عندما هاجمت قبائل البربر، الآتية من غرب أفريقيا، جماعة الرهبان ببرية أنبا مقار، هرب بعض الرهبان إلى الحصن، ما عدا تسعة وأربعين شيخاً فضَّلوا الاستشهاد على الهرب. وكان في زيارة البرية في ذلك الوقت مندوب عن الملك ثيئودوسيوس بصحبة ابنه، وقد رأيا أثناء استشهاد الشيوخ ملائكة من السماء يضعون أكاليل منيرة على رأس هؤلاء الشهداء. ومن شدة انبهارهما بجمال الأكاليل، خرجا من مخبأهما لينالا هما أيضاً أكاليل الاستشهاد على أيدي البربر المُغيرين. منظرٌ مهيب يتكرر كثيراً في سِيَر الشهداء، شهد كثيرون برؤية هذه الأكاليل السماوية وهي تُكلِّل رؤوس مَن أحبوا المسيح حتى سفك الدم. وكلمة تاج أو إكليل تتكرر في كتاب العهد الجديد عدة مرات، وإذا رجعنا إلى النص اليوناني نجد هناك كلمتين تترجمان في العربية إلى كلمتي ”تاج“ و”إكليل“. وهناك اختلاف واضح في معنى الكلمتين. وكِلاَ الكلمتين كانتا تُستعملان في الحياة العامة في القرن الأول المسيحي أثناء التحدُّث باللغة اليونانية، لغة العهد الجديد. ومن الأفضل معرفة معنى كل كلمة حتى نحصل على مفهوم كامل ودقيق لآيات العهد الجديد التي تتكرر فيها هذه الكلمة. الكلمة الأولى هي ”ستفانوس“ والتي تُرجمت في العهد الجديد بكلمة ”إكليل“، وهي تشير إلى الإكليل الذي يحصل عليه الفائز في المباريات الرياضية اليونانية، مثل العدَّاء الذي يُنهي السباق أولاً، ورامي القرص الذي يصل برميته إلى أبعد مسافة، والمصارع الذي يصرع منافسه ويطرحه أرضاً. وكان أيضاً يُمنح لخادم الدولة الذي يستحق التكريم، كما كان يلبسه العروسان في طقس سرِّ الزيجة الذي يُعقد عليهما. لذلك يُعتبر الإكليل (ستفانوس) رمزاً للنصر وللتكريم وللاحتفالات السعيدة. وكان هذا الإكليل يُصنع كضفيرة من أفرُع شجر السنديان والزيتون وبعض أفرع الزهور والنباتات الخضراء مثل الريحان والبنفسج والورود. وكانت الكلمة ”ستفانوس“ تُعطي معنى المكافأة أو المجازاة أكثر من كونها مجرد إكليل من الزهور(1). أما الكلمة الأخرى التي تُترجم إلى كلمة ”تاج“ في العهد الجديد فهي ” دياديما“. وهذا الاسم اليوناني مشتق من فعل معناه: ”يربط معاً“، وهو يشير إلى شريط أزرق مُحلَّى بعلامات بيضاء كان يلبسه الملوك الفُرْس فوق العمامة أو لباس الرأس كزينة للرأس وكتعبير عن الملوكية(2). فالكلمة الأولى ”ستفانوس“ هي إكليل النصر، بينما الثانية ”دياديما“ فهي تاج الملوكية. وسوف نورد بعض الآيات التي وردت بها هاتان الكلمتان للتمييز بينهما. ? ففي رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (9: 24-27) يذكر أثناء حديثه عن الخدمة المسيحية حلبة السباق اليونانية كرمز لنشاط المسيحي في خدمته لسيده المسيح. فيقول: «ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحداً منهم يأخذ الجعالة»؟ فهو يشرح هنا أن العدَّاء اليوناني يجري في السباق لكي ينال إكليلاً يفنى مصنوعاً من أفرع الشجر وبعض الزهور، التي سوف تذبل سريعاً. أما المسيحي ففي نهاية خدمته سوف ينال إكليلاً لا يفنى: «هكذا اركضوا لكي تنالوا... أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى، وأما نحن فإكليلاً لا يفنى». العدَّاء يُجاهد ”عن غير يقين“، أما المسيحي فيُجاهد عن يقين واثقاً في الإكليل الذي ينتظره. فعلى هذا المسيحي الذي يشتاق أن ينال هذا الإكليل الدائم، أن يُداوم على الجهاد الطويل الموضوع أمامه، وهذا الجهاد يحتاج إلى نشاط ويقظة وتمارين مستمرة. وحسب تعبير بولس الرسول في نهاية هذه الآيات: «بل أَقمع جسدي وأستعبده (أي أُصيِّره عبداً لي)، حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً». وكلمة ”مرفوضاً“ هنا في اللغة اليونانية مشتقة من فعل معناه ” يُرفض بعد اجتيازه الاختبار لأنه لم يكن صالحاً لهذا الاختبار“. والقديس بولس أيضاً يستعير هذه الصورة من حلبات السباق اليونانية، فهو تعبير فني معناه ”رَفض المتسابق وعدم نواله الإكليل لخرقه قواعد السباق“. فإن لم يُمارس بولس ما يكرز به، فسوف يُرفض، ولن يكون له الحق في الإكليل الذي سيناله مَن يقوم بالخدمة المسيحية. وفي رسالته إلى أهل فيلبي (4: 1) يدعو القديس بولس القديسين بأنهم ”إكليله“: «إذاً يا إخوتي الأحبَّاء والمشتاق إليهم، يا سروري وإكليلي». فكما تُجدل أغصان شجر السنديان مع بعض الزهور لتصنع إكليلاً يوضع على الرأس، هكذا يقول بولس الرسول لمؤمني فيلبِّي: ”أنتم، أيها الفيليبيُّون، مجدولون معاً في إكليل انتصاري كرمز دائم لنصرتي على أعوان إبليس في فيلبي، ودليل مكافأة خدمتي الرسولية عندكم“. أما عن أهل تسالونيكي الذين ربحهم للمسيح، فهم يمثلون إكليل فرح يُزين به هامته في مجيء الرب يسوع: «لأن مَن هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضاً أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه؟ لأنكم مجدنا وفرحنا» (1تس 2: 20،19). أما في رسالته لتلميذه تيموثاوس (2تي 4: 6-8)، فهو يتكلَّم عن إكليل البر، وأيضاً ما يزال في فكر القديس بولس الصورة الرياضية اليونانية، فهو يقول: «قد جاهدتُ الجهاد الحسن». لم يجاهد ”جهاداً حسناً“ كمجهود شخصي يُشكر عليه، بل ”الجهاد الحسن“، أي الجهاد الرسمي أو القانوني المطلوب منه. وهنا صورة الاستاد الرياضي حيث يتجمَّع المشاهدون ليروا اثنين من المصارعين وكل منهما يجاهد أو يُصارع قانونياً حسب قوانين اللعبة، وذلك لكي ينال إكليلاً من الزهور يُزين به هامته. والجهاد يُصوَّر أنه ”حسن“، ليس من وجهة نظر المتصارع، بل من وجهة نظر المشاهدين والحُكَّام. ثم ينتقل بولس الرسول إلى صورة أخرى ويقول: «أكملتُ السعي». وهو هنا يُصوِّر نفسه وهو يجري في حلبة سباق وقد أتى إلى نهايته. أما النهاية التي ينظر إليها فسوف تتحقق في روما عندما ينال إكليل الاستشهاد بعد فوزه في هذا السباق «وأخيراً وُضع لي إكليل البر». ويتكلَّم القديس يعقوب عن ”إكليل الحياة“: «طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة» (يع 1: 12). وهو أيضاً ليس ”إكليل حياة“، بل ”إكليل الحياة“، أي الحياة التي هي المسيح يسوع ربنا: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6). فالإكليل الممنوح هنا هو إكليل نصرة على التجربة والخطية، يُعطي صاحبه مكافأة الحياة في المسيح يسوع كخبرة حية يعيشها المسيحي كل يوم. ويستعير القديس بطرس الرسول نفس صورة إكليل النصرة الرياضي المستعمل في العالم اليوناني، بالرغم من تربيته وثقافته اليهودية. فهو يُخاطب المؤمنين الذين أقامهم الرب رعاة وأساقفة، حاثاً إيَّاهم أن يرعوا رعية الله كأمناء وليس كمتسلِّطين، حتى إن أكملوا مهمتهم بكل أمانة يكون نصيبهم في النهاية، ليس إكليل زهور يبلى، بل «إكليل المجد الذي لا يبلى» (1بط 5: 4). أما القديس يوحنا فيكتب من جزيرة بطمس إلى ملاك كنيسة سميرنا مُشجِّعاً إيَّاه بسبب الاضطهاد الواقع عليه بقول الرب أنْ «كُن أميناً إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10). وكلمة ”إلى الموت“ لا تعني ”لغاية الموت“، بل ”حتى إلى حدِّ الموت“. ونفس هذه الكلمة هي المستعملة في رسالة فيلبي (2: 8) حيث قيل عن الرب يسوع: «وضع نفسه وأطاع حتى الموت»، أي أن طاعته أدَّت به إلى موت الصليب. فالقديس يوحنا هنا يُخاطب ملاك (أي أسقف) وشعب كنيسة سميرنا، حيث تشير هذه الكنيسة إلى عصر الاستشهاد الذي ستواجهه الكنيسة، أن يحفظوا أمانتهم وشهادتهم للمسيح، محتملين حروب إبليس المزمع أن يُلقي بعضاً منهم في السجن لكي يُجرَّبوا! حتى لو أدَّت هذه الشهادة إلى الموت الجسدي، فستكون مكافأتهم إكليل الحياة، مكافأة تُعطَى لهم كانتصار وتتويج لجهادهم، مع الوعد بانعدام سلطان الموت الأبدي عليهم بسبب حصولهم على إكليل الحياة: «مَن يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني» (رؤ 2: 11). ومن العجيب أن يكون أول شهيد في المسيحية ينال إكليل (ستفانوس) الاستشهاد هو الشهيد اسطفانوس الذي يعني اسمه ”الإكليل“. كما يحث القديس يوحنا ملاك كنيسة فيلادلفيا أن يتمسك بما استلمه وبما حقَّقه من خدمة وجهاد لئلا يأخذ أحدٌ إكليله (رؤ 3: 11)، أي يستولي أحدٌ على مكافأة نصرته في الخدمة. أما الأربعة والعشرون شيخاً الجلوس على أربعة وعشرين عرشاً، فلهم على رؤوسهم أكاليل انتصار من ذهب علامة على نصرتهم النهائية ومكافأتهم بأكاليل لا تفنى (رؤ 4: 4). كذلك أيضاً المرأة المتسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها، والتي ترمز إلى الكنيسة، فهي تضع أيضاً على رأسها إكليلاً من اثني عشر كوكباً، دليل نصرتها النهائية على إبليس وعلى النبي الكذَّاب (رؤ 12: 1). أما بالنسبة للإكليل الذي وُضع على رأس المخلِّص أثناء صلبه (مت 27: 29) فلم يقصد به اليهود أن يكون إكليل نصرة، بل للاستهزاء برب المجد. ولكن الكلمة المستعملة هنا هي ”إكليل“ - ستفانوس - فذلك لأنه كان من أغصان الشوك المجدولة على هيئة تاج. فما أراده الجنود الرومان أن يكون تاج ملوكية للاستهزاء بالصليب، تحوَّل إلى إكليل نصرة على رأس المخلِّص. لذلك يصف بولس الرسول مشهد انتصار الرب المصلوب على الموت والهاوية قائلاً: «شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح» (2كو 2: 14)، مُكلَّلاً بإكليل النصرة مُصطحباً معه كل المؤمنين الذين حررهم من أَسْر إبليس وجعلهم لأبيه ملوكاً وكهنة. + نأتي إلى الكلمة الثانية والتي تُرجمت إلى ”تاج“، والتي لم تَرِد في العهد الجديد سوى ثلاث مرات، وهي كلمة ”دياديما“، والتي كانت عبارة عن شريط أزرق يُلبَس فوق العمامة عند ملوك الفُرس كدليل على الملوكية، لذلك كان من الممكن أن يوضع على الرأس عدة شرائط أو تيجان من هذا النوع. فعندما غزا الملك بطليموس ملك مصر أنطاكية ودخلها منتصراً، كان يضع على رأسه تاجين: أحدهما يُعلن به ملوكيته على آسيا، والآخر دليل ملوكيته على مصر (سفر المكابيين الأول 11: 13). وفي سفر الرؤيا نرى التنين الذي خرج لمحاربة الكنيسة يضع على رأسه سبعة تيجان (رؤ 12: 3) كدليل على ملوكيته أو سيطرته على الملوك السبعة التي تحارب كنيسة الله (رؤ 17: 10). أما ضد المسيح الذي هو الوحش الذي خرج من البحر، فكان له عشرة تيجان ملوكية على رأسه (رؤ 13: 1) دليل على ملوكيته على ملوك الأرض الذين يمثِّلون المملكة المضادة لمملكة المسيح، التي ستملك بقوة الوحش وسلطانه (رؤ 17: 13،12). أما الرب يسوع فقد وصفه سفر الرؤيا قائلاً: «ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أميناً وصادقاً، وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة» (رؤ 19: 12،11). هذه التيجان الكثيرة (دياديما) التي تُزين هامة الرب يسوع تمثل كل الممالك والشعوب التي سيملك عليها الرب يسوع، لأنه بالحق أخذ لقب «ملك الملوك ورب الأرباب» (رؤ 19: 16).
|
|||
(1) Theological Dictionary of the New Testament, Vol. VII, p. 629.
(2) The Interpreter's Dictionary of the Bible, Vol. I, p. |