|
|
|
+ «لا تُحزنوا روح الله القدوس، الذي به خُتمتُم ليوم الفداء» (أف 4: 30).
+ «لا تُطفئوا الروح»
للأب متى المسكين
الإنسان المسيحي مجاهدٌ بالدرجة الأولى, يتقلَّد ”سيف الروح الناري“ منذ أول لحظة يخرج فيها من ماء المعمودية كمولودٍ جديد: «هو يُعمِّدكم بالروح القدس ونـار» (مت 3: 11).
فالإنسان المسيحي يقوم في هذا الجهاد والسيف لا يُفارِق يده، والنار لا تُفارِق عقله وقلبه حتى آخر لحظة من حياته؛ ساعة أن يَستودِع الجسد للتراب الذي أُخِذَ منه, مُضمَّخاً بعِطْر المحبة الخالصة الكثيرة الثمن, وتنطلق الروح في نصرة الروح والتهاب الحب واستنارة الحكمة, لتحيا إلى الأبد وتُسبِّح في حضرة خالقها.
في ساعات نصرة الجهاد الواعي تحتضن النعمة الإنسان وتُلذِّذه بثمرات الحب الإلهي ونور المعرفة الفائقة, فيحس الإنسان أنه أسعد خليقة على الأرض, بل ويُضاهي الملائكة في سعادته ودالَّته مع الله. في هذه الساعات يفرح الروح القدس بالإنسان جداً.
ولكن حينما ترتدُّ النفس وتنحصر تحت حماقة غرائزها الطبيعية وهيجان اللاشعور, وينبطح الإنسان في أرض المعركة ويتعدَّى وصايا الحب الإلهي؛ ينحصر الروح القدس داخل القلب ويكتئب جداً, إذ تتوقَّف رسالته الأولى والعُظمى: رسالة الحب الإلهي, ويصبح خلاص الإنسان في خطر, ويتعطَّل عمل الفداء.
وهنا يقف الصديق الأعظم للإنسان حائـراً قلقاً حزيناً: «لا تُحزنوا روح الله القدوس، الذي به خُتمتُم ليوم الفداء».
وأمام جهالة الإنسان هذه وحماقته الشديدة, حينما يطرح الحكمة خلف ظهره وينبذ الرزانة والوقار، ويتدانى إلى مستوى البهيمية أو ما دون, ويدخل عقله في منطقة الظلمة راضياً مستسلِماً لأهواء الهوان صائراً في ذِلةٍ واحتقار؛ يرتدُّ الروح القدس إلى خلف، وينطفئ نوره في القلب, ويتوقَّف لسانه الناري في العقل, فلا يُسمَع له صوت فضيلة ولا حركة نعمة ولا فعل إحراق وتطهير: «لا تُطفئوا الروح» (1تس 5: 19)!
كلُّ خطيئة ضد المحبة هي خطيئة ضد الآب وضد الابن، وضد الروح القدس بالدرجة الأولى، لأنه هو الذي يقود الإنسان إلى حضن الآب والابن. وبالتالي, فكلُّ عداوة وكل بُغضة وكل حقد وكل حسد وكل مذمَّة وكل دينونة وكل احتقار أو إهمال وامتهان للآخرين، هي خطايا موجَّهة ضد عمل الروح القدس ورسالته, وهي كفيلة بأن تجعله في غَمٍّ وحُزنٍ واكتئاب, مع أنه هو المُتكفِّل بتعزية الإنسان!! علماً بأن حُزن الروح القدس هو بعينه الذي يرتدُّ على الإنسان شعوراً بالخيبة والمرارة والجفاف الشديد, إن كان في القراءة أو الصلاة أو الخدمة, مع وجع في القلب وغُصَّة أشبه ما تكون بغُصَّة الموت! لأنه إذا ضاع الحب والعزاء من قلب الإنسان، فماذا يتبقَّى له؟
كذلك, فإن كلَّ خطيئة ضد الحكمة والحق والرزانة هي خطيئة ضد الروح القدس, وبالتالي فكلُّ خطيئة ضد العفة والقداسة، وكل كذب أو افتراء، وكل تصاغُر وخِفَّة في السلوك أو التدبير، هي خطايا موجَّهة ضد الروح القدس مباشرة, لأنه هو المتكفِّل بتلقين الإنسان «كل الحق», وهي كفيلة بأن تَطغَى على نوره وعلى تأجُّجه واشتعاله في القلب حتى تُطفئه. فإذا انطفأ الروح القدس في القلب، فماذا يتبقَّى للإنسان إلاَّ ظلام وبرودة! فلا إلهام ولا فهم ولا مشورة ولا حكمة, بل تخبُّط في الجهالة وفقدان هدف الحياة، فيتخبَّط الإنسان ولا يعرف إلى أين يسير!
وهكذا فإنَّ الروح القدس إذا أُحْزِنَ بالأعمال والأقوال التي هي ضد المحبة، وأُطفئ بالأعمال والأقوال التي هي ضد الرزانة والحق, لا يتبقَّى للإنسان أي مصدر للعزاء أو الرجاء, ولا أي ملجأ يلتجئ إليه, ولا أي مُعين يستصرخ نحوه. لذلك يقول الرب إن الخطيئة ضد الآب تُغفر والتي ضد الابن تُغفر أيضاً, ولكن التي ضد الروح القدس لا تجد لها منفذاً ولا غُفراناً!! لأن الروح القدس هو الذي يمسك بيد الإنسان ويقوده بالحب وبالحق إلى حضن الابن ثم إلى حضن الآب!!
والآن إذا عُدنـا إلى قائمة الخطايا التي يسردها بولس الرسول في رسالته إلى أفسس وفي رسالته الأولى إلى تسالونيكي باعتبار أنها خطايا تُحزن الروح القدس وتُطفئه, نجدها في مجملها تنقسم بوضوح إلى قسمين واضحين: خطايا ضد المحبة وخطايا ضد الحق؛ وخطايا تُحزن الروح القدس وخطايا تُطفئ نوره ولهيبه.
وهنا نرجو القارئ أن يقرأ بتؤدة وبفحص:
أولاً: كل الآيات الواردة في أفسس 4: 14-32؛ 5: 1-21.
ثانياً: كل الآيات الواردة في 1تس 5: 15-24.
1 - «كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم، بحيلة الناس, بمكرٍ إلى مكيدة الضلال. بل صادقين في المحبة، ننمو في كلِّ شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح, الذي منه كلُّ الجسد مُركَّباً معاً، ومُقْتَرِناً بمُؤازرة كلِّ مفصل، حسب عملٍ، على قياس كل جُزءٍ، يُحصِّل نموَّ الجسد لبُنيانه في المحبة».
«فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا في ما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم، إذ هم مُظْلِمُو الفكر، ومُتجنِّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم. الذين - إذ هم قد فقدوا الحِسَّ - أَسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع. وأمَّا أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا, إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتم فيه كما هو حقٌّ في يسوع، أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسانَ العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور, وتتجدَّدوا بروح ذهنكم, وتلبسوا الإنسانَ الجديد المخلوق بحسب الله في البِرِّ وقداسة الحق».
«لذلك اطرحوا عنكم الكذب، وتكلَّموا بالصدق كلُّ واحدٍ مع قريبه, لأننا بعضنا أعضاءُ البعض, اِغضبوا ولا تُخطئوا. لا تغرُب الشمس على غيظكم، ولا تُعْطُوا إبليس مكاناً. لا يسرق السارق في ما بعد، بل بالحرى يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يُعطي مَـن له احتياجٌ. لا تخرج كلمةٌ رديَّةٌ من أفواهكم, بل كلُّ ما كـان صالحاً للبنيان، حسب الحاجة، كي يُعْطِيَ نعمةً للسامعين. ولا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتُم ليوم الفداء. ليُرفَع من بينكم كلُّ مرارةٍ وسَخَطٍ وغضبٍ وصياحٍ وتجديفٍ مـع كـلِّ خُبثٍ. وكونوا لُطفاء بعضُكم نحو بعضٍ, شفوقين مُتسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح».
«فكونوا متمثِّلين بالله كـأولادٍ أحبَّاءَ. واسلكوا في المحبة كما أحبَّنا المسيح أيضاً وأَسْلَمَ نفسه لأجلنا، قُرباناً وذبيحةً لله رائحةً طيِّبةً».
«وأمـا الزنا وكلُّ نجاسة أو طمع فلا يُسمَّ بينكم كما يليق بقدِّيسين، ولا القباحة، ولا كلام السَّفَاهة والهَزْل التي لا تليق, بل بالحرى الشكر. فإنكم تَعْلَمون هذا أنَّ كلَّ زانٍ أو نجس أو طمَّاع - الذي هو عابدٌ للأوثان - ليس له ميراثٌ في ملكوت المسيح والله. لا يَغُرَّكم أحدٌ بكلامٍ باطل, لأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية. فلا تكونوا شركاءهم. لأنكم كنتم قبلاً ظُلمةً, وأمَّا الآن فنورٌ في الرب. اسلكوا كأولاد نـور, لأن ثمر الروح هـو في كلِّ صلاحٍ وبرٍّ وحقٍّ, مُختبرين ما هو مَرْضيٌّ عند الرب. ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة, بل بالحرى وبِّخوها, لأن الأمور الحادثة منهم سرّاً، ذِكْرُها أيضاً قبيحٌ. ولكن الكلَّ إذا تَوبَّخ يُظهَر بالنور. لأن كلَّ ما أُظْهِرَ فهو نورٌ. لذلك يقول: ”استيقظ أيها النائم وقُمْ من الأموات فيُضيء لك المسيح“».
«فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء, مُفتدين الوقت لأن الأيام شريرة. من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء, بل فاهمين ما هي مشيئة الرب. ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة, بل امتلئوا بالروح. مُكلِّمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية, مترنِّمين ومُرتِّلين في قلوبكم للرب. شاكرين كلَّ حين على كلِّ شيء في اسم ربنا يسوع المسيح، لله والآب. خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله».
2 - «انظروا أن لا يُجازي أحدٌ أحداً عن شرٍ بشرٍّ، بل كلَّ حين اتْبعُوا الخير بعضكم لبعض وللجميع. افرحوا كلَّ حين. صلُّوا بلا انقطاع. اشكروا في كلِّ شيء، لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم. لا تُطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوَّات. امتحنوا كلَّ شيء. تَمسَّكوا بالحَسَن. امتنعوا عن كلِّ شِبْه شرٍّ. وإله السلام نفسه يُقدِّسكم بالتمام, ولتُحفظْ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملةً بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح. أمينٌ هـو الذي يدعوكم, الذي سيفعلُ أيضاً» (أف 4: 14-32؛ 5: 1-21؛ 1تس 5: 15-24).
ونحن نجد أن اهتمام بولس الرسول بسرد قائمة هذه الخطايا بكل تدقيق وكل وضوح وفَهْم، لا ينبغي أن يَعْبُر عليها القارئ بخِفَّةٍ، كمجرَّد قراءة. فهذه هي جذور الهلاك التي توطَّنت في النفس وتسبَّبت في موت كثيرين، وبرودة كثيرين، وانصداد الكثيرين عن الصلاة وعن حبِّ الكلمة والقراءة.
لينظُر كل واحد فينا أي جذر من هذه الجذور تتغذَّى عليه نفسه, لأن ذلك يكون حتماً هو عِلَّة مرضه وتلف ضميره والسبب المباشر لضعف إرادته, لأن كلَّ خطيئةٍ من هذه الخطايا كفيلة أن تُحزن الروح القدس أو تُطفئه داخـل القلب, فيقطع عـن القلب - إن آجلاً أو عاجلاً - موارد حرارة الحب والنور والحق!
والمطلوب الآن، كعملٍ سريع أو كإسعافٍ أوَّلي، أن نقف طويلاً أمام أي خطية يكون قد تربَّى لها خلْسَة سلطان على الفكر أو الجسد, وبصراخ شديد ودموع وتوسُّل لدى الروح القدس نطلب مزيداً من حساسية الضمير ضد هذه الخطية, لأن ذلك هو بمثابة أقل ترضية للروح القدس, حتى يلتهب مرة أخرى ويشتعل القلب بحرارة الحب الإلهي ونور الحق, فنستطيع أن نقف ضد سلطان الخطية التي أحببناها وملَّكناها على القلب برغم وجود الروح القدس!!
هنا يلزمنا أن نفهم جيداً أن الروح القدس هو صديق حقيقي - وقت الشدة والضيق والمذلَّة - لأن الصديق الحقيقي هو مَن يحزن لسقطة الإنسان وتَدنِّيه في الأعمال المُهينة, والروح القدس أشد مَن يحزن على ضياع خلاص الإنسان؛ ولكنه صديق، ليس فقط يحزن وحسب, بل هو مُعين قوي جداً يستطيع أن يمسك بيد الإنسان ويُقيمه من كل سقطة, بل ومن أعماق الموت, ويغسله بدم المسيح, ويرفع عنه عار أشنع الخطايا, ويُقدِّمه للمسيح كابن أو كجذوة منتَشَلَة من النار, لأنه خالقٌ ومُحيي.
والروح القدس بقدر ما تُحزنه أصغر الخطايا وتُطفئه أقل حماقة, فهو أيضاً تسترضيه أقل أعمال التوبة وأصغر أنواع الجهادات, إذا قُدِّمت بثقةٍ كاملة فيه, مع إخلاص نية وصِدْق ضمير وانفتاح شجاع لتقبُّل عمله وتعزيته.
الروح القدس وديعٌ حقّاً ولطيفٌ غاية اللُّطف, يحتمل كل جهالات الإنسان بأكثر مما يفتكر الإنسان. فهو يبقى على إخلاصه وحبِّه وتودُّده للإنسان, حتى ولو أحزنَّاه سبعين مرة سبع مرات كل يوم. لأن العودة إليه - بتوبة ودموع ونية صادقة - تسترضيه غاية الرضا.
وهو - على طول المدى - لا يجمع لنا رصيد تعدِّيات، بل يجمع لنا رصيداً من الترضيات؛ يحفظ لنا كل أعمال الندامة والتوبة، ولا يحفظ لنا شيئاً من أعمال قساوة القلب والجهالة عندمـا نعود إليه, لأنـه وديعٌ ومتواضع القلب حقّاً، فهو يأخذ مِمَّا للمسيح ويُعطينا (راجع يو 16: 15،14).
(1975)