دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تأملات في الأصحاحات الأخيرة
من سفر الرؤيا:

سماء جديدة وأرض جديدة
- 2 -

+ بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر." (2بط 3: 13)

نستكمل في هذا المقال حديثنا عن المدينة السماوية مسكن الله مع الناس.
مسكن الله مع الناس:

"وسمعتُ صوتاً عظيماً من السماء ("من العرش" حسب اليوناني) قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم" (آية 3). يُحقِّق الرب هنا ما وعد به بحزقيال النبي: "وأقطع معهم عهد سلام، فيكون معهم عهداً مؤبَّداً، وأُقرّهم وأكثِّرهم، وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد. ويكون مسكني فوقهم، وأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً، فتعلم الأمم أني أنا الرب مُقدِّس إسرائيل، إذ يكون مقدسي في وسطهم إلى الأبد (عمانوئيل: الله معنا)" (حز 37: 26-28). إذن، سيسكن الله في كنيسته الممجَّدة أورشليم الجديدة بين شعبه إسرائيل الروحي كما قال سابقاً: "هم أمام عرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحلُّ فوقهم." (رؤ 7: 15)

لقد أُعلِن للرائي عن حضرة الله المباركة مع شعبه، تلك الحضرة التي هي مجد الكنيسة الأبدي. هذه المدينة السماوية ستكون خالية من كل اضطراب وحزن، وسيمسح الله كل الدموع من عيون أبنائه كأب شفوق، حيث إن الموت لن يوجد فيما بعد لأن الخطية لن توجد بعد، فلن يوجد حزن ولا بكاء، لأن الأمور الأولى تكون قد مضت، هوذا كل شيء قد صار جديداً.

مؤسَّسة على رُسل حَمَل الله:

"كان لها سور عظيم وعالٍ (أي حصن إلهي)، وكان لها اثنا عشر باباً وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً، وأسماءٌ مكتوبةٌ هي أسماء أسباط بني إسرائيل الاثني عشر... وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رُسل الخروف الاثني عشر" (رؤ 21: 12-14). فهي تجمع بين أسماء الأسباط الاثني عشر الذين يمثـِّلون أتقياء العهد القديم، وأسماء رسل المسيح الذين يمثلون أتقياء العهد الجديد، لأنهم جميعاً أعضاء كنيسة واحدة. وهي مؤسَّسة على رسل الحَمَل لأنها هي الكنيسة الرسولية التي بُنيت على أساس تعاليم الرسل الإلهية: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية." (أف 2: 20)

لا موت ولا حزن:

"سيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤ 21: 4)، وذلك تحقيقاً للنبوَّة أن ربَّ الجنود: "يَبْلَع الموتَ إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض" (إش 25: 8). ولما تنبَّأ في إشعياء أيضاً عن السماء والأرض الجديدتين قال: "هأنذا خالقٌ أورشليم بهجةً وشعبها فرحاً، فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي، ولا يُسمَع بعد فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ" (إش 65: 18و19). وأيضاً: "لا يُسمَع بعدَ ظلمٌ في أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك، بل تُسمّين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً" (إش 60: 18). والموت لن يوجد لأن الخطية لن توجد فيما بعد: "يهرب الحزن والتنهُّد" (إش 51: 11)، هذه الآية التي اقتبستها أوشية الراقدين. وهذا هو التجديد الذي ذكره الرب في الإنجيل: "أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده..." (مت 19: 28)

مواطنو تلك المدينة هم "شعوب المخلَّصين" (رؤ 21: 24) من جميع الأمم، لأنه "لن يدخلها شيء دنس... إلاَّ المكتوبون في سفر حياة الخروف" (رؤ 21: 27)، "استيقظي، استيقظي، البسي عزَّك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة، لأنه لا يعود يدخلك فيما بعد أغلف ولا نجس" (إش 52: 1). ويقول هنا القديس أوغسطينوس: "كما يقول الرب إن "الذين حُسِبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات، لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً، لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة" (لو 20: 35و36)"(1). وتقول الرسالة إلى ديوجنيتس عن المسيحيين: "إنهم يسكنون على الأرض، ولكنهم مواطنون في السماء."(2)

لا تحتاج إلى شمس أو قمر:

"والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها، وتمشي شعوب المخلَّصين بنورها" (رؤ 21: 23و24)، "ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله يُنير عليهم" (رؤ 22: 5). وهكذا تتحقَّق نبوَّة إشعياء: "لا تكون لك بعد الشمس نوراً في النهار، ولا القمر يُنير لك مضيئاً، بل الرب يكون لك نوراً أبدياً، وإلهك زينتك." (إش 60: 19)

الرب هو نفسه هيكلها:

"ولم أرَ فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها" (رؤ 21: 22). لما انحرف شعب الله في القديم، سمح الله بخراب الهيكل مع مدينة أورشليم الأرضية سنة 70م، وذلك لكي يتحقَّق كلامه بتأسيس هيكل جسده: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه... أما هو فكان يقول عن هيكل جسده" (يو 2: 19و21). إن مواطني تلك المدينة هم "أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه" (أف 5: 30)، "أَمَا تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟... لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1كو 3: 16و17). فسيصير الرب هو هيكل جسده، الكنيسة الممجَّدة في السماء.

أبوابها مفتوحة بلا انقطاع:

"وأبوابها لن تُغلَق نهاراً، لأن ليلاً لا يكون هناك" (رؤ 21: 25). وهذا ما تنبَّأ به إشعياء النبي: "وتنفتح أبوابك دائماً، نهاراً وليلاً لا تُغلَق" (إش 60: 11). وقد ذكرت كتب الطقس أن الكنيسة على الأرض ينبغي أن تكون أبوابها مفتوحة بلا انقطاع، لكي تكون ملجأ لكل نفس متعبة أو محتاجة للرب، فبيت الرب على الأرض أو في السماء لا تُغلَق أبوابه في وجه المؤمنين.

شجرة الحياة:

"وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلُّور خارجاً من عرش الله والخروف. في وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها. وورق الشجرة لشفاء الأُمم. ولا تكون لعنةٌ فيما بعد. وعرش الله والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم... وهم سيملكون إلى أبد الآبدين." (رؤ 22: 1-5)

يرى القديس أمبروسيوس(3) أن هذا النهر هو الروح القدس الذي يشرب منه المؤمن بالمسيح الذي قال: "إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب. مَن آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 37-39). هذا هو روح الآب والابن، منبثق من الآب مستقراً في الابن، أرسله الابن من عند الآب ليُبكِّتنا ويقودنا حتى نبلغ العُرس السماوي. هذا هو النهر الخالد الذي يروي العروس. وكما يقول المرتـِّل: "نهر سواقيه تفرِّح مدينة الله، مقدس مساكن العلي، الله في وسطها فلن تتزعزع." (مز 46: 4و5)

ويرى الآباء، مثل مار أفرام السرياني، أن شجرة الحياة هي الصليب الذي تمتد إليه أيدينا لتقتطف الثمار الروحية بدلاً من ثمرة العصيان التي أكلها آدم وحواء، ولذلك فإنهم يلقِّبون الصليب بشجرة الحياة ويرسمه الفنانون مقترناً بها. ولذلك نجد أن ثمرها شهري مستمر، فقد قال المرتل: "أنا أومن أني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء" (مز 27: 13 الترجمة القبطية). ونحن نأكل من تلك الشجرة: جسد الرب ودمه الأقدسين!

ويقول الأب فيكتورينوس:

[شجرة الحياة على ضفَّتي النهر تبيِّن مجيء المسيح حسب الجسد الذي أشبع الشعوب التي هزلت من الجوع، والتي نالت حياة من الواحد بواسطة خشبة الصليب بإعلان كلمة الله. وهو يقول في ذلك إن الشمس ليست ضرورية للمدينة، حيث يُظهر بوضوح أن الخالق، باعتباره هو النور غير الدنس، يشع في وسطها، ذاك الذي لا يمكن لأي عقل أن يُدركه أو لأي لسان أن يُخبر به.](4)

لها مجد الله:

"لها مجد الله، ولمعانها شبه أكرم حجر كحجر يَشب بلُّوري (أو "صافي مثل الكريستال")" (رؤ 21: 11). وذلك مثل "الشاكيناه" أي سحابة مجد الرب التي كانت تحل على خيمة الاجتماع (خر 40: 34)، وعلى بيت الرب (هيكل سليمان - 1مل 8: 11). ولمعان الضوء الذي يُنير المدينة إنما هو صفة "الجالس على العرش." (رؤ 4: 2و3)

(1) The City of God, Book XV, ch. 20. (2) Sources Chr. 33.62. (3) The Holy Spirit, 3:21. (4) ANF, Vol. VII, p. 359.