للأب متى المسكين



عيد الخمسين
والامتلاء من الروح القدس(1)



2:2 «وصارَ بغتةً من السماءِ صوتٌ كما مِنْ هبوبِ ريحٍ عاصِفَةٍ وملأ كلَّ البيتِ حيثُ كانوا جالِسِينَ».

الروح القدس يُعلِن عن نفسه علناً آتياً من ”السماء“، هذه أول آية ???????، والإعلان يجيء مُعبِّراً عن طبيعة الروح الخاصة حسب قول الرب عنه: «الريح (?????? = الروح) تهبُّ حيث تشاء» (يو 8:3). ومن هنا كان «الروح» و«الريح» يحملان اسماً واحداً تمادياً في فهم طبيعة الروح القدس. والاسم بالعربية واضح التقارُب: روح وريح، أمَّا باليونانية فهو كلمة واحدة ?????? = الروح = الريح ومنها ???? التي جاءت هنا.

وقد جاءت ?????? في سفر حزقيال (9:37) بالتعبير الذي يجمع عمل الروح وعمل الريح معاً: «فقال لي: تنبَّأ للروح ??????، تنبَّأ يا ابن آدم وقُلْ للروح، هكذا قال السيد الرب: هلمَّ يا روح من الرياح الأربع وَهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا». ويُلاحِظ القارىء هنا التقارُب بين الروح والريح، وقوله للروح هُبَّ وكأنه للريح تماماً.

«من السماء صوتٌ كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت»:

فليتنبَّه القارىء أنها لم تكن ريحاً طبيعية(1)، ولا هواء ولا أية حركة طبيعية(2)، ولكن صوتاً من السماء. فالصوت هو الذي ملأ البيت كله، أي كان مسموعاً من جميع الموجودين في البيت أنه آتٍ من السماء. والأرجح جداً أنه لم يكن صوتاً تسمعه الأُذن الطبيعية؛ بل الأُذن الروحية المُهيَّأة أن تسمع للروح ولحركته الداخلية، حتى أن القديس مار أفرآم السرياني(3) يقول: ”إنه ملأ البيت برائحة عَطِرَة“، وطبعاً هذه الرائحة هي للذين يستنشقون الروح القدس ويُميِّزونه. والصوت أو الرائحة الذي أو التي تملأ كيان الإنسان، ليس من الضروري أن يكون للجميع بدرجة واحدة، ولا هو لازمة من لوازم الروح القدس الحتمية، تأتي بمجيئه وتذهب بذهابه؛ بل إن الروح القدس أراد أن يُعلِن عن نفسه وعن وجوده وعن اندفاقه داخل النفس البشرية ويستحوذ على حواسها، وذلك للتأكيد الشديد على صدق وجوده وصدق عمله، حتى يُثبِّت الإيمان به والتعلُّق بوجوده. وهذا واضح من قوله «بغتة» (= فجأة)، فهو لم يَسْرِ من غرفة إلى غرفة، بل انطلق من فوق ليملأ الكل مرة واحدة ليحسَّ الجميع أنه افتقاد قد جاء من السماء.

وما جعلهم يشعرون شعوراً طاغياً بحلوله بهذا الصوت وهذه المفاجأة دون أن يخافوا أو يتزعزعوا، هو أنهم كانوا في حالة صلاة عميقة، صلاة دامت عشرة أيام وهي على أشد ما يمكن من الانتباه والانتظار.

«وملأ كل البيت»:

هنا لأول مرة نسمع عن أن الروح القدس يملأ المكان. والمكان هو المكان الذي كان يجتمع فيه الرب مع تلاميذه وأحبائه في أعياد الخمسين التي مرَّت. وها الروح القدس يُدشِّنه اليوم بحضور نفس التلاميذ والجمع الذي حضر لصلاة العيد، التي فيها يصومون حتى تنتهي الصلاة في الساعة العاشرة صباحاً، ليجتمعوا ويتناولوا الأغابي معاً. هنا تقدَّس البيت والجميع والطعام معاً، كنيسة مكتملة الصورة والرب في وسطها حسب الوعد:

+ «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 20:18).

+ «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 20:28).

3:2 «وظهَرَتْ لهم ألسنةٌ مُنقسِمةٌ كأنَّها من نارٍ واستقرَّتْ على كلِّ واحدٍ منهم».

هذه هي الآية ??????? الثانية. إذن، فقد اكتملت مظاهر الروح القدس، الريح والنار، فإن كان الريح يكشف عن طبيعة الاختفاء المنبثَّة في الروح القدس: «الريح تهبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب؟ هكذا كل مَنْ وُلِدَ من الروح» (يو 8:3)، فهنا سماع الصوت الشديد الذي يُعبِّر عن حلول الروح لأداء مهمَّته الخطيرة، ثم ظهور النار ليكشف عن طبيعة الروح وطبيعة الأداء الذي سيؤديه الروح كروح إحراق وتطهير: «جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض، فماذا أُريد لو اضطرمت» (لو 49:12).

وهذان معاً يدخلان ليُكمِّلا الصورة والموضوع الذي سبق الرب وأعلن عنه لتلاميذه، أنهم سيُعمَّدون بالروح القدس، وحسب قول المعمدان: «هو سيُعمِّدكم بالروح القدس ونار» (لو 16:3). وهو لم يقل: ”ألسنة من نار“، بل «كأنها من نار ??????????????????»، فهي تحمل شكل النار وليس فعلها الطبيعي الحارق: «إلهنا نار آكلة» (عب 29:12)، تأكل الخطية وتأكل كل ما ينحاز ضد الله أو برِّه أو قداسته أو عدله فلا يوجد، وذلك لحساب طبيعته البارَّة القدوسة العادلة. ففعل نار الله إيجابيٌّ، هو يحرق السالب ليزداد الإيجابي، ليزداد البر والقداسة والحق والعدل.

وحينما يقول: «استقرَّت على كل واحد منهم (أي من الاثني عشر)»، فهذا يعني أن الروح الناري ارتاح في كيانهم الرسولي ليُحوِّله إلى كيان قدسي: «... أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم» (1كو 16:3)، يعمل فيهم ويعمل بهم بآنٍ واحد! لأنه قال بعد ذلك إنه لم يدخل فيهم بل ملأ كل واحد منهم!!

والملء بالروح هو احتلال الروح لكل الكيان ليصير كيان الإنسان كياناً لله، جسداً للمسيح!! الملء هو اتحاد: كيان بكيان. ومن هنا جاء التكلُّم بالألسن، فهو نُطق جسدي وروحي بآنٍ واحد، فعل بشري إلهي بآنٍ واحد، معجزة على المستوى البشري والإلهي بآنٍ واحد. بهذا يكون التلاميذ قد جازوا التعميد والتطهير والتقديس بواسطة الرب الحاضر غير المنظور وبروحه القدوس.

إذن، فقد وُلدت الكنيسة في أشخاص الاثني عشر! كياناً إلهياً واحداً، جسداً واحداً بأعضاء. فكما حلَّ الروح القدس على العذراء وظلَّلتها قوة العَليِّ حتى أن القدوس المولود منها دُعِيَ ابن الله الوحيد؛ هكذا خطب المسيح لنفسه عذراء عفيفة - بحسب تعبير القديس بولس – وحـلَّ عليها بروحه القدوس وأعطاها قوة من الأعالي، والمولود منها هو شعبه المقدَّس والمفدي، كنيسته الجامعة الرسولية، كنيسة الله الحي. وكما لَمَّا تعمَّد المسيح في النهر حلَّ الروح القدس واستقرَّ عليه بهيئة مجسَّمة مثل حمامة، تعبيراً عن عمل ووظيفة حمامة نوح بشير السلام على العالم بعد الطوفان؛ هكذا تعمَّدت الكنيسة بالروح القدس، وظهرت ألسنة الروح كنار منقسمة ومستقرَّة عليهم (على التلاميذ)، تعبيراً عن حلول الروح فيهم وتقديسهم وتطهيرهم، ثم العمل بواسطتهم.

ويلزمنا هنا التأكيد على أنَّ لا الريح ولا الألسنة ولا النار هي الموضوع الذي ننشغل به، بل الموضوع هو الروح القدس؛ أمَّا هذه كلها فهي آياته التي تخدم وجوده وعمله، لا كأنها طبيعته بل لتُظهر طبيعته غير الظاهرة.

4:2 «وامتلأَ الجميعُ من الرُّوحِ القدسِ وابتدأُوا يتكلَّمون بألسنةٍ أُخرى كما أَعطاهُم الروح أن ينطِقوا».

هنا نحن أمام ظاهرة جديدة لعمل الروح القدس، وهو الامتلاء الفورى مع النُّطق الفوري، إمَّا باللغة العادية، وإمَّا بلسان يُعطيه الروح القدس يكون غريباً عن لسان الشخص، وذلك كبرهان لعمل الله، أي معجزة تتناسب مع وظيفة التلاميذ الأُولى: وهي إمَّا الكرازة للعالم أجمع بلغاته المعروفة، والأمثلة توضِّح ذلك: «حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم، يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل» (أع 8:4)، وفي نفس الأصحاح: «ولَمَّا صلُّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلَّمون بكلام الله بمجاهرة» (أع 31:4)، وأيضاً: «وأمَّا شاول، الذي هو بولس أيضاً، فامتلأ من الروح القدس وشَخَصَ إليه (إلى عليم الساحر) وقال: ... فالآن هوذا يد الرب عليك فتكون أعمى...» (أع 13: 11،9)؛ وإمَّا بلغة أخرى غير لغة الكارز وهي التكلُّم بالألسنة، وسيجيء ذكرها.

«وامتلأ الجميع من الروح القدس»:

في البداية يتحتَّم أن نعرف أن هناك ملئاً بالروح القدس يتمُّ في المعمودية مرة واحدة. كما يوجد ملءٌ آخر بعد المعمودية يتكرر كلما شاء الروح واحتاج الكارز.

الملء الأول في المعمودية هو تقديس هيكل الإنسان للسُّكنى والإقامة: «أَمَا تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم» (1كو 16:3)، وهذا الملء هو الذي يُؤهِّلنا للشركة مع الروح القدس والمسيح، وبالتالي في عضوية الجسد أي الكنيسة.

أمَّا الملء المتكرر فهو زيارة مُفاجئة للروح القدس تتم في حدود عملية معينة يضعها الله على كاهل الكارز لإعلان حق الله والشهادة للمسيح.

كما أن هناك فرقاً بين حلول الروح القدس في القديم على الأنبياء والملوك، وهذا قابل أن يُفارِق من يحلُّ عليه؛ وبين حلول الروح القدس في العهد الجديد، فهو للعمل في الداخل وهو الملء، وهذا قابل للإحزان وقابل للإطفاء. أمَّا الذي يزدري به فلا خلاص له بل يوضع للهلاك.

والتكلُّم بالألسن أو اللسان له أشكال متعددة، فهنا في سفر الأعمال جاء بأوضح صورة وأقوى مفاعيله، حيث يتكلَّم الرسول بلغة لا يعلمها وينطقها دون إرادته، فهذا إعلان صارخ عن وجود الروح القدس ونشاطه واشتراكه في الشهادة بقوة. لذلك سبق المسيح في إنجيل القديس يوحنا وقال: «ومتى جاء المعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم ... فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً (بآنٍ واحد)...» (يو 15: 27،26).

كما أنَّ هناك تكلُّماً بالألسن بلغة غير مفهومة تحتاج إلى مترجم كما قرأنا في (1كو 14: 28،27). كذلك يوجد أيضاً تكلُّم بلسان لا يفهمه أحد ولا يفهمه صاحبه وهو مجرد انفعال بالروح، كما يوجد تكلُّم باللسان مزيَّف من الأرواح الشريرة، لذلك يقول القديس يوحنا: «أيها الأحباء، لا تُصدِّقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم» (1يو 1:4). أمَّا الاختبار فهو التأكيد من أن هذه الأرواح تشهد للمسيح وتنطق بعظائم الله.

«وامتلأ الجميع»:

«الجميع» هنا هم الاثنا عشر، وهم فقط الذين يُمثِّلون الكنيسة الرسولية الواحدة، أي الجسد الواحد، ولكن كل واحد نال هذا الملء، فهو ملء لكل رسول، ونفس الملء للاثني عشر. وهنا تظهر الوحدة المقدَّسة التي ربطت الكل في الواحد. والواحد هو الروح القدس والمسيح. هذه هي الشركة المقدَّسة بالروح الواحد في الروح الواحد، وهي بعينها الوحدة معاً وفي المسيح بالروح القدس: «أنتم فيَّ وأنا فيكم» (يو 20:14). وهكذا نفهم ونتيقَّن أن أصل وحدة الكنيسة هو الملء من الروح القدس لكل فرد كالآخر. نقول: ملء كل فرد من الروح القدس، وملء كل واحد كالآخر. هذا هو أساس سر الوحدة في الكنيسة، وبالتالي سر الشركة في المسيح. واضح أيضاً من هذا أن وحدة الكنيسة ليست وحدة مصنوعة أو مركَّبة، بل وحدة إلهية مصدرها الملء من الروح القدس من فوق الذي هو بعينه ملء التجديد، ملء الخليقة الجديدة. وبالنهاية يمكن الآن أن نقول بكل ارتياح ويقين إن وحدة الكنيسة هي بعينها الخليقة الجديدة ممثَّلة بالاثني عشر.

فإن كانت الكنيسة هي الخليقة الجديدة فهي الملكوت، ملكوت المسيح على الأرض الذي يضمُّ، بواسطة الرسل أو تعليم الرسل أي الإنجيل، كل الذين يخلصون ليكونوا بالنهاية مع المسيح كل حين.

وكل مَنْ امتلأ بالروح القدس بعد ذلك بتعليم الرسل والإنجيل، ثم بالمعمودية والصلاة مع الصوم والطلبة التي مارسها الرسل الاثنا عشر، كنموذج حتمي لِمَن يريد أن يحلَّ عليه الروح القدس ويملأه؛ فإنـه يتأهَّل للاتحاد بالمسيح، إذ ينال نفس الملء الذي في الكنيسة. فنقول عنه - بعد أن يشترك في جسد الرب ودمه - إنه اتحد بجسد المسيح، أي الكنيسة، وصار عضواً في الجسد الواحد، حتى أن القديس بولس تجرَّأ ونقلها نقلة واحدة غاية في العلو والسمو والسرِّية فقال: «لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه» (أف 30:5)!!

فالاتحاد ليس بالتصوُّر ولا بالعقل ولا حتى بالافتراض حسب منطوق الإيمان أو التعليم، ولكنه اتحاد واقعي صنعه المسيح في نفسه قبل أن يمنحه بالسر لنا، فقد اتحد لاهوتياً بلحمنا وعظامنا بتجسُّده، فصار لحمه لحمنا وعظمه عظمنا؛ وبالتالي صار بلاهوته متَّحداً بنا، فصرنا متَّحدين بلاهوته بعد أن اتَّحد هو بناسوتنا. وصدقت أُحجية الكنيسة التي نُردِّدها في التسبحة: ”هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له، نُسبِّحه ونمُجِّده ونُزيده علواً“ (ثيئوتوكية الجمعة - الأبصلمودية السنوية)!! فإن كان هو الذي تنازَل وأعطانا، فكيف لا نتجرَّأ ونأخذ؟!

ولكي يُعلِن الرب عن امتلاء الكنيسة بالروح القدس الذي بحسب وعده المبارك أنه - أي الروح القدس - يأخذ مما له ويُخبر رسله القدِّيسين، قال: «مَنْ غفرتم خطاياه تُغفَر له. ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسِكَت» (يو 23:20). إذن، فالملء بالروح القدس تحدَّدت له وظائفه في الاثني عشر، والذين بدورهم سلَّموها لِمَنْ استأمنوهم على الروح القدس ووظائفه.

(1) Meyer, H.A.W. Crit. & Exeg. Handbook to the Acts of the Apost., Eng. ed., 1983, p. 43.
(2) Lightfoot, Neander - cited by Meyer, Ibid.
(3) Ibid.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis