في الذكرى السنوية الثامنة لنياحة قدس أبينا الروحي القمص متى المسكين |
|
|
+ ”سبق نشر الحلقة الأولى في عدد يونية 2013، من صفحة 14-19“.
في أواخر أيامه، كتب الأب متى المسكين، عـن الشيخوخة المستنيرة في كتابـه ”مـع المسيح“، الذي سجَّل في أجزائه الأربعة خُلاصة وزبدة خبراته ونظراته في الحياة:
- ”إنساننا الخارج استلمناه من الزمن. فكل إنسان يعرف تاريخ ميلاده، وكلما زاد الإنسان في العمر تتخلَّى عنه قوته قليلاً قليلاً دون أن يستشعر ذلك، إلى أن تأتي السنين فينظر الإنسان إلى حياته فيراها قد أكلتها السنين، ثم ينظر أمامه فلا يجد أملاً في الدنيا بعد. فإن كان قد اذَّخر في شبابه سنينَ أعطاها للمسيح في تقوى وقداسة وصلاة وخدمة وتسبيح، فإن أمله يتجدَّد، ويرى أن حياته إنما ابتدأت تأخذ جِدَّتها في المسيح وكأنه أصبح إنساناً جديداً بشبابه ورجائه ونظرته للمستقبل القريب والبعيد سيَّان، لأنه يسمع الصوت الآتي من فوق: تشجَّع فإنك عن قريب ستكون معنا. وهكذا يمتلئ سروراً عِوَضاً عن الحزن على الماضي، لأن الحياة في المسيح تُجدِّد شباب الإنسان فيزداد مع السنين حكمةً ونعمةً وقولاً سديداً، ويراه الناس فيُمجِّدون الله فيه، لأن الشيخوخة المستنيرة هبةٌ للعالم وتقييمٌ مريحٌ ومُحبَّبٌ للإنسان“.
+ فكيف ظهـرت حكمـة ”الشيخوخـة المستنيرة“ في تدبير الأب متى المسكين للرهبان في دير القديس أنبا مقار؟
التدبير الرهباني الحكيم للأب متى المسكين
كان التدبير الرهباني للأب متى المسكين لرهبان الدير مأخوذاً من سِيَر آباء الرهبنة القدامى رُوَّاد الرهبنة القديسين أنطونيوس ومقاريوس وباخوميوس.
وهذه هي مبادئ الرهبنة التي عاش عليها أبونا متى المسكين ودبَّر بها الرهبان في دير القديس أنبا مقار.
اقتران العمل بالصلاة:
+ ذَكَرَ أبونا مَغزى اقتران العمل بالصلاة لما سأله راهبان أجنبيان: ”كيف أعيش الصلاة الدائمة أثناء العمل الذي أُمارسه لأجل الطاعة“؟ فأجاب:
- ”في الحقيقة نحن اختبرنا ذلك بأقوى صورة، لأننا نعمل 12 ساعة يومياً. لقد اختبرتُ الوحدة في مغارة مدة 7 سنوات دون أن تُشغلني ولا حتى عصفورة واحدة، ثم وضع الله عليَّ مسئولية رهبان مع مسئولية مادية تفوق إمكانياتي وصحتي وأعصابي، وكنتُ أعود إلى قلايتي لكي أنام كما أنا، ولكن الروح كان قد عوَّدني أن أطيعه، فيقول لي: خمس دقائق فقط اغسل فيها وجهك وقدميك. فأفعل ذلك ثم أقف للصلاة فأجد أنَّ الجسد المُتعَب قد صار ناراً مشتعلةً ودموعاً لمدة ساعة أو ساعتين، ثم أشعر بالتعب فأجلس, وتظل الصلاة مستمرة، وحتى لو نعستُ أجد أن الصلاة مستمرة حتى الصباح“.
لذلك فقد كان يُوصي الرهبان أنهم مثل نحميا في العهد القديم ”باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأخرى يمسكون السلاح“ (نح 4: 17)، أما سلاحنا فهو سلاح الصلاة والهذيذ في كلمة الله، أي سلاح الروح.
دور العمل في التدبير الرهباني، كما مارسه أبونا متى مع الرهبان:
+ كان أبونا الروحي يَعتبر أن نجاح العمل متوقِّفٌ على الصلاة، فيقول:
- ”الراهب غير الحار روحياً في القلاية يكون عمله فاشلاً، والعمل الجسداني يكـون دائماً بالنسبة له ثقيلاً, ويُسبِّب مشاجرات لأيِّ سبب. والروحاني لا يكون أنانياً أبداً. والحرارة الروحية تُصلِح الجسديات، وتجعل العمل الجسدي مُثمراً. وأوفق معنى هنا هو: الحرارة الروحية تُوحِّد“.
- ”اليوم الذي تجد فيه حرارتك الروحية ضعيفة, وقد بردت الصلاة في قلبك, وسلامك الداخلي تبدَّد؛ احذر ثم احذر من أن تمسك عملاً عاماً أو أن تُعطي أوامر أو نصائح للآخرين، لأنها ستكون عديمة القوة، عديمة النعمة. والشيطان يستطيع أن يتكلَّم بفمك بسهولة في هذا اليوم، ويُسقطك في محظورات كثيرة. في هذا اليوم الزم الصمت والحزن على نفسك جاعلاً خطاياك أمام عينيك طول النهار“.
- ”الحار بالروح في الكنيسة وفي القلاية، حار في العمل أيضاً ولا يغضب من أجل عامل أو عمل. فالعمل يصير مصدر غضب وشقاق وأنانية بسبب الفتور الروحي الذي يُصيب الآباء بسبب عدم الطاعة. فعندما أقول مثلاً: راحة كل أسبوع؛ فأنا أقول ذلك مندوباً عن المسيح حتى لا يوجد شر وأنانية وتعب ولا يصبح النِّير ثقيلاً لا يُطاق، لأن العمل أصلاً كان عقوبة، فقد كان آدم قبل السقوط لا يعمل هذا العمل المُجهد، ولكن بسبب الخطية صارت الأرض تُخرِج شوكاً وحسكاً، وصار الإنسان يأكل خبزه بعرق الجبين. أما إذا تصالَح الإنسان مع الله يصير كآدم قبل السقوط، بأقل جهد يكون له إنتاج والخليقة تُطيعه“.
العمل والصلاة وحدة واحدة:
- ”الجمال هو أن يكون العمل والصلاة وحدة واحدة. ما أهمية العمل؟ فحتى ولو فسد, فالمهم أنك أنت ستنجح. لكنني واثقٌ أنك إن كنتَ عابداً وفَرِحاً وحاراً، فحتى لو تهاونت في شيء رغماً عنك، فإنَّ العمل ينجح! كما نُصلِّي في المزمور: «الأرض أعطت ثمرتها فليباركنا الله إلهنا» (من مزامير صلاة باكر - مزمور 66: 6 - حسب السبعينية). هذا هو مزمور الفرح الذي أُرتِّل به في العمل. وبعدما أتعب أُرتِّل للرب في القلب: «نعود بالفرح حاملين أغمارنا». هذا هو عزاؤنا، فالشغل الجسدي يكون على أساس الملء والفرح الروحي، وإذا لم يوجد الفرح والسلام تُهين وتفضح نفسَك، إذ تكون مُعَبَّساً مغموماً متضايقاً. عندما يكون هذا حالك, قِفْ تحت شجرة أو اذهب إلى قلايتك وارفع يديك وأنت تذوق القوة, كما فعل موسى النبي عندما كان يُدعِّم يديه اثنان يرفعانهما ويسندانهما. إننا محتاجون إلى تدعيم الروح القدس، وهو الذي يُدعِّم يدك. إذاً، فارفع يدك واغلق فمك وأنت ترى“!
خبرة أبينا الروحي في وصية الصلاة بلا ملل وسط العمل الشاق:
+ أما خبرة أبينا الروحي عن الصلاة بلا ملل وفي وسط العمل وبعده؛ فقد شرحها لبعض الضيوف (في يونية 1977) بحضور بعض الرهبان الذين دوَّنوا كلامه حيث قال:
- ”كنتُ في بداية رهبنتي أقرأ كثيراً هذه الآية: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُملَّ» (لو 18: 1)، ولم أفهم معناها إلاَّ بعد أن اختبرتُ فعلها وقوتها في حياتي؛ إذ أنه بعد يوم عمل شاق بالدير، حيث كنتُ أُشرف على العمال من السادسة صباحاً حتى السابعة مساءً، رجعتُ إلى قلايتي وأردتُ أن الرب يُعزِّيني ولو بكلمة. ففتحتُ الإنجيل وإذ بي أجد هـذه الآية أمام عينيَّ: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُملَّ» (لو 18: 1). إنني طلبتُ تعزيةً بعد جهدٍ شاق في العمل، وإذ بالرب يُطالبني بمزيد من الجهد على مستوى العمل الروحي والصلاة. فقلتُ بلجاجة: "يا رب، أتوسَّل إليك أن تُعطيني قوةً ومعونةً لكي أُنفِّذ هذه الآية التي تُطالبني بها في هذه الليلة". وبالفعل استرحتُ قليلاً ثم غسلتُ وجهي ووقفتُ أُصلِّي بعد أن صمَّمتُ ألاَّ أكفَّ عن الصلاة بمعونة الله مهما كانت الأسباب التي تُؤدِّي إلى الملل في الصلاة“.
- ”وبعد ساعةٍ تعبت قدماي سريعاً من الوقوف, وابتدأتُ أشعر بصداع ضاغط على رأسي، ولما دامت هذه الآلام لبعض الوقت شعرتُ بأن نفسي مدفوعة إلى الملل، ولكنني غصبتُ على نفسي وقلتُ: "مهما كانت الآلام فسأستمر في الصلاة ولن أتوقف قط". ويا للعجب مما حدث! فبعد وقت قصير جداً من هذا التصميم، تلاشت تلك الآلام تماماً؛ بل إنني وجدتُ أنَّ قوةً جبَّارةً تملأ كل كياني حتى استطعتُ بنعمة الله أن أقضي تلك الليلة كلها واقفاً في الصلاة وبحرارة وتعزية وخِفَّة فائقة! ورغم أنني كنتُ أعمل اليوم كله وقضيتُ الليلة كلها واقفاً، فلم أشعر بتعب إطلاقاً. ومن ذلك اليوم تأكَّدتُ أنه توجد قوة روحانية تُلازِم الوصية، ولا تُعطَى إلاَّ لمَن استطاع أن يُنفِّذها بأمانة ودقة وإصرار“!
كمال وغاية المحبة الأخوية في حياة الرهبنة:
+ يَعتَبر أبونا الروحي أنَّ كمال وغاية المحبة الأخوية، هو الاتحاد بالرب وبالقريب. فيقول عن محبة الراهب لأخيه التي تؤهِّله للاتحاد بالمسيح:
- ”قال مار إسحق ما معناه: "تستطيع أن تحصل على غِنَى الروح في الوحدة، أما الاتحاد بالمسيح فلا يمكن إلاَّ بمحبة القريب". محبة الأخ هي أن تُسهِّل له طريق خلاصه، ولا تُلقي معثرةً أمامه، وتسعى كل حين إلى ما هو لبنيانه روحياً، حتى تتَّحدا في المسيح“.
- ”الراهب مَدين لإخوته في المجمع، لأنه بواسطة أخيه يستطيع أن يتَّحد بالمسيح ويُكْمِل خلاصه. ولذلك فإنْ كنتُ أحب أخي، فهذا أمرٌ واجب وجوهري لخلاصي“.
- ”لذلك أصبح إكليل خلاصنا النازل علينا من فوق لا يستريح على أجسادٍ مُرفَّهة، نالت مـن العالم أمجاداً كاذبـة؛ بـل يستريح على أشخاص ذاقوا مرارة الضيق والآلام والاضطهاد، حيث تركت ضربات العدو علامات محفورة في أجسادهم“.
- ”لذلك أصبح من غير اللائق، بعد اليوم، أن نتأفَّف من الآلام أو نتهرَّب من مضايقة العدو والناس، لأن نصيب فخرنا في هذا الدهر هو آلامُنا التي نتكبَّدها فـرحين، إذ نُحسَب مـن المختارين الذين جُعلوا هدفاً للعدو، لأنـه إنْ كـان المسيح هـو حبيبنا الذي نتألَّم لأجله، فالشيطان هو عدونا اللدود الذي ينتقم من المسيح الذي فينا“.
- ”وهكذا أصبحت آلامنا وشدائدنا ليست محسوبة ضدنا، بل محسوبة لنا كنصرة، برغم أنف العدو. فالذي يتألَّم وهو مؤمن بالمسيح اعتُبِرَت آلامه حسب الكتاب موهبة، أي عطية من عند الله، تُهيِّئ الإنسان أن يكون شريكاً في آلام المسيح، فيُحسَب بالتالي مستحقّاً لرضا الله، ومُكمِّلاً لخطة خلاص يسوع المسيح؛ إذ تكون الشركة في آلام المسيح هي بمثابة شهادة إيمان، وعلَّة لانسكاب نعمة الله“.
الاستعداد للغروب البهيج والرحيل
رَفْضه المناصب الكنسية:
1. تعهَّد أبونا الروحي مع نفسه منذ بداية رهبنته ألاَّ يأخذ أية وظيفة أو رتبة كهنوتية، حتى أنه لما دُعِيَ لرسامته كاهناً في دير السريان، امتنع ورفض ذلك بشدَّة. ثم رُسِمَ رغماً عنه. (لذلك لم يكن يؤدِّي صلوات القدَّاس طيلة حياته إلاَّ ما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة).
2. وبعد انتقاله إلى دير القديس أنبا مقار عام 1969، طلب نيافة الأنبا غريغوريوس مقابلته لأمرٍ هام، وكان ذلك حوالي عام 1970. فلما وصل نيافته واستقبله أبونا متى (وكان أبونا متى المسكين في ذلك الوقت في بيت التكريس بحلوان)، بـادره أبونـا بقوله: ”أنت قادم لتعرض عليَّ رغبة قداسة البابا كيرلس أن يرسمني أسقفاً على لندن“. وبُهت نيافة الأنبا غريغوريوس وردَّ قائلاً: ”وكيف علمتَ بذلك؟ فهذا الأمر لا يعرفه أحدٌ إلاَّ قداسة البابا وأنا، ولا يعرفه أحدٌ غيرنا نحن الاثنين (كان قداسة البابا كيرلس يحجب مثل هذا الخبر عن آخرين حتى لا يحاول أحدٌ أن يُعطِّل تنفيذ مثل هذا الاقتراح)“. وقال أبونا متى للأنبا غريغوريوس: ”أعتذر عن هذا، لأني لستُ لهذه المناصب“. ومضى نيافة الأنبا غريغوريوس من عند قدس أبينا الروحي مُتعجِّباً كيف عرف أبونا الروحي بهذا الخبر.
3. وأيضاً لما رُشِّح للبطريركية عام 1971 ورفض، كان يضع أمام عينيه دائماً مبدأ القديس يوحنا ذهبي الفم القائل: ”عجبي على رئيسٍ يَخلُص“!
لذلك حينما عَلِمَ بهذا الترشيح عن طريق آخرين، جمع الرهبان وأَعْلَمَهم أنه غير موافق على ذلك إطلاقاً، وأنه سيترك الدير ليعتكف في مكانٍ بعيد لا يَعْلَم به أحدٌ، حتى يُصلِّي لكي يرفع الله عنه هذا النِّير الصعب. وبالفعل ترك الدير واختلى بعيداً مُصلِّياً بصراخ ودموع أن يعفيه الرب من هذه المسئولية الكبرى.
واستجاب الله لصلاته وفَرِحَ مُتهلِّلاً جداً لهذه الاستجابة. وفي تلك المناسبة كتب للرهبان قائلاً:
- ”أكتب إليكم رسالتي هذه باعتبارها تذكيراً لذهنكم لِمَا سبق أن قلته مراراً وتكراراً بينكم، أنَّ رسالتي في الحياة هي رهبانية خالصة، وأنني لن أقبل بأيِّ حال من الأحوال ترشيح نفسي لأيِّ منصب من مناصب الكنيسة، ذاكراً عهدي الأول في أول يوم وطأت فيه قدماي تراب الدير أن أكون وأبقى وأموت راهباً. لذلك اضطررتُ إلى أن أخلد إلى مكان هادئ بعيد لكي أقضي ما بَقِيَ من عمري أصلِّي وأبكي وأتوب حتى أموت. وأظن أن أحداً منكم لا يستطيع أن يُنكر حقِّي في الموت عن العالم والناس والصمت والبكاء“ (بتاريخ 28/3/1971).
+ ثم لمَّا سمع بخبر استبعاد اسمـه مـن قائمة المرشَّحين (كما ورد في كتاب ”السيرة التفصيلية“، ص 344،343)، كتب يقول:
- ”سلامٌ من الرب. السلام من الذي نظر إلى ذُلِّي وغربتي ومسكنتي، ونجَّاني من تجربة كانت كفيلة أن تُودِي بخلاصي وتؤذي خلاصكم جميعاً. له الشكر والحمد والتسبيح من قلب مُخْلِص سيظل يبكي فرحاً، ويشكر من خلال الدموع حتى آخر نسمة من حياتي. اليوم كُتب لرهبنتي عهدٌ جديدٌ، ليس كالعهد الأول الذي تحوطه أخطار الضلالة، وعلى الأقل إمكانيات الغش والحيلة لكي تتزكَّى نفسي عند أهل الدنيا، ثم تفقد، دون أن تدري، تزكية الناظر إلى المتواضعين. والآن أبدأ حياة كلها حرية، كلها أمل في رهبنة توحُّدية مطلقة معكم وبكم وفي وسطكم“ (بتاريخ 27/9/1971).
+ كما أنه أوصى الرهبان قائلاً:
- ”يا أحبائي، أُوصيكم بالغرض المستقيم الذي ابتدأتُ به في الأول، وهو أن نبيع أنفسنا للمسيح، ولا يبقى لنا غرض سوى تمجيد اسم الله، فتصير سيرتنـا في السموات... فيكون في نيتنا وضميرنـا أنَّ سيرتنـا سماوية ولا نريد شيئاً على الأرض، ويصير حبنا للمسيح وليس لمجد الناس“.
+ استمر أبونا متى المسكين في خدمته العُليا للديـر وللرهبنة والرهبان لمدة 37 سنة بلا كلل، حتى وصل الدير في مبانيه ورهبنته إلى ما وصل إليه، ببركة المسيح وشفاعة ومؤازرة القديسة العذراء مريم الدائمة البتولية وآباء الرهبنة القديسين الذين عاشوا بتوليتهم في أرجاء برية شيهيت.
+ وفي حديث أدلى به الأب متى المسكين لمندوبة وكالة آسوشيتدبرس في أول فبراير سنة 1976، سألته مندوبة وكالة الأنباء: مَن الذي سيخلفك بعد انتقالك؟ وكان ردُّه كالآتي:
- ”لقد كان جهادي وتركيزي الشديد واهتمامي أن أترك مبادئ وحياةً لكل واحـد يمكنه أن يحياها. وما نجحتُ فيه أنَّ الرهبان يستطيعون أن يتبنَّوا جميع ما لديَّ من مبادئ ومحبة وبذل وجهاد ودقة في الأمور المادية والروحية، لأني أُسلِّم النوعين معاً، وهذه نعمة من الله وموهبة أن أترك جماعة تعيش بمبادئ متآلفة. وهذا هو النجاح أن أترك مبادئ حيَّة للناس لتعيش بها“.
- ”ودائماً أقول إنَّ نجاح الإنسان يظهر بعد موته وليس في حياته. فإنَّ نجاح أي قائد يظهر بعد موته، فإن كانت العَجَلة تدور بنفس القوة، فيكون هذا القائـد قد عاش في الله، ومبادؤه كان يستلهمها من الله، واستطاع أن يُوصِّلها للآخرين. أما إذا كان سيترك شخصاً واحداً فقط، فهذه ستكون مجرد تلمذة عادية“(1).
الانطلاق والرحيل إلى المسكن الأبدي
+ وقبل نياحته بثلاث سنوات تقريباً، اعتكف أبونا متى المسكين، في استراحة الدير بالساحل الشمالي. وقبل انتقاله بثلاثة أسابيع أحسَّ ببعض الآلام في صدره. وفي المستشفى الخاص بالأستاذ الدكتور رشاد برسوم أحسَّ بقُرْب انتقاله، فترجَّـاه الدكتور رشاد بـالحضور للمستشفى الذي أسَّسه حتى تكون صحته تحت الملاحظة. فذهب أبونـا متى المسكين، وبعد ثلاثة أسابيع تقريباً طلب رؤية الدكتور رشاد، وذلك ليُقدِّم شُكره له. وظنَّ الدكتور رشاد أنه ينوي مغادرة المستشفى، لكنه صرَّح له قائلاً: ”يمكن لا أستطيع رؤيتك مرة أخرى“، وبعد يومين أَسْلَم روحه الطاهرة في يـديِّ الله وهو في المستشفى، فجر يوم الخميس الموافق الثامن من يونية 2006، ليلتقي بعريس نفسه وروحه التي هامت بـالمسيح واشتاقت إلى اللُّقيا الأبدية معه وجهاً لوجه والتي لا انفصـال فيها ولا بُعاد.
(1) (عن كتاب: ”أحاديث الأب متى المسكين“، ص 32، عن وكالة آسوشيتدبرس، في أول فبراير سنة 1976). وقد نُشر هذا الحديث أولاً في مجلة مرقس، أعداد: يناير، فبراير، مارس سنة 2007، قبل صدوره في هيئة كتاب، نُشر باسم: ”أحاديث الأب متى المسكين“.