نشيد الأنشاد نلحظ ذلك الحب الزيجي المفرد الذي يمثل الحب الزيجي السرِّي بين الله وشعبه. وأما الزيجة الواحدة فلم تكن في اليهودية التزاماً دينياً على الإطلاق.

ثانياً: الزواج في المسيحية

أما الزواج في المسيحية كما نلحظه في أسفار العهد الجديد وفي حياة الكنيسة منذ نشأتها، فقد تغيَّر تغيُّراً جذرياً، فلا يوجد في العهد الجديد نص واحد يشير إلى أن النسل هو مُبرِّر الزواج أو هدفه. فولادة الأولاد تؤدي فقط إلى ”الخلاص“، هذا بالنسبة للنساء، ولكن فقط إن ثبتْنَ في «الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقُّل» (1تي 2: 15).

وفي مواجهة مستويات العهد القديم عن الزواج، تظهر:

مستويات العهد الجديد:

كل الأناجيل الثلاثة (ذات النظرة الواحدة) أي (مت 22: 23-32؛ مر 12: 18-27؛ لو 20: 27-37) تُعلن اتجاه الرب يسوع ضد عادة الزواج من أرملة الأخ من أجل استمرار النسل واستحياء الإنسان. ويُلاحظ أن إجابة المسيح كانت مُنصبَّة على عقيدة القيامة والخلود مما يبدِّد القلق الذي كان يساور يهوديِّي العهد القديم تجاه الحياة الأبدية والتي كان يواجهها بزيادة النسل. فحينما سأله الصدوقيون عن أنه لا قيامة للإنسان بذكرهم مَثَل الإخوة السبعة الذين ماتوا ولم تُنجب الزوجة نسلاً من أحد منهم، أجاب الرب: «لأنه في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء».

وقد يفهم البعض أن المسيح يقصد ضمناً من هذا النص أن الزواج عمل أرضي وأن كيانه ينحل بالموت. هذا الفهم غير صحيح وقد أخذت به الكنيسة الغربية ردحاً من الزمن. ولكن هذا الفهم يتعارض مع تعليم القديس بولس الرسول وتعاليم الآباء. فالقديس كليمندس الإسكندري يفسر هذه القصة هكذا:

[الرب لم يكن يرذل الزواج، ولكنه كان يُبعِد أذهانهم عن انتظار أن يكون في القيامة أية شهوات جسدية].

قد كان ردُّ المسيح منحصراً في معنى سؤالهم، فقد كانوا لا يفهمون القيامة إلا على أنها استعادة للحياة الجسدية بما فيها المغزى اليهودي للزواج على أنه الإنجاب.

وقول المسيح: «يكونون كملائكة الله في السماء»، يُقصد به نفي أي تصوُّر مادي جسدي لحياة الإنسان في القيامة، ولكنه لم يكن يقصد إعلان أي معنى محدَّد للزواج.

ثالثاً: الزواج في الكنيسة الأولى (في القانون الروماني)

إن الزواج المسيحي في الإمبراطورية الرومانية لم يكن معتبراً أنه واسطة لتكوين نسل، بل كاتفاق بين طرفين ذوي إرادة حرة. وهناك مبدأ روماني مشهور يُحدِّد: ”إن الزواج ليس في المعاشرة الجنسية، بل في المبدأ القانوني: الإيجاب، والرضا والقبول (عناصر العقد القانوني)“. حتى أن القانون الروماني كان يعتبر أن مجرد المعاشرة مع امرأة حرة الإرادة هو بمثابة زواج قانوني، وهذا لا يسري على المرأة العبدة التي لا يمكن أن تُقدِّم رضاها بإرادة حرة، وعلى ذلك فإن معاشرتها لا يمكن أن تُسمَّى زواجاً. فجوهر الزواج في القانون الروماني يكمن في الرضا الذي بدوره يعطي المعنى والجوهر القانوني للزواج باعتباره اتفاقاً أو عقداً. ولأن العقد في القانون الروماني كان يستلزم طرفين فقط ولا يحتاج إلى ثالث ليدعم شرعية هذا الاتفاق، لذلك فقد سهَّلت الدولة أمر تسجيل هذه العقود. وكان هذا التسجيل يتضمن التأكُّد من صحة شروط الزواج لتسهيل التقاضي فيما لو حدث فيما بعد. ولكن، كمثل الشريعة الموسوية، فقد أتاح القانون الروماني إمكانية فصم عقد الزواج (أي الطلاق) بإرادة الطرفين.

أما الكنيسة المسيحية سواء في زمن الاضطهاد أو أثناء تحالفها مع الدولة الرومانية بعد دخولها في الإيمان المسيحي، فقد قبلت فقط إجراءات القوانين الرومانية المنظِّمة للزواج. وحتى بعد أن صارت المسيحية هي دين الدولة الرسمي، ظلت المصطلحات القانونية القديمة مثل ”عقد“ مستمرة ومقبولة في القوانين الكنسية. هذا واضح في كتابات الآباء الأوائل؛ ويقول أثيناغوراس في احتجاجه (القرن الثاني): ”كل واحد منا يعتبر أن المرأة التي تزوجها بحسب قوانينكم ، هي خاصة له“.

وهذا يعني أن الكنيسة المسيحية لم ترفض قوانين الزواج الطبيعي الذي يمارسه كل الناس، لكنها أزادت عليه - أي أزادت على الزواج الطبيعي - وكلَّلته بأن أدخلته إلى ملكوت الله ليتحوَّل إلى شركة ووحدة في المسيح وبرجاء الحياة الأبدية في الدهر الآتي. وهذا ”التحويل“ أو ”الإكليل“ هو الذي يُعطي الزواج المسيحي صفة السر الكنسي، مثله في هذا مثل باقي الأسرار الكنسية التي تُحوِّل ما هو طبيعي، والذي يؤول إلى الموت، ليصير أداة لحلول نعمة الروح القدس وتقديس البشر، وبالتالي يبقى إلى الأبد (مثل الماء في سر المعمودية، والزيت في سر الميرون، والخبز والخمر في سر الإفخارستيا).

الزواج والإفخارستيا:

+ ولكن لماذا لم تعترض الكنيسة على المراسيم المدنية؟

إن الزواج المسيحي يُعتبر مسيحياً، ليس بسبب الطريقة التي تمَّ بها، بل بسبب أن الزوجين مسيحيان: ونقصد بكلمة ”مسيحيان“ لا لأن اسميهما مسيحيان، بل لأن كل مسيحي هو جسد للمسيح وهيكل لله، والزوجان يصيران جسداً واحداً بعضويتهما في جسد المسيح السرِّي بالإفخارستيا، مما يجعل اتحادهما مختوماً بالروح القدس الذي فيهما، بسر الإفخارستيا الذي جعلهما عضوين مقدَّسين في جسد المسيح. وهكذا يُعتبر زواجهما مسيحياً.

والعلاقة بين الزيجة والإفخارستيا تظهر واضحة في عرس قانا الجليل، فالماء يصير خمراً، أي أن الحياة الطبيعية العتيقة تتحوَّل إلى حياة جديدة، وكما علَّم آباء الكنيسة فإن سر الإفخارستيا هو الذي يجعل الزواج مسيحياً:

[الزواج يتثبت بالإفخارستيا، ويُختم بالبركة، ويُسجَّل في السماء بواسطة الملائكة].

العلاَّمة ترتليانس

وكان المؤمنان المسيحيان المتزوجان في العصر الروماني وبعد إجراء المراسيم المدنية للزواج، يذهبان إلى الكنيسة ويتناولان من سر الإفخارستيا وينالان بركة الأسقف على مشهد من الكنيسة كلها، فيصير اتفاقهما البشري اتحاداً أبدياً في المسيح.

ويقول القديس إغناطيوس الأسقف الأنطاكي الشهيد في القرن الثاني:

[الذين ينوون الزواج يجب أن يتَّحدوا بمشيئة الأسقف حتى يصير الزواج بحسب الرب وليس بحسب الشهوة البشرية].

والمقصود بمشيئة الأسقف، مباركة الأسقف للزوجين اللذين اتفقا على الزواج.

+ وهكذا تختم الإفخارستيا على الاتفاق البشري للزواج ليصير اتحاداً أبدياً في المسيح.

تعليم المسيح بشأن الطلاق:

هذا التعليم يوضح بأكثر إيجابية معنى الزواج المسيحي. وقد كان ذلك ضدّاً لِمَا ورد في سفر التثنية عن الطلاق (تث 24: 1). وقد ورد هذا التعليم في (مت 5: 32؛ 9: 19؛ مر10: 11؛ لو16: 18). فالحقيقة الواضحة من هذا التعليم أن الزواج المسيحي أبديٌّ وليس أرضياً.

فالوحدة بين الزوج والزوجة هي هدف بحدِّ ذاته. إنه اتحاد أبدي بين شخصيتين خالدتين كلٍّ منهما ذات إرادة حُرَّة، فلا يمكن كسره بسبب اهتمامات العهد القديم مثل الإنجاب ولا حتى بعدم استمرار الحياة (كما في عادة زواج أرملة الأخ).

إن عدم فصم الزواج ليس تحريماً قانونياً، فالمسيح لم يضع تشريعات قانونية للحياة الاجتماعية بل وضع المثل الأعلى فقط أمام الناس. فإن قول المسيح ”إلا لعلة الزنا“ (مت 5: 32)، يعني أن قانون الملكوت ليس فرضاً على الناس. فالزواج المسيحي لابد من قبوله بحرية، ولكن قد يرفضه الإنسان بالزنا أخيراً. إن الإنجيل عموماً لا يختزل الحرية الإنسانية بوصايا ناموسية وتعليمات قانونية، فهو يَهَب الإنسان العطية وملخَّصها: صورة الله، الكمال، غير المستطاع لدى الناس مستطاع لدى الله. والزواج بامرأة واحدة فقط ظهر للناس أولاً أنه مستحيل. لكن الحقيقة هي أن المحبة أعلى من الممكن وتتحدى المستحيل. إن المحبة هي ”عطية كاملة“ (1يو 4: 18) يمكن اختبارها فقط بالممارسة. ولكن كل هذا لا يمكن مقارنته بالزنا. ففي حالة الزنا تصير ”العطية“ مرفوضة من الطرف الزاني، والزواج في الرب لم يَعُد موجوداً. فالزنا ليس فقط كسراً لوصية، ولكنه مأساة. إنها مأساة الحرية في كل زمان ومكان حينما يُساء استعمالها.

الزواج الثاني:

حينما يتكلَّم القديس بولس الرسول عن وضع الأرامل، فهو يفترض أصلاً أن الزواج لا ينفصم أبداً ولا حتى بموت الزوج أو الزوجة، فالمحبة لا تسقط أبداً (1كو3: 8).

ورؤية القديس بولس عن الزواج مختلفة عن الاتجاه اليهودي الرابِّي. فالقديس بولس بالرغم من أنه يعيش حالة التبتل أي عدم الزواج (كورنثوس الأولى - أصحاح 7)، إلا أنه يرسم في رسالة أفسس (5: 25-33) صورة باهرة للتعليم عن الزواج كصورة للاتحاد بين المسيح والكنيسة، فهو لا ينحاز لحالة البتولية.

أما رأي القديس بولس في ”الزواج الثاني“ فهو لم يُعلنه إلا في حالة الترمُّل فقط، وأما مُبرِّره فهو: «إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن التزوُّج أصلح من التحرُّق» (1كو 7: 9). إذن، فزواج الأرامل الثاني هو وضع استثنائي مُستثنى من أبدية الزواج المسيحي، وقد سمح به القديس بولس الرسول من واقع الضرورة المُلحَّة الناتجة عن الضعف البشري أمام غريزة التناسل التي هي أقوى الغرائز في الإنسان وأشدها سطوة عليه، سمح به القديس بولس الرسول كوضع أصلح من ”التحرُّق“ (أي شدة الشهوة المختصة بالتناسل)، وأكثر أماناً من الخطأ وحفظاً للإنسان من الزنا في الخفاء وليس أكثر (بينما لم يتعامل مع أوضاع أخرى بنفس الطريقة مثل: خطايا الزنا الفعلي، والمِثلية الجنسية، وعبادة الأوثان، واختلاط الأنساب، وغيرها من الخطايا والآثام).

ويُلاحظ أن القديس بولس، وهو يعطي رأيه فيما يتعلق بأمور الزواج في الأصحاح 7 من الرسالة الأولى إلى كنيسة كورنثوس، كان يتكلَّم بروح الرعاية والأُبوَّة والترفُّق بمَن دخلوا في حالة التزوُّج سابقاً مُستخدماً تعبيرات مثل: ”ولكن بسبب (أي خوفاً من) الزنا...“، ”ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر“، ”لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله (بخصوص التزوُّج أو البقاء بلا زواج بعد تجربة التزوُّج الأولى)“، ”ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا“ وهكذا.

وقد صار تعليم الرسول بولس المختص بالسماح بالزواج الثاني في حالة الترمُّل هو أساس التعليم اللاهوتي في الكنائس الأرثوذكسية التي تمارسه في مثل هذه الحالات. +

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis