في الذكرى السنوية
الرابعة عشرة
لنياحة أبينا الروحي
القمص متى المسكين
ذكْر الصدِّيق للبركة


الثالوث القدوس في حياة وكتابات الأب متى المسكين
- 6 -

( بدأنا بحث ”الثالوث القدوس في حياة وكتابات الأب متى المسكين“ في عدد يونية 2014 – صفحة 1، ثم في عدد يونية 2015 صفحة 1، ثم في عدد يونية 2017 صفحة 1، ثم في عدد يونية 2018 صفحة 1؛ ونستكمل هذا البحث في هذا العدد (يونية 2020م).

انظر المقالة السابقة في مجلة مرقس عدد يونية 2018.

ماهية الروح القدس كأقنوم إلهي في الثالوث المتساوي:

كان القديس أثناسيوس الرسولي أول مَنْ دافع عن لاهوت الروح القدس.

ودفاع أثناسيوس يقوم أساساً على إثبات الوحدة القائمة بين الثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس إنهم إلهٌ واحد.

على أن هذه الوحدة الجوهرية القائمة في الثالوث تتضح من وحدة العمل، فكما أن الابن لا يعمل شيئاً من ذاته، كذلك الروح القدس لا يعمل شيئاً من ذاته، وإنما كل عمل هو من الثالوث ”من الآب بالابن في الروح القدس“.

وقد كتب القديس أثناسيوس أربع رسائل عن ”الروح القدس“ موجَّهة إلى الأسقف سرابيون بين سنة 358 – 361م. وفي الرسالة الأُولى يهتم بلاهوت الروح القدس عامة، مستشهداً بآيات الكتاب المقدس ثم بالوحدة الكائنة بين الآب والابن والروح القدس، وهي الرسالة الخاصة التي سنركِّز عليها.

فتعاليم إنجيل القديس يوحنا الواضحة جدًّا عن شخصية الروح القدس كانت قوية ومدركة بالنسبة للإنسان الجديد ”مولودين من الماء والروح“ (انظر: يو 3: 5).

ثم ما جاء في سفر أعمال الرسل عن أعمال ومواهب الروح القدس التي تنطق بشخصية الروح القدس وقيادته بصورة حيَّة واقعية عملية، فهو يقود ويتكلَّم ويدعو وينتخب ويُرسل ويحكم ويمنع ويصرِّح ويملأ ويقوِّي كإله وكشخص حي يتعامل مع الإنسان.

- فكان خط الرسل الذي يعطي الإيمان الواضح المحدد عن شخصية الروح القدس الإله الكامل في الثالوث المساوي للآب والابن في المجد والكرامة والعمل، حيث ظلَّ هذا الخط هو الذي تعيشه الكنيسة وتمارسه بدون فحص.

- وحينما طُلِب من الكنيسة رسميًّا أن تقول رأيها في الروح القدس في كل المواقف الحرجة، قالته بدون تردد أو تفكير ولا إلى لحظة واحدة أننا نعبد إلهاً واحداً في ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح قدس في لاهوت واحد.

- والحقيقة أن خط الكنيسة التي كانت تحيا وتسير بالروح القدس لم يتأثَّر قط بخطّ العلماء والحكماء والمفكِّرين المحاجِّين، الذين كانوا يعيشون ويتخاطبون في أجواء البدع الوثنية. لأن كل بحث أو دراسة عن الروح القدس بدون معايشة فعلية تَقَويَّة للروح القدس لابد وأن تأتي بانحرافات.

فالقديس أثناسيوس الرسولي في القرن الرابع استطاع أن يقدِّم بتقواه واستنارته الروحية فكراً لاهوتيًّا مُبرهَناً ودقيقاً لماهية الروح القدس، في منهج مدرسي، جاء مساوياً تماماً وبلا أية زيادة أو نقصان لفكر الرسل والإنجيل البسيط ال‍مُعاش عن الروح القدس في جسم الكنيسة ووجدانها منذ أن عرفته الكنيسة حتى إلى ذلك الوقت.

- ... وفي تعاليم المسيح يركِّز على الروح القدس (يو 3: 1 – 8) باعتباره واسطة دخول ملكوت الله وباعتباره القياس الوحيد للعبادة بالسجود ”بالروح“ والحق، فإنه المصدر الوحيد لارتواء الإنسان لكي لا يعطش إلى تراب الأرض بل يصير في الإنسان ينبوع حياة أبدية (يو 4: 14 – 24).

وإن قبول الروح القدس بهذا الوصف يتوقَّف على الإيمان بالمسيح أولاً: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ (صُلِب)» (يو 7: 38 و39)، وأنه هو الباركليت أي المعزِّي والشفيع للإنسان (انظر: يو 14: 16).

- إن الروح القدس في التلاميذ وفي أولاد الله سيبكِّت العالم، أي يقف فينا ضدَّ قوى الشرِّ مؤازِراً لنا ومحامياً عنَّا (انظر: يو 16: 8 – 11). وإنه هو مصدر قوة البشارة، فمتى حلَّ على المختارين ينالون قوة من الأعالي للشهادة (انظر: أع 1: 8).

- يبتدئ سفر الأعمال بوضع الروح القدس في موضعه المستعلَن، مع تحديد عمله الشخصي في الكنيسة عوض المسيح تماماً: «أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يو 14: 16). هذا المعزِّي لا يقول ولا يعمل ولا يرشد إلا بما هو من المسيح ولأجل المسيح، فهو «لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ ... (بل) يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (انظر: يو 16: 13 و15). فسفر الأعمال يقدِّم الروح القدس كاستمرار لعمل المسيح في الكنيسة وبدونه يستحيل على الكنيسة أن تتكلَّم أو تتحرَّك أو تعلن المسيح: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا ”مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي ... لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهَودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ“» (أع 1: 4 - 8).

المسيح سيبقى في السماء ولكن الروح القدس سيدوم في الكنيسة على الأرض إلى حين انتهاء هذا الدهر، والمجيء الثاني للمسيح: «وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ» (أع 3: 20 و21). فالروح القدس هو في الحقيقة شخص الاتصال الدائم والحي والفعَّال بين المؤمنين وبين المسيح. فإذا كان المسيح واضحاً في القلب وكانت علاقة المؤمن بالمسيح صادقة وقويَّة وحيَّة وفعَّالة، كانت هذه علامة على وجود وعمل الروح القدس فيه.

فالروح القدس يعمل الآن عمل المسيح ويكمِّله فينا، أي يمنحنا الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح من أجلنا فيَهبه لنا ويثبِّتنا فيه.

والروح القدس نفسه يصفه القديس بولس الرسول من جهة هذا الأمر بأنه «رُوحُ الْمَسِيحِ» (رو 8: 9)، إمعاناً في التأكيد أنه يملك كل ما للمسيح، ويدرك كل ما للمسيح، وقادر أن يعطينا كل ما للمسيح، وما عمله المسيح، لذلك فبدون الروح القدس يستحيل الإيمان بالمسيح ولا معرفة أسرار المسيح ولا نوال قوة الخلاص والفداء اللذين أكملهما المسيح لنا.

(من كتاب القديس أثناسيوس ص 575 – 584 للأب متى المسكين)

+ «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يو 17: 3)

هنا يقرِّر المسيح في صلاته الأخيرة أن معرفة الآب والابن هي حقيقة الحياة الأبدية، والإيمان بالآب والابن هو الطريق الصاعد الذي يؤهِّل الإنسان للدخول إلى الحياة الأبدية. هذا هو ملخَّص الإنجيل كله.

ومعرفة الآب والابن تكون بانفتاح الذهن. وانفتاح الذهن رأس مال الإنسان المسيحي التقي، وهو يتم بنور كلمة الإنجيل باستضاءة روح الله القدوس. والمعرفة الحقيقية للآب والابن قائمة في جوهر المحبة: «عَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يو 17: 26)، آية استعلان حيٍّ، قالها المسيح كآخر ما كشفه من سرِّ الحب وسرِّ المعرفة!!

فالمعرفة والمحبة توأم الله. الأُولى تقود للثانية، والثانية تقود إلى الأُولى، والاثنان ميراث سماوي ورثناه من فم المسيح ومن روحه القدوس. واضح هنا أن معرفة اسم الآب فكَّ لغزَ الإيمان. ومعرفة اسم المسيح هو الذي فتح باب الطريق والحق والحياة، والاثنان أصبحا ميراث الإنسان بفضل الله. فمَنْ ذا الذي لا يعرف المسيح ولا يحبُّه؟ بل ومَنْ يعرف اسم الآب ولا يكون قد بلغ المنتهى في حب الآب والابن؟

نحن عُشَّاق حب الآب والابن، ولا نملك من الدنيا إلاَّ هذا العشق. فالدنيا ست‍زول، ويزول بزوالها كل مَنْ عشق الدنيا وأضاع حياته لها. أما نحن فقد جحدنا الدنيا وعشقنا الآب والابن، عشقاً صامتاً يغلي في صدورنا، كتمناه عن العالم إلى أن يكشفه الآب والابن في السماء.

ولكي يثق القارئ فيما نقول، فليُمعن النظر ويفتح عيني قلبه، ويقرأ ما قال يسوع بنفسه: «عَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يو 17: 26). هنا يزيد المسيح سرًّا من أسراره الخفية حينما يقول: «لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ ...!!». لأنه يستحيل أن يوجد حب الآب ولا يوجد المسيح.

فوجود حب الآب يفيد وجوده هو، أي وجود الآب، ووجود الآب يستحيل أن يتم بغير وجود المسيح ...!! (والروح القدس طبعاً، لأن الروح القدس يأخذ مما للمسيح ويعطينا)!

(تفسير إنجيل يوحنا 17: 26)

(الجزء الثاني صفحة 1092 و1093)

هيئة التحرير

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis