الكنيسة
هذا الشهر



نياحة ديديموس الضرير
(313م - 18 يونية 398م)
(11 بؤونة / 18 يونية)

مدير مدرسة الإسكندرية:

وُلِدَ ديديموس حوالي عام 313م، وفَقَدَ بصره في الرابعة من عمره. فلم يتعلَّم في مدرسة؛ وإنما بسبب وَلَعِـه بالتعليم، اخـترع الحروف البارزة بالنحت ليقرأها بإصبعه. وبهـذا فقد سبق برايل بحوالي خمسة عشر قرنـاً في استخدام الحروف البارزة لفاقدي البَصَر.

لقد حفظ الكتاب المقدَّس والتعاليم الكنسية عن ظهر قلب، كمـا نبـغ في النحو والبيان والفلسفة والمنطـق والريـاضة والموسيقى. وشهـد عنه القديس جيروم قـائلاً: ”تعلَّم الهندسة أيضاً التي تحتاج إلى النظر أكثر من غيرها، فكان أُعجوبة لكل ناظرٍ إليه، وذاع اسمه في كلِّ مكان“.

وبعـد نياحـة مقاريـوس مديـر مدرسـة الإسكندرية، لم يتردَّد القديس أثناسيوس الرسولي في تسليم مسئوليـة إدارة مدرسـة الإسكندريـة للعلاَّمة ديديموس (346 – 398م).

وقـد تتلْمَـذ على يديـه أو على كتاباتـه كثيرون، منهم: غريغوريوس اللاهوتي، جيروم، روفينوس، وبالاديوس. وأشار إليه القديس جيروم كمُعلِّمٍ له، ومَدَحَ تعليمه، وشهد لأَثره على الفكر اللاهـوتي في الغرب والشرق. كمـا دعـاه روفينوس: ”النبي“ و”الرجل الرسولي“.

مع القديس أنبا أنطونيوس:

كـان ديـديموس صديقاً حميماً للقديس أنبا أنطونيوس. وإذ شرعـا، ذات يوم، بالتحدُّث في الكُتُب المقدَّسة، سأله أنبا أنطونيوس ثلاث مرات: ”ألعلَّك لا تحزن لأنـك كفيف البصر؟“. فأجابه ديديموس: ”إنني أحزن على ذلك جدّاً“. فقال له القديس أنطونيـوس: ”إنني مُتعجِّبٌ لحُزنـك على فقدانـك مـا نشترك فيه مـع أحقر الحيوانـات كواسطة للإحساس، إذ ليس لديها مـا تحسُّ بـه غير البَصَر (المحسـوس)؛ ولا تفـرح مُتعزِّيـاً، لأن الله وهبك بصيرة أخرى لا يَهَبها - تقـدَّس اسمه - إلاَّ لمُحبِّيـه. فـأعطاك عينين كـأعين الملائكة تُبصر بهما الروحيات، بـل وبهما تُدرك الله نفسه، ويسطع نوره أمامك، فيُزيل كـل ظلام في قلبك“. فتعزَّى ديديموس كثيراً بكـلام القديس أنطونيوس، وصار يتذكَّره كل أيام حياته.

وقد نَقَلَ نفس هذا الفكر القديس جيروم، عندما بعث برسالة تعزية لراهبٍ ضرير.

نُسْكه:

اجتذب العلاَّمة ديديموس مُعاصريه، لا بعلمه فحسب، وإنمـا بنُسْكه أيضاً، فغالباَ مـا عـاش كمُتوحِّدٍ.

زاره القديس أنطونيـوس عـدَّة مرَّات. كما زاره بـالاديوس أربـع مـرَّات في فترة عشر سنوات، وقد رَوَى قصتين، قائلاً:

1. مرَّةً، إذ طلب مني أن أُصلِّي في قلايته، ولم أُحقِّق طلبه، فرَوَى لي هـذه القصة: دخـل أنطونيوس هذه القلاية للمرَّة الثالثة لزيارتي، وإذ سألتُه أن يُصلِّي، ركـع في الحال ليُصلِّي، ولم يضطرني إلى تكرار الطَّلَب، مُقدِّماً لي مَثَلاً في الطاعة. والآن إنْ كنتَ تودُّ أن تقتفي آثاره - كما يبدو عليك - إذ تعيش في خلوة بعيداً عن الأهل طالباً الفضيلة؛ فابْعِدْ عنك روح المُقاومة.

2. أخبرني أيضاً الآتي: ذات يوم بينما كنتُ أُفكِّر في حياة الشَّقي يوليانوس الإمبراطور، وفي كونه مُضطهِداً؛ اضطربتُ للغاية حتى أني لم أَذُق خُبزاً إلى ساعةٍ متأخِّرة من المساء، وإذا بي أرى خيولاً بيضاء تجـري، وكـان راكبوهـا يهتفون قائلين: ”قولـوا لديديموس إنَّ يوليانوس قد مات اليوم الساعـة السابعـة. قُمْ وكُـلْ، وأرسل إلى أثناسيوس الأسقف لكي يعرف هو أيضاً ما قد حدث“. واستطرد يقول: وقد دَوَّنتُ الساعة واليوم والشهر، واتضح لي أن ما قيل هو صحيحٌ.

دفاعه عن أوريجانوس:

نشر ديديموس دفاعاً عن كتاب أوريجانوس ”عـن المبادئ De Principiis“. وقـد أظهر فيه خطأ الذين يتهمون أوريجانوس بالضلال، مُعتَبِراً أن هذه الاتِّهامات هي مجرَّد أوهام لا قيمة لها؛ فيقول: ”الذين يتَّهمون أوريجانوس بالهرطقة هم عديمو الفَهْم، ليس لهم قُدرة على إدراك الأفكار العالية والحكمة الغامضة التي امتاز بهـا ذلـك الرجل العظيم الذي يُعَدُّ من النوابغ المشهورين“.

ديديموس والهراطقة:

عـاش ديـديموس في القرن الرابع في فترة ظهرت فيها البدعة الآريوسية، وبصفة خاصة في مدينة الإسكندرية ذات الحساسية الخاصة أكثر مـن غيرها بالنسبة لهذه البدعة. لذلك كان عُنف الهراطقـة وكيفيـة تعقُّب الكنيسـة لهم لدَحْض آرائهم، صورة انطبعت في ذاكرته. فكان يقول عـن الهرطقة إنهـا: ”تَهَجُّمٌ على الحـقِّ، كَذِبٌ مؤذي، خيانةٌ للتقليد، تحويرٌ للعقيدة، عدم تقوى“.

كمـا استخدم بعض الإشارات مـن الكتاب المقدَّس، بطريقةٍ رمزيـة، ليُشير إلى الهراطقة، فقال مثلاً عنهم في تفسيره لسفر زكريا: ”إنهم الرصاص الثقيل والغشَّاش والكاذب. هم الأفاعى التي تَسـدُّ آذانها. هم الأقـواس التي تتكسَّر في أيدى الرعاة. أولاد الوثنيين (اليونـانيين). الرعاة المُخادعون. هم الأوثان ذاتها“.

ضد آريوس:

قـال المؤرِّخ سقراط: ”كـان ديديموس عند الناس حِصْناً منيعاً وسنداً قويّاً للديانة المسيحية حتى قبل أن يتولَّى رئاسة المدرسة اللاهوتية. ويُحْسَب خِصْماً عنيداً كَسَر شوكة أتباع آريوس، وأَفحمهم في مناظرته معهم“.

كتاباته:

+ عن الروح القدس: الأصل اليونـاني مفقود، لكـن الترجمة اللاتينية للقديس جيروم موجودة.

+ ضد أتباع ماني: يتكوَّن هذا العمل من 18 فصلاً صغيراً، وهو موجود باليونانية.

+ كتاباتٌ أخرى: في كتابه ”عـن الثالوث“، أشار ديديموس إلى عملٍ آخر من وَضْعه يُسمَّى ”الكلمة الأول“. كما يُشير ديديموس إلى مقالة: Sanctorum Voluman في كتابه عـن ”الروح القدس“ - 12: 5. وجـاء في كتابات المؤرِّخ سقراط أنَّ ديديموس خصَّص عملاً للدفاع عن كتاب أوريجانوس: ”عن المبادئ“. ويُشير الأب يوحنا الدمشقي إلى عملَيْن آخَرَيْن لديديموس هما: ”عن الفلسفة“ و”التجسُّد“. كما حُفِظَتْ له بعض الأعمال تحت أسماء آباء آخرين.

الثالوث:

[مَـن يتصل بالروح القدس يتقابل حالاً مـع الآب والابن. ومَـن يشترك في مجـد الآب يكون له هذا المجد من الابن بالروح القدس. فقد اتَّضح أنـه في كـل شيء توجد عملية واحدة بذاتها للآب والابن والروح القدس].

(”عن الروح القدس“: 17)

لاهوتي الروح القدس:

لم يكْتَفِ ديديموس بتخصيص الكتاب الثاني من ”الثالوث“ للحديث عـن الروح القدس؛ وإنما وضع كتاباً خاصّاً ”عن الروح القدس“. وقد لُقِّب بـ ”لاهوتي الروح القدس“.

وقد أكَّد ديديموس، مراراً وتكراراً، أنَّ الروح القدس خالقٌ وليس مخلوقاً. كما تحدَّث عن انبثاق الروح القدس من الآب وحده.

[ينبثق الروح القدس من الآب، ويستقرُّ إلهيّاً في الابن] (”عن الروح القدس“: 3).

[من المستحيل لأيِّ واحدٍ أن يطلب نعمة الله، إنْ لم يكن لديه الروح القدس الذي فيه يتضح أنَّ كلَّ عطايا الله مُتَضَمَّنة فيه].

(”عن الروح القدس“: 9).

[يُجدِّدنـا الروح القدس في المعموديـة بكونه الله، وبالاتحاد مع الآب والابن يردُّنا من حالة التشويه إلى حالـة الجمال الطاهـر. وهكذا يملأنا بنعمته، فلا نعود نستطيع أن نفتح مجالاً لأيِّ شيء لا يتأهَّل مع محبتنا.

إنـه يُحرِّرنا من الخطية والموت وأمور الأرض، ويجعلنا بشراً روحيين شركاء في المجـد الإلهي، أبناء الله الآب وورثـة له. إنـه يُشكِّلنا على صـورة ابـن الله، ويجعلنا شركاء معه في الميراث وإخوته، نحن الذين نتمجَّد معه ونملك معه.

فهو يَهَبنا السماء عِوَض الأرض، ويمنحنا الفردوس بيدٍ سخيَّةٍ، ويجعلنا أكثر كرامة مـن الملائكة، ويُطفئ بمياه جُرْن المعمودية نيران جهنم التي لا تُطفَأ] (”عن الثالوث“ – 2: 12).

نياحته:

عاش العلاَّمـة ديديموس مُتبتِّلاً، ولم يحصل طوال حياتـه على أيَّـة درجة كهنوتية. واستمرَّ مديـراً لمدرسة الإسكندريـة اللاهوتية ما يربو على خمسين عاماً.

وخلال هذه الفترة، ذاع صِيْته كمُفسِّر بارع للكتاب المقدَّس، فأَقبل إليه مشاهير الرجال مـن الغـرب، ليستمعوا إلى تعاليمـه، وليتتلمذوا على يديه. وقد تنيَّح بسلام في 18 يونية سنة 398م، عن عمرٍ يُناهز الـ 85 عاماً.

بركة صلاته تكون معنا، آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis