قصة رمزية


العنصرة يوم الخمسين

+ قصة مبنيَّة على ما وَرَدَ في سِفْر أعمال الرسل الأصحاح الثاني.

آه، عيد العنصرة. يسألني أُناس كثيرون عن ذلك في كلِّ مرة يتقابلون فيها معي. إني أَتذكَّر ذلك اليوم وكأنه البارحة فقط - على الرغم من أنـه حَدَث منذ عشريـن سنة أو أكثر منذ ذلك الحين. وكأن حقبةً جديدة من التاريخ على وشك الحضور، إنـه عصـر الروح القدس، وكـانت بداية جديدة - وأنا كنتُ هناك.

كـان عمري 19 عامـاً أو نحو ذلك، حينما وصلتُ إلى القدس مـن الجليل، لأَحضر عيـد الفصح. كنتُ مجرَّد فتى. وهذه هي السنة التي فيها صُلِبَ الرب يسوع. لقد ذُهلتُ، وانكسر قلبي من الحزن. وبعد موته على الصليب لم أَعُدْ إلى بلدتي منذ ذلك الحين. بل بدأتُ أتردَّد على بعض من أتباعه، ولكن وأنا مُتخفِّي. ثم في يوم الأحد، جاءت أخبار عـن أن الرب قـد قام مـن بين الأموات. ولذلك فقد بقيتُ في المدينة.

كانت تلك الأيام صعبة على الرب يسوع الذي بدأ في الظهور للرسل منذ أكثر من 3 سنوات. ثم بعد أربعين يوماً مـن قيامته صعد، أي صعد إلى السماء، في حضور تلاميذه الذيـن شاهدوه وهـو يرتفع عـن الأرض، إلى أن اختفى عـن أنظارهم في سحابةٍ ظهرت في السماء. كـان علينا أن ننتظر في المدينة، وقـد أَبْلغَنَا الرسل بهذا. كـانت هناك أحاديث عـن مجيء مـا يُسمَّى بـ ”القـوَّة“ و”الشهادة“ و”الروح القدس“. لذلك انتظرنـا، وكُنَّا حوالي 120 شخصاً. كُنَّا نجتمع معـاً في الصباح والمساء، وكنَّـا نتكلَّم ونسمع مـن الرسـل عـن ذكرياتهم الشخصية عـن أحاديث وعظات الرب يسوع ومعجزاتـه، وكنَّا نقرأ في مخطوطـات تحوي نبوَّات الأنبياء القدامى، وبعدها كنَّا نُصلِّي. وقد انتظرنا ما يقرب من عشرة أيام على هذا المنوال.

ثم في صباح يوم الأحد التالي، وعندما كنَّا مجتمعين معاً للصلاة في وقتٍ مُبكِّر - حوالي الساعـة الثالثة مـن النهار (الساعة التاسعة صباحاً بالتوقيت الحالي) أو نحـو ذلـك - إذا بعاصفةٍ تضرب المبنى الذي كُنَّا مجتمعين فيه، أو هكذا بَدَا لنا الأمر، كـان يمكننا أن نسمع هديـر الرياح.

وإذا بشخصٍ يصـرخ: ”يـا حبيبنا الرب يسوع“. ثم إذا بأَلسنة نار وقـد بَدَأَتْ تظهر في الغرفة، وتستقرُّ على رأس كـلِّ واحـدٍ منَّا على حِدة. وصـاح شخص آخر: ”يـا الله القادر على كـل شيء“. بطرس الرسول تلميذ المسيح كان يُصلِّي بصـوتٍ عـالٍٍ، ثم انضمَّ إليه الرسـل الآخرون. لقد كـان الأمر غريباً عليَّ وأنا أُفكِّر في ذلك. والريـاح التي كُنَّـا نسمع صوتها، والنيران النازلـة علينا، والتي لم تكـن تحرق، كانت تُمثِّل لنا مجد الله الذي حـلَّ على الجبل عندمـا ظهر لموسى وأعطاه الوصايا العشر.

وفي جميع أرجاء الغرفة كانت النيران تحلُّ على الحاضرين، ولكن دون أن تحرق الناس. وكما كانت تنزل، فقد بَدَا الأمر وكأنها أَخٌ أو أَخت لنا ولا تؤذينا. كان الفرح يغمر وجوهنا، والدموع بالطبع كانت تنحدر على خدودنا، والشكر يملأ شفاهنا على عطية الله الغالية وهي تنحدر مـن السماء إلى مـا داخل قلوبنا. وكـانت أيـادي المؤمنين مُمتدَّة لتستقبل مـن الله عطية الروح القدس. وكان الناس سعداءَ يفرحـون بالعطية، ويبكون بـإحساسهم بعدم الاستحقاق، وكانوا يركعون سُجَّداً لله المُعطي المانح العطية مجاناً.

ثم لمستني واحدة من هذه الألسنة النارية، ولأول مرة أشعر أيضاً بحلول الروح القدس المُعزِّي داخل نفسي. وحقّاً أنا لا يمكنني وَصْف ذلك، إلاَّ بأنني شعرتُ بانسكابِ نيرانِ الروح داخل أحشائي. سعيدٌ أنا، وشبعان. مُنفطرٌ بفَرَح روحيٍّ لا يمكن التعبير عنه. وبكلمة واحـدة: ”مُمتلئ“ فرحاً!

أمَّا أصوات الحاضرين فكانت مُدْهشة أيضاً. قبل لحظاتٍ امتلأ الجوُّ بأصواتٍ عاصفة. أمَّـا الآن فكـانت الغرفة مليئة مـن لَغَط الأصوات: بعضها بصوتٍ عالٍ، وبعضها بأصواتٍ هادئـة، ولكن كلَّها كانت مُكثَّفة. لم تكن أصواتاً باللغة اليونـانية ولا باللغة الآرامية. ولكن بَـدَا الأمر وكأنها لغاتٌ مُتعدِّدة تخرج من شِفاه البعض بقوَّة، بفرح، ولكن مختلفة. لقد انسكب الروح الإلهي في الساحة الآن، وجَذَبَ مزيداً من الانتباه. وبما أنَّ عيد العنصرة هو أكبر عيد من أعياد اليهود، فقد كان هناك عشرات الآلاف مـن الحُجَّاج في المدينة مـن جميع أنحاء العالم.

لم أكن أعرف ما كنتُ أقوله، لكني شَعَرتُ بأني أُقـدِّم صوتي بلُغتي إلى الله، إنه مجرَّد التحدُّث إلى الله للتعبير عـن الامتلاء والفـرح، شعـرتُ بهمـا في داخلي. وكمـا كنتُ أَتحدَّث في عـالمي الصغير الخـاص بي، إذا بـالناس الحاضريـن يبدأون في التجمُّع للاستماع، وكل واحد كان يسمع اللُّغة التي يتكلَّم بها الآخرون. جاءت عـائلتان ثم ركض بعضٌ منهم لينضمَّ إلى آخريـن، وسرعان مـا كـان هناك مئات مـن الأشخاص يتجمَّعون في مجموعاتٍ من حولي. وأخيراً، بَـدَا لي أن كلَّ واحدٍ كان يسمَع الكلمات باللُّغة الخاصة به. ووقفتُ هناك والفرح يرتسم على وجهي.

شخصٌ منهم كان يُكلِّمني بلغةٍ لم أكن أعرفها. وسألته: ”ماذا؟“، أجبتُ باللغة اليونانية، والجميع يعرف بعض اليونانية.

وقال ”لا تتوقَّف!“.

- ”لا أتوقَّف عن ماذا؟“.

- ”لا تتوقَّف عن قول أشياء جميلة أنت تتكلَّم بها عن عظمة الله وخلاصه الأبدي. وأنا لم أسمع قط مثل هذا الكلام في لغة الكبادوكيين“.

فتساءلتُ: ”لغة الكبادوكيين؟“.

فأجابوا قائلين: ”نعم، ألستَ أنت من كبادوكيا مثلنا هنا؟“. وأشـاروا إلى أولئك الذيـن تجمَّعوا حولنا، فهززتُ رأسي.

- ”إنها مثلما تقولـه عنها المزامير، ولكنك تقولها بلُغَتِنا. جميلٌ جـداً أن نسمع هذا الكلام في لغتنا الأُم! كيف يمكنك أن تعرف لغتنا؟“.

كنتُ على وشك أن أُجيب، ولكن شخصاً مـا كان يعبُر في الساحة وهو يصرخ: ”لابد أنكم سُكارَى“. وتقدَّم بطرس رسول المسيح يُحاول التعامُل مع هذه الظاهرة. فصعد على دَرَجِ أحد المنازل في الساحة التي تعجُّ بالحجاج، وأومـأ للناس ليكونوا هادئين.

ورفـع بطرس الرسول يـده قائلاً: ”نحن لسنا سُكارَى، أيها الإخوة والأخوات. إنها فقط الساعة الثالثة من النهار (أي الساعة التاسعة صباحـاً بالتوقيت الحديث)، ولكن ما نشهده هـو تحقيق لنبوءة يوئيـل النبي: "إن أبناءكم وبناتكم سوف ينسكب عليهم روح الله ويتنبَّأون". لقد حلَّ علينا روح الله القدوس، كما قال لنا الرب يسوع إنه سوف يكون“.

وتكلَّم بطرس كثيراً مما لا أستطيع تذكُّـرَه، ولكن كان الحشد منتبهاً لكلِّ كلمة ينطقها الرسول بطرس: «هذا يسوع الذي أنتم صَلبْتموه»، وكان يُشير إلى الحُجَّاج الساكنين في أورشليم. وتابَعَ: ”لقد أقامه الله من بين الأموات ومجَّده ورفعه إلى السماء“.

وكـان يمكنك سماع تلهُّف السامعين. كانت القناعـة مُسيطرة على جميع الواقفين في أنحاء الساحة. وقام شخصٌ ليصيح قائلاً: ”ماذا علينا أن نفعل لكي نخلُص؟“.

ودون أيِّ تردُّد، أجاب بطرس قائلاً: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم (على اسم يسوع المسيح) لمغفرة الخطايا، وسوف تنالون الروح القدس، لأن الوعد هو لكم ولكلِّ أولادكم ولكلِّ الذين هم على بُعْدٍ (أي الذين ليسوا معنا الآن)، كلُّ من يدعوه الربُّ إلهنا».

ووقف شخصٌ يسأل بطرس الرسول: ”أين؟“، ”أين يُمكننا أن نتعمَّد؟“.

وصاح واحدٌ: ”في بِرْكة بيت حسدا“. وصاح آخر وقال: ”هناك الماء في بركة بيت حسدا“. وهكـذا بـدأ الحشد يتحرَّك في هـذا الاتجاه في جميع أنحاء المدينة. ومن خلال الشوارع الضيِّقة، اندفع هـذا الحشد الغريب يتدفَّق بالآلاف، حتى وصلوا إلى مياه البِرْكة. وقفوا خمسات وعشرات على حواف البِرْكة العميقة وحولها.

وكان بطرس الرسول هناك منذ أن سمع هذا النداء، ودعا الرسل للانضمام إليه في بِرْكة المياه، وظلُّوا هناك. كلُّ ما كنتُ أَسمع كان البكاء من البعض، والتنهُّد العميق مـن البعض الآخر، والفرح من البعض الآخر.

ونظر بطـرس الرسول إلى الجموع المُلتفَّة حول البِرْكـة وتحدَّث بهدوء: ”هذه هي معمودية التوبة باسم يسوع الناصري، الذي أقامه الله من الأموات ومجَّـدَه ورَفَعَه إلى السموات العُلا“. وبينما كانوا يَتعمَّدون كان يقول لهم: ”أنا أؤكِّد لكم أن خطاياكم قد غُفِرَت وقد صرتم محبوبين لدى الله على حدٍّ سواء. وسوف تنالون عطية الروح القدس الذي رأيتموه وقد حلَّ علينا هذا اليوم“.

ودعا الناس إلى المجيء إلى البِِرْكة، فجاءوا بالعشرات. وصار هو والتلاميذ يُعمِّدونهم. وصار يعلِّمهم قائلاً: ”سوف تعودون وقد صرتم أبناءَ الله العَلي والوارثين لملكوت الله“.

في جميع أنحاء بِرْكة بيت حسدا، رأينا في ذلك اليوم الآلاف، وقـد حَسَبَ أحـد الأشخاص عددهم فوجدهم ثلاثة آلاف شخص كانوا يُسبِّحون الله ويُمجِّدونه. أنا لا أعرف ما إذا كانوا يتحدثون بألسنة أم لا!

وأنا أعلم أنه في ذلك اليوم، وفي هذا المكان، كانت لُغات جميع بلاد المسكونة حاضرة. كان يبدو وكأنها حَمَلت تسبيح كل شعوب العالم نحو الله العَليِّ، الذي أَنْعَم بـالخلاص وبـالفرح الذي أتى به روحُه القدوس على عموم الناس العاديين الذين طلبوا الله، من أورشليم الى كبادوكيا، ومن كلِّ شعوب العالم الذين حضروا يوم الخمسين.

عيد العنصرة! نعم، عيد العنصرة. صار ذلك اليوم الذي بدأ الله فيه أن يَسكُبَ روحه القدوس على الجميع، والذي لم يتوقَّف انسكابه منذ ذلك الحين. وعلى مرِّ السنين رأيتُ الروح يأتي في نواحٍ كثيرة. في بعض الأحيان، وفي مثل ذلك اليوم، كانـوا يُعيِّـدون لحلول الروح القدس عليهم بهدوء، وفي ابتهاج. إنـه هـو حضور الروح القدس، روح الله، إنه هـو الذي يعمل، وليس عواطفنا ولا لأيِّ بِرٍّ أو صلاح فينا؛ بل أصبح هـو الذي يبثُّ فينا برَّ الله وصلاحه وليس لنا فضل من أنفسنا.

عيد العنصرة! نعم، كنتُ هناك، ولم أرَ له مثيلاً منذ ذلك الحين.

**************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار
بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:
21.130.153
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر - فرع نادي القاهرة **************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis