تأملات في |
|
|
مَنْ هو هذا؟
”ابن الله“
إن إيماننا بأن الرب يسوع المسيح هو ابن الله يُعتبر المدخل والمفتاح لإيماننا بأن ”يسوع هو المسيح“، وبأن ”يسوع هو ربٌّ“.
+ والقديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى يُقرِّر: «مَن اعترف بأن يسوع هو ابن الله، ثَبَتَ الله فيه، وثَبَتَ هو في الله» (4: 15 الترجمة العربية الحديثة).
وقد اعترف آباء المجمع المسكوني الأول في نيقية الـ 318 عام 325م بأنَّ ”الابن مولود من الآب قبل كل الدهور، والذي به كان كل شيء“.
لقب ”الابن الوحيد“:
إن ما يذكره القديس بولس بأن المسيح هو: ”ابن الله الخصوصي idiou“ (رو 8: 3)، وما يذكره القديس يوحنا: «الابن الوحيد الذي في حضن الآب» (يو 1: 18)؛ يشيران إلى العلاقة الأزلية (أي قبل الزمن) بين الابن والآب. إنه الابن الوحيد الفريد، الابن غير المخلوق للآب، ويُسمَّى بلغة الإنجيل اليونانية monogenes. ويُعبِّر لقب ”الابن“ عن العلاقة الأزلية، اللازمنية، أي التي ليس لها نقطة بداية. وتزخر صلوات وألحان أسبوع الآلام بهذا اللقب ”مونوجينيس“.
+ ويقول الآباء القديسون بأن لقب ”الابن“ ”ليس اسم جوهر الابن ولا يُشير إلى عمل الابن، بل هو اسم "العلاقة" الأزلية بين الآب والابن، وبين الابن والآب“(1).
+ وقد استخدم المسيح في أحاديثه مع الناس لقب ”الابن“ و”الآب“ ليستعلن العلاقة الجديدة المعقودة بين الله والبشر بمجيء المسيح، لأن هذين اللقبين ”الآب“ و”الابن“ هما اللذان يُعبِّران في الحياة البشرية عن متانة ودوام العلاقة الحميمة بين أي أب بابنه وأي ابن بأبيه إلى الأبد. وهذه العلاقة في الحياة البشرية هي صورة لمَا يزخر به قلب الله نحو البشر باتِّخاذه إيَّاهم أبناء له بالنعمة في اسم ابنه الأزلي.
ليس سوى ”ابن وحيد للآب“،
”مونوجينيس“ واحد:
+ إنه الابن الواحد الوحيد للآب منذ الأزل ”مونوجينيس“، كما ورد في إنجيل يوحنا (3: 18،16): «هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه ”الأوحد“» (الترجمة العربية الحديثة). وهذا يُشير إلى أن الرب يسوع هو الوحيد الحامل لهذه الرتبة. بينما البنوَّة لله التي يشترك فيها المؤمنون باسم ابن الله الوحيد الأوحد، ليست بنوَّة جوهرية ذاتية خارجة من جوهر الآب مثل الرب يسوع، بل هي معتمدة على إيمانهم وعلاقتهم بالابن الوحيد للآب.
الابن الواحد بالطبيعة، متميِّز عن
الأبناء الكثيرين لله بالنعمة:
الـ ”مونوجينيس“ (الابن الواحد الأوحد) أتى ليُمهِّد ويمنح البنوَّة الإلهية للبشر، بحيث تختلف البنوَّة التي يمنحها الله للبشر ”كل المؤمنين الذين دُعوا أبناء الله بالنعمة“، عن بنوَّة الابن الواحد الأوحد لله، الشريك في نفس الجوهر الذي للآب، والذي من بنوَّته الأزلية نستمدُّ نحن بنوَّتنا لله بالنعمة.
+ إن بنوَّة الابن الأزلي لله هي بالطبيعة، بينما بنوَّة المؤمنين هي بالنعمة.
بنوَّة الرب يسوع للآب،
جعلت بنوَّة المؤمنين ممكنة:
لقد أرسل الله ابنه: «... حتى نصير نحن أبناء الله» (غل 4: 5)، ويُظهر القديس بولس في نفس الأصحاح أنَّ بنوَّتنا لله صارت بنوَّة شرعية من جهة المحبة ودالة البنوَّة بمناداة الله: ”أبانا“، ونوال الميراث أي الحياة الأبدية.
إن إرسال الله ابنه كان لكي يُدخِل البشرية إلى المصالحة مع الآب، وبالتالي إلى اتخاذ الله لهم أبناء بالنعمة(2).
فالمؤمنون بـإرسالية الله لابنه صاروا مدعوين «إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا» (1كو 1: 9). وهكذا صار المؤمنون بإيمانهم ومحبتهم مشتركين في هذه الشركة «مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 3)، «وبما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: ”أيها الآب: أبانا“. فما أنت بعد الآن عبدٌ، بل ابن، وإذا كنتَ ابناً، فأنت وارث بفضل الله» (غل 4: 7،6 الترجمة الحديثة).
قيامة المسيح أعلنت ما سبق التنبُّؤ به في
البشارة بميلاده، وفي معموديته عند الأردن
أنه ”ابن الله“:
هذا الذي أُعلن عنه في الوقت المناسب أنه ابن الله بالقيامة من بين الأموات، سبق التنبُّؤ به كابن الله في البشارة بميلاده، وحين مُسِحَ يوم معموديته عند الأردن.
لقد استُعلِنَ ابن الله بالقيامة من بين الأموات: لقد اشتقَّ القديس بولس عن تقليد شفوي سابق لكرازته إعلانه فيما بعد عن أنَّ ”يسوع المسيح ابن الله“ هكذا: «... عن ابنه الذي في الجسد (أي من جهة ناسوته) جاء من نسل داود، وفي الروح القدس ثبت أنه ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات، ربنا يسوع المسيح» (رو 1: 1-4 الترجمة الحديثة).
أي أننا نرى في الرب يسوع من جهة ناسوته أنه من نسل داود ”في الجسد“؛ بينما من جهة لاهوته هو ”ابن الله“ مستتراً ”في الجسد“، والذي أخيراً استُعلِنَ ابن الله بقيامته من بين الأموات. لذلك كان القديس بولس يضع قيامة المسيح في المقام الأول من رسائله، لأنه من خلال حَدَث القيامة من بين الأموات استطاع المعاصرون للمسيح أن يفهموا ويستوعبوا معنى كل الأحداث التي حدثت من قبل، ولم يكونوا يفهمونها.
في البشارة بميلاده أُعلِنَ أنه ابن الله: في أحداث البشارة بميلاد المسيح أُعلنت حقيقة شخصية المولود القادم، كما ذَكَرَ القديس لوقا في إنجيله. فبالرغم من أن بنوَّته لله لم تكن مُستَعلَنَة إلى حين قيامته من الموت، إلاَّ أن أول إعلان عن مجيء ”يسوع“ أعلنه الملاك المُبشِّر للقديسة العذراء مريم أنَّ «القدوس المولود منكِ سوف يُدعَى ابن الله» (لو 1: 35)، «ابن العَليِّ يُدعَى» (لو 1: 32). وهكذا تمَّ اتِّخاذ ابن الله الطبيعة البشرية، وسُمِّيَ هذا المولود: ”ابن الله“.
مُسِحَ ابناً لله عند معموديته: في قصة معمودية المسيح، أعلن صوت آتٍ من الأعالي: «أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 13-17؛ مر 1: 11؛ لو 3: 21-22). وقد ”شهد“ أيضاً يوحنا المعمدان عن الذي سوف «يُعمِّد بالروح القدس»: «وأنا قد رأيتُ وشهدتُ أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34،32).
لكن هذه الشهادة لا تعني أبداً أن يسوع قبل معموديته لم يكن ”ابن الله“، لكنه بالحري أُعلِنَ في وقت معموديته ما كان عليه دائماً منذ الأزل. وقد شهد بذلك القديس هيلاريون في كتابه عن الثالوث(3).
بنوَّة المسيح لله، والزمن:
في علاقة الآب والابن لا يوجد أي ذِكْر لزمن. فالابن لم يَصِرْ ابناً في زمن مُعيَّن، بل منذ الأزلية (أي منذ اللازمن) هو ابن. ولكن استُعلِنَ الابن المتجسِّد يسوع أنه ابن الله، وأكَّد على ذلك الصوت الذي سُمِعَ آتياً من السماء وقت معموديته. وقول القديس يوحنا في بدء إنجيله: «في البدء كان الكلمة»، يعني أنه موجود منذ الأزل، أي لم يكتب القديس يوحنا: ”صار الكلمة“، بل قال: «كان الكلمة»، ثم أَتْبَعَ هذا التقرير: «والكلمة صار جسداً». فكينونة الابن الكلمة هي أزلية (أي لازمنية)؛ أما تجسُّده فهو زمنيٌّ، أي ”صار“ إنساناً في الزمن المحدَّد.
وهذا يعني أن الابن هو ابن الآب سابقاً على التجسُّد. وهكذا قال بولس الرسول: «الله... أرسل ابنه» (رو 8: 3)، فهو مساوٍ للآب ومن نفس جوهره. إنها علاقة لا يمكن للبشر المربوطين بالزمن أن يسبروا غَوْرها أو فهمها، بل فقط يستطيعون الحديث عنها بفرح. إن كلمـة ”أزليـة“ كلمة غامضة على البشر، لأنها تعني ”مـا قبل الزمن“. فالبشر لا يعرفون إلاَّ صيغة ”الماضي“ و”الحاضر“ و”المستقبل“ في الزمن فقط؛ أما ”اللازمن“ فلا يمكن للبشر أن يفهموها أو يتصوَّروها! لا يوجد ما هو ”قبل“ الزمن إلاَّ الله الثالوث القدوس!
إرسال الابن إلى العالم:
في الإنجيل إعلان أن الابن هو الله، ومع الله، وعند الله (يو 1: 1-5). أما كَوْنه تجسَّد، أي اتَّخذ لنفسه جسداً، فإن ذلك يعني أن اللاهوت قد استتر وراء الجسد، بالطاعة حتى الصليب، لكنه استُعلِنَ إلهاً بالقيامة من بين الأموات.
الابن أُرسِلَ إلى العالم: الابن أُرسل إلى العالم ليُخلِّص البشرية: «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مُخلِّصاً للعالم» (1يو 4: 14). والابن هو «صورة ”رَسْم“ جوهره (جوهر الله)» (عب 1: 3). وصورة الجوهر متزامنة مع الجوهر الإلهي وغير منفصلة عنه.
حياة الابن المتجسِّد على الأرض هي حياة الطاعة: إنه الطريق الضيق. هذا الابن المتجسِّد تألَّم ومات: «مع كونه ابناً، تعلَّم الطاعة مِمَّا تألَّم به. وإذ كُمِّل (أي أكمل الطاعة إلى الموت) صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب 5: 9،8). لم يكن طريق بنوَّته المتجسِّدة سهلاً مُمهَّداً، بل طريقاً شاقّاً وضيقاً كضيق القبر. وعن نفس هذا الطريق الضيق يستطيع المؤمنون أن يدخلوا في البنوَّة لله، إذ يتعلَّمون الطاعة البنويَّة من خبرات التألُّم من أجل المسيح. لقد أُسلم الابن المتجسِّد إلى الموت، حاملاً خطايانا في جسده وهو الذي لم يفعل خطية قط، وصالحنا مع الآب، فصرنا أبناءً لله. وبهذه البنوَّة صار لنا ميراث الحياة الأبدية: «لأن المسيح، إذ كنَّا بعد ضعفاء، مات في الوقت المُعيَّن لأجل الفُجَّار... لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا... لأنه إن كُنَّا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأَوْلَى كثيراً ونحن مُصَالَحون نخلُص بحياته» (رو 5: 6-10)، حياته التي ننالها بـ ”الإيمان بابن الله الذي أحبني وأسْلَمَ نفسه لأجلي“ (غل 2: 20).
المسيح يسأل الفرِّيسيين عن المسيح: ابن مَن هو؟ إن هذا الابن المتجسِّد هو موضوع الكرازة والتعليم كواهب الخلاص. على أن هذا الخلاص متعلِّق على الإجابة الصحيحة على السؤال البسيط الصريح عن المسيح: ”ابن مَن هو؟“:
+ «وفيما كان الفرِّيسيون مجتمعين، سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن مَن هو؟ قالوا له: ”ابن داود“. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربّاً قائلاً: قال الرب لربي، اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك (مز 110: 1)؟ فإن كان داود يدعوه ”ربّاً“ فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يُجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتَّةً» (مت 22: 41-46).
وتعليقاً على حديث المسيح هذا، يحقُّ لنا أن نتساءل:
هل كان المسيح يحسُّ في نفسه
بأنه ابن الله؟:
لأنه حينما كان المسيح يُحاكَم بواسطة مجلس السنهدريم، لم يكن يرد على الأسئلة الموجَّهة له. ولكنه حينما وُضع تحت اليمين بقول رئيس الكهنة له: «أستحلفك بالله الحي»، ردَّ عليه هكذا:
+ «فأجاب رئيس الكهنة وقال له: ”أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله“؟ قال له يسوع: أنت قلتَ! وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء» (مت 26: 13-14).
أي أن السؤال المباشر الذي وُجِّه للمسيح: هل هو المسيح، أم أنَّ هناك واحداً آخرَ هو المسيح ابن الله أو المسيح ابن المبارك (كما ورد في إنجيل مرقس 14: 61)؟ ولقب ”المبارك“ هو صفة لله عند اليهود.
وقد أتت إجابة المسيح قاطعة لكل حيرة وشكٍّ: ”أنا هو“ (مر 14: 62)، أي أنه هو المسيح ابن الله، أو ”ابن المبارك“. وعلى القارئ أن يُقارن بين التوازي والمماثلة في ردِّ المسيح: ”أنا هو الذي أنتم تحاكمونني، ولكنكم فيما بعد سيُحاكمكم ابن الله أو ابن الإنسان الواقف أمامكم الآن وأنتم تحاكمونه“. ولكن الله وحده - أو ابن الله - هو وحده الذي في يده المحاكمة والدينونة الأبدية.
+ كما أنَّ ردَّ المسيح يُظهر التمازج والتوافق للقَبَي ”ابن الإنسان“ و”ابن الله“، والتكامُل والتفاعُل الروحيَّين بينهما لدى الكنيسة الكارزة. فابن الله أُعطِيَ السلطان أن يدين لأنه ابن الإنسان (يو 5: 27).
+ فالمسيح كان يحس في نفسه أنه ”ابن الله“ المتجسِّد، وفي الوقت نفسه كان يُخاطب الناس بلقب ”ابن الإنسان“، لأن هذه هي إرساليته أن يستقطب البشرية كلها في جسده لكي يمنحها كل ما أتمَّه ابن الله من مصالحة البشرية مع الله، ومغفرة الله لخطايا البشرية، ثم قيامة البشرية المائتة إلى الحياة الأبدية في جسده المُقام من الموت.
لقد أتى ابن الله إلى العالم لا لكي يدين العالم الخاطئ، ولا ليُهلك أنفس الناس؛ بل ليُوصِّل محبة الآب لكل البشر. وأخيراً، وكما قدَّم نفسه للآب كذبيحة فداء أدخلها إلى حضرة الآب في السماء؛ هكذا قدَّم البشرية كلها، التي هي جسده، للآب، باعتبارهم أبناء الله فيه. وهذه بعض تصريحات المسيح التي كانت البشرية تسمعها لأول مرة من فم ابن الله:
+ «الآب نفسه يحبكم، لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجتُ» (يو 16: 27).
+ «لا أعود أُسمِّيكم عبيداً... لكني سمَّيتُكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو 15: 15).
+ «لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).
+ «لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم» (يو 3: 17).
+ «أنتم أحبائي، إن فعلتم ما أوصيكم به» (يو 15: 14).
+ «أحب خاصَّته الذين في العالم، أحبَّهم إلى المنتهى» (يو 13: 1).
+ «وصية جديدة أنا أُعطيكم: أن تُحبُّوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تُحبُّون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً» (يو 13: 34).
+ «كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا» (يو 15: 12).
+ صلاة إلى الآب: «وليعلمْ العالم أنك أرسلتني، وأحببتَهُم كما أحببتني» (يو 17: 23).
(يتبع)
(2) John Chrysostom, Hom. on Gal. IV, NPNF, 1st Ser., Vol. XIII, p. 30.
(3) Hilary, Trinity, VI, 23-36, NPNF, 2nd Ser., Vol. IX, pp. 106-111.