في الذكرى السنوية الثانية
لنياحة نيافة الأنبا إبيفانيوس
أسقف ورئيس
دير القديس أنبا مقار


( ذكر الصدِّيق للبركة )
الأنبا إبيفانيوس
أسقفنا المحبوب

حلول الروح القدس في العهدين

ملخص كلمة أنبا إبيفانيوس

في عيد العنصرة 2014

استعان القديس بطرس الرسول بنبوَّة يوئيل النبي: «ويكون بعد ذلك أَنِّي أسكب من روحي على كلِّ بشر» (يؤ 2: 28)، هذا بخلاف نبوَّات كثيرة أخرى في العهد القديم؛ وذلك لأنَّ الروح القدس كان معلوماً ومعروفاً في القديم منذ بدء الخليقة. ورغم أهمية الإيمان بأقنوم الروح القدس وإدراك أعماقه؛ إلاّ أننا لا نجد سوى آباء قليلين قد كتبوا عنه مثل القديس أثناسيوس الرسولي والقديس باسيليوس الكبير والقديس ديديموس الضرير والقديس أمبروسيوس، وفي العصر الحديث الأب متى المسكين. وقد ابتدأ الله في إعلان الروح القدس لخليقته من أول أسفاره المقدسة، أي سفر التكوين؛ حين ذكر لنا أنَّ روح الربِّ كان يرِفُّ على وجه المياه (انظر: تك 1: 3)، ثمَّ تلى ذلك ذكره للروح عند خلقة الإنسان بقوله: «وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تك 2: 7). هذه النسمة التي منحها الله للإنسان عندما نفخ فيه هي روحه القدوس؛ وذلك ليعطيه هبة الحياة والخلود في شخص آدم الإنسان الأوَّل. فالله أعطى الروح القدس للإنسان ليحيا إلى الأبد ولا يقوى عليه الفساد أو الموت؛ كما نقول في القداس الإلهي: ”يا الله العظيم الأبدي الذي جَبَل الإنسان على غير فساد“ (صلاة الصُلْح الباسيلي). ولكن عندما رفض الإنسان روح الحياة المُعطَى له وقاومه؛ حينئذ قال الرب: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً» (تك 6: 3). وتأتي كلمة: ”يَدين“ في العبرية بمعنى: (يمكث أو يسكن)، فيكون معنى كلام الربِّ: أن روحي لا يسكن (يمكث) في الإنسان إلى الأبد. ذلك لأنه بشر ويميل إلى الخطية التي جذبه إليها الشيطان.

حلول الروح القدس في العهدين القديم والجديد:

كان الروح القدس - في العهد القديم - يحلُّ على الإنسان بصفة مؤقتة ولزمن محدود، وعلى أشخاص بعينهم لسببٍ أو غرض معيَّن؛ من أجل أداء عملٍ أو أمر محدَّد، وليس على كلِّ الشعب، مثلما حَلَّ على يوسف بن يعقوب في أرض مصر حتى قال عنه فرعون مصر: «هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلاً فِيهِ رُوحُ اللهِ؟» (تك 41: 38)، ومثلما حلَّ على موسى النبيّ ومن بعده على السبعين شيخاً الذين اختارهم، وأيضاً حلوله على بصلئيل بن أوري في أيام موسى النبي (انظر: خر 35: 30-33)؛ حتى يتمِّم عمل خيمة الاجتماع المقدَّسة. وكذلك ما حدث مع شمشون في سفر القضاة وغيره من القضاة: (انظر: قض 14: 19)، ثمَّ من بعدهم على الملوك والأنبياء في إسرائيل. كذلك يُلاحَظ أنَّ الكتاب المقدَّس لم يذكر صراحة حلول الروح القدس على النساء في العهد القديم؛ رغم الإشارة إلى ظهور خلدة النبيَّة ودبُّورة القاضية. ولكن سرعان ما كان يفارقهم الروح بعد أن رافقهم إلى حين، حيث أنه لم يمكث معهم أو يسكن فيهم إلى الأبد؛ وهو ما رأيناه مع شاول الملك حينما فارقه الروح القدس وباغته روح شرير: (انظر: 1صم 14: 16). فنرى أنَّ الروح كان يفارقهم حينما تنتهي مهمتهم، أو الخدمة الإلهية الموكولة لهم، أو بسبب ضعفهم وخطاياهم. لذلك هتف داود النبي - الذي حلَّ عليه روح الربِّ - بصراخٍ إلى الله قائلاً: «وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مز 51: 11). فنرى أنَّ حلول الروح القدس في العهد القديم كان حلولاً مؤقتاً وليس أبديًّا.

أمَّا في العهد الجديد، فلم يعُد حلول الروح القدس قاصراً على أُناس أو أشخاص بعينهم دون غيرهم؛ بل إنَّ الله قد أعطاه وأفاضه بغنىً كهبةٍ عامة لكلِّ الذين قبلوه، وَوُلِدوا منه بالميلاد الجديد (في المعمودية المقدَّسة)، بل إنَّ أول حلول للروح القدس في العهد الجديد كان على امرأة وهي العذراء مريم: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ» (لو 1: 35).كما صار حلول الروح القدس دائماً وثابتاً فينا حسب القول: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ» (1يو 2: 27). وبذلك صرنا أبناءً لله الحيّ، أمَّا عن حلول الروح القدس على الربِّ يسوع في المعمودية؛ فهذا كان لأجل استعلانه كابن الله لنا، وهو كحلول المثيل على المثيل للشهادة والإعلان؛ وبالإيمان بالربِّ يسوع والمعمودية باسمه أصبحنا مؤهَّلين لحلول الروح القدس وختمه لنا كأبناء لله بالروح، وذلك دون أيِّ تمييز أو تفرقة؛ إذ قد صرنا أعضاءً في جسد المسيح، ومولودين كخليقة جديدة مؤهَّلة للحياة الأبدية. ولم تعُد هناك أي قوَّة تمنع الروح أو تعوقه عن السُّكنى في كلِّ من يقبل المسيح، ويصير بذاته هيكلاً لروحه؛ سواء كان صغيراً أم كبيراً، عبداً أم حراً، رجلاً أم امرأة. إذن قد صار حلول الروح القدس علينا في العهد الجديد حلولاً دائماً وأبديًّا.

وقد أوضَح بطرس الرسول أمر عمومية حلول الروح القدس واتساعه في العهد الجديد، عندما كان مزمعاً أن يُعمِّد كرنيليوس، إذ قال: «فَإِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ الْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضاً بِالسَّوِيَّةِ مُؤْمِنِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ اللهَ؟» (أع 11: 17). ومن ثَمَّ صارت الخطية وعدم الاستعداد القلبي وحدهما هما العائق الوحيد الذي يمكنه أن يفصلنا عن الله، ويحرمنا من عمل روحه فينا؛ ذلك لأنَّ الخطية هي التي تُحزِن الروح وتُطفئ عمله داخل الإنسان؛ كقول بولس الرسول: «لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ» (1تس 5: 19)، «وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ» (أف 30:4). أمَّا الآن فقد أعطى الله الروح القدس للجميع بغنى وبلا حدود، حسب قول يوحنا المعمدان في الإنجيل: «لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللهُ الرُّوحَ» (يو 3: 34)، وصارت هذه العطية (أي حلول الروح القدس) عطية أبدية لا تُن‍زع منَّا. ويؤكِّد لنا الربُّ يسوع على عمومية هذه العطية ومجَّانيتها بقوله عن الآب: «فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ» (لو 11: 13).

ضوابط حلول الروح القدس في العهد القديم، ومجانية حلوله في العهد الجديد:

في العهد القديم، كانت الطهارة الجسدية الكاملة شرطاً للتقدُّم والظهور أمام الله، لنوال مواهبه ونِعَمه، أو حتى إتمام شرائعه وأحكامه ووصاياه. وكان ذلك يتمُّ بواسطة طرق وغسلات وطقوس كثيرة ومتنوِّعة. وإن لم تتحقق هذه الطهارة، فلا يقدر الإنسان أن يتراءى أمام الله؛ وبالتالي فإنه يُحرَم من نوال نعمة الله أو حلول الروح عليه، وربما حتى استحقاق سماع صوته واستلام وصاياه؛ كما حدث للشعب أيام استلام موسى للشريعة. فحلول الروح قديماً كان يتطلب حالة من الطهارة الدائمة والمتواترة وربما إتمام أعمال ونذور خاصة، كثيراً ما تكون غير متاحة للإنسان العادي لكي يُتمِّمها ويحافظ عليها لفترة طويلة، حتى يحلَّ روح الله عليه ويستمر معه لأَمَدٍ طويل.

أمَّا في العهد الجديد، فبعدما اغتسلنا بدم المسيح ونلنا روح الحياة بمسحة الميرون المقدَّسة؛ فقد تطَّهرنا بروح إلهنا الذي سكن بداخلنا - الذي هو روح المسيح - كما نقول في القداس الإلهي: ”وصيَّرنا أطهاراً بروحك القدوس“. فبحسب وعد الربِّ يسوع نفسه فنحن الذين اتَّحدنا بالمسيح، وصرنا شركاء في آلامه وموته وقيامته المقدَّسة بالمعمودية؛ قد سكن فينا روح المسيح (يدين/ يمكث) وجعلنا أطهاراً ومقدَّسين لله. وصار حلول الروح القدس على المسيح في المعمودية ”الذي أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له“ (ثيئوطوكية يوم الجمعة) عربوناً لسُكنى روحه فينا؛ لأننا صرنا أعضاء في جسده المقدَّس. وبذلك يتمُّ قول بولس الرسول: «لكِنِ اغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلهِنَا» (1كو 6: 11). فالطهارة في العهد الجديد تتحقَّق فينا بفعل الروح القدس الساكن فينا، والذي نلناه في المعمودية المقدَّسة - من جهة - وتتحقَّق أيضاً فينا بقوة وفاعلية كلمات المسيح الحيّ الساكن بروحه فينا - من جهة أخرى - إذ يقول لنا الربُّ يسوع: «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ» (يو3:15). والخلاصة أنَّه يمكن القول بأنَّه لا توجد أي قوة خارجية أو أسباب مادية، أو حتى ضعف أو نجاسة جسدية، يمكن أن تمنع الإنسان أو تعوقه من التقدُّم لأسرار الله. كما لا توجد موانع أمام الروح القدس للسُّكنى في الإنسان فيما بعد؛ ما خلا خطية الإنسان الإرادية وعدم توبته عنها، ورفض الإنسان ومقاومته لعمل الروح القدس بإرادته وحده.

كذلك أيضاً، فبينما كان حلول الروح القدس قديماً يختصُّ بأشخاص أو مجموعات صغيرة، ولأغراض معيَّنة ولفترة محدَّدة، ثمَّ بعد ذلك يمكن أن يغادر هذا الإنسان أو هذه الجماعة؛ فإننا نرى الروح القدس في العهد الجديد قد صار عطية عامة متاحة لكل الذين يطلبونه من قلبٍ نقيٍّ بلا تمييز. كما صار حلوله دائماً وثابتاً فينا (يمكث) وبلا مغادرة. ولا يمنع الروح أو يعوقه عن سكناه وعمله في الإنسان سوى الخطية وعدم التوبة، كما ذكرنا. فحلول الروح القدس الآن هو حلول أبدي ليسكن ويعطي كل من يقتنيه روح الحياة الأبدية وعدم الفساد، بلا مانع ولا زمن محدَّد، بل لكي يصير فينا ينبوع حياة دائم ينبع إلى حياة أبدية.

بهذا تكون نبوءة يوئيل النبي قد تحقَّقت، بإفاضة الروح القدس (روح المسيح) على كل بشر بلا تمييز أو مانع، وهي أيضاً نفس وعد الربِّ يسوع أن يعطينا معزِّياً آخر يمكث معنا كلَّ حين، ويُعلِّمنا كلَّ شيء ويُذكِّرنا بكلِّ شيء، ويشهد لنا أمام العالم أننا أولاد الله: «بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ» (1يو4: 13).

ما هي ثمار سُكنى الروح القدس وثباته فينا؟

1 - يهبنا روح التسبيح والصلاة: كانت فئة الكهنة فقط - في العهد القديم - هي المنوط بها بمفردها التَّسبيح، وكان التَّسبيح للشعب شيئاً غريباً، فلا يُذكَر القول: ”يقول الشعب“، بل يقول الخورس أو المرنِّمون. أمَّا في العهد الجديد فقد صار الجميع مدعُوِّين للتسبيح. فالروح القدس هو من يهَبنا لسان التسبيح ومخاطبة الآب كبنين؛ ويؤهِّلنا أن نصرخ ونقول: ”يا أبا الآب“؛ فنستطيع أن ننضمَّ لخورس السمائيين. لأنَّ الله يضع تسبحته دائمة في أفواهنا - بروحه الساكن فينا - حيث أننا لا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يُعين ضعفنا، وينطق على ألسنتنا بكلمات التسبيح والتمجيد اللائق بالثالوث القدوس.

2 - يهبنا حياة القداسة: أصبح الإنسان في العهد الجديد - وبعد حلول الروح القدس - مقدَّساً في الرب. وصارت كلُّ الأشياء التي يعملها مقدَّسة. فبالروح القدس نصير أولاداً لله القدوس، كما كتب بولس الرسول قائلاً: «إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ اللهِ، مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ» (رو 1: 7)، وأيضاً يكتب في رسالته إلى أهل كورنثوس (انظر: 1كو 1: 2). وهذا لأننا قد صرنا في المسيح يسوع مُقدَّسين بروحه الذي يعمل فينا، لأنَّ الروح القدس يأخذ مِمَّا للمسيح ويعطينا.

3 - يهبنا حياة الطهارة والنقاوة: الروح القدس هو الذي يمنحنا أن نصير أطهاراً، وليس أي وسيلة أخرى، إذ يجعلنا بنعمته أهل بيت الله، ولا تستطيع أي قوة أن تمنع الروح القدس من الحلول والسُّكنى فينا. فلم تعُد الطهارة الجسدية شرطاً لحلول الروح، فبعدما حلَّ الروح القدس علينا أصبحنا جميعاً أطهاراً في المسيح يسوع؛ كما نصلي في القدَّاس الإلهي: ”وصيَّرنا أطهاراً بروحك القدوس“. لذلك لا يوجد أيُّ مانع يمكنه أن يقف عائقاً أمام حلول الروح أو التقدُّم للأسرار المقدَّسة؛ سوى عدم الاستعداد القلبي والخطية وعدم التوبة والرجوع عنها. فالروح يُعطي نفسه مجاناً وبلا كيل للذين يطلبونه، وهو الذي يُطهِّرنا ويُعدُّنا أواني مقدَّسة لحلوله وسكناه إلى الأبد.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis