طعام الأقوياء
- 27 -


«لأعرفه، وقوة قيامته،
وشركة آلامه، مُتشبِّهاً بموته»
(في 3: 10)

قيامة المسيح كانت قوة كائنة فيه منذ ولادته، لأنه وإن كان قد اتَّخذ جسداً قابلاً للموت، إلاَّ أنه لكونه قد اتَّحد لاهوته بناسوته اتحاداً كاملاً لم يفترق لحظةً واحدة ولا طرفة عين؛ لذلك فإنه في كل لحظة من لحظات حياته، وهو على الأرض، وحتى في موته، كان هو القيامة والحياة.
فقد ظهرت قوة القيامة في حياة المسيح في كل أعماله وأقواله، ولكن بصورة مستترة لا يلمحها إلاَّ الذين لهم عيون تُبصر وقلوب تعي وتُدرك.

لقد اتَّخذ الكلمة لنفسه جسداً قابلاً للموت، لأنه جاء لكي يبيد الموت، لأنه «إذ كان في صورة الله، لم يَحْسِب خُلْسةً أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صوة عبد، صائراً في شِبه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8،7).

وفي ذلك يقول القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه: "تجسُّد الكلمة":

[فالجسد (جسد الكلمة) لكونه من طبيعة البشر ذاتها، لأنه كان جسداً بشرياً - حتى إن كان قد أُخِذَ من عذراء فقط بمعجزة فريدة - لكن لأنه كان قابلاً للموت، لذلك كان لابد أن يموت كسائر البشر نظرائه. غير أنه بفضل اتحاده، فإنه لم يَعُد خاضعاً للفساد الذي بحسب طبيعته، بل بسبب الكلمة الذي حلَّ فيه فإنَّ الفساد لم يلحق به.

وهكذا تمَّ (في جسد المسيح) فعلان متناقضان في نفس الوقت: الأول: هو أن موت الجميع قد تمَّ في جسد الرب (على الصليب)؛ والثاني: هو أن الموت والفساد قد أُبيدا من الجسد بفضل اتحاد الكلمة به. فلقد كان الموت حتميّاً، وكان لابد أن يتمَّ الموت من أجل الجميع لكي يُوفي الدين المستحق على الجميع](1).

لقد ظل للموت سلطان لا يُقهر على كل إنسان، ولا يمكن أن يهرب أحد من الموت، فقد «وُضِعَ للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عب 9: 27)، «من أجل ذلك كأنما بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت. وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو 5: 12). ولكن «إن كان بخطية الواحد قـد مَلَكَ الموت بـالواحد، فبالأَوْلَى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرِّ، سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح» (رو 5: 17).

فالرب يسوع المسيح هو "قوة الله وكلمة الله، بل هو الحياة ذاتها"، «أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل مَن كان حيّاً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 25)، إذ يقول القديس أثناسيوس الرسولي أيضاً:

[فقد قام الجسد لأنه جسد ذاك الذي هو الحياة ذاتها](2).

فالكلمة المتجسِّد عندما يقبل أن يموت بالجسد، بينما هو الحياة ذاتها، فهو إنما قَبِلَ ذلك «إذ كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى» (يو 13: 1).

لذلك يقول أيضاً يوحنا الرسول: «بهذا قد عرفنا المحبة: أنَّ ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة» (1يو 3: 16).

محبة البشر هي الدافع الأول لتجسُّده:

فمحبة المسيح للبشر هي الدافع الأول لتنازُله وإخلائه لذاته وموته الإرادي على الصليب لكي يُخلِّص البشرية من الموت الذي تملَّك عليها. لذلك دُعِيَ المسيح بحقٍّ "محب البشر". ومن أجل ذلك نُسبِّحه في تسبحة نصف الليل قائلين: "المجد لك يا محب البشر".

وليس ذلك فقط، بل إنَّ الكنيسة في ليتورجياتها، عند تقديس القرابين، تقول في القدَّاس الباسيلي:

[هذا الذي أحب خاصته الذين في العالم، وأسلم ذاته فداءً عنَّا إلى الموت الذي تملَّك علينا، هذا (الموت) الذي كُنَّا مُمسكين به، مبيعين من قِبَل خطايانا، نزل إلى الجحيم من قِبَل الصليب].

كما يقول الكاهن أيضاً في القدَّاس الغريغوري:

[أيها الكائن الذي كان الدائم إلى الأبد، الذاتي والمساوي والجليس والخالق الشريك مع الآب. الذي من أجل الصلاح وحده، مِمَّا لم يكن، كوَّنتَ الإنسان وجعلته في فردوس النعيم. وعندما سقط بغواية العدو، ومخالفة وصيتك المقدسة، وأردتَ أن تُجدِّده وترُدَّه إلى رتبته الأولى، لا ملاك، ولا رئيس ملائكة، ولا رئيس آباءٍ، ولا نبيّاً، ائتمنته على خلاصنا؛ بل أنت بغير استحالةٍ تجسدتَ وتأنَّست، وأشبهتنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدها. وصرتَ لنا وسيطاً مع الآب، والحاجز المتوسط نقضته، والعداوة القديمة هدمتها. وأصلحتَ الأرضيين مع السمائيين، وجعلتَ الاثنين واحداً، وأكملتَ التدبير بالجسد. وعند صعودك إلى السموات جسديّاً، إذ ملأتَ الكل بلاهوتك، قلتَ لتلاميذك ورسلك القديسين: سلامي أُعطيكم، سلامي أنا أتركه لكم. هذا أيضاً الآن، أَنْعِم به لنا يا سيدنا...].

إذن، فمحبة البشر هي المحبة التي صِيغ منها لقب الابن له المجد: أي "محب البشر"، وهي تلك المحبة التي تتغنَّى بها الكنيسة في كل صلواتها، وهي التي يزخر بها الكتاب المقدس من أوله إلى آخره.

وهل ننسى تلك الآية الذهبية التي جاءت في إنجيل يوحنا: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بـل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يُرسِل الله ابنه إلى العالم ليديـن العالم، بل ليَخْلُص به العالم» (يو 3: 17،16).

كما يقول أيضاً بولس الرسول: «ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خُطاة مات المسيح لأجلنا. فبالأَوْلَى كثيراً ونحن مُتبرِّرون الآن بدمه نخلُص بـه من الغضب. لأنه إنْ كُنَّا ونحن أعداءٌ قـد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأَوْلَى كثيراً ونحن مُصالحون نخلُص بحياته» (رو 5: 8-10). ثم يستطرد قائلاً: «الذي لم يُشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يَهَبُنا أيضاً معه كلَّ شيء؟» (رو 8: 32)

وهذا هو ما يُعبِّر عنه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في القداس الغريغوري:

[وليس شيء من النطق يستطيع أن يَحُدَّ لُجَّة محبتك للبشر].

والمسيح نفسه، حينما أراد أن يصف إرساليته بالنسبة للبشر قال: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف... وأنا أضع نفسي عن الخراف... لهذا يُحِبُّني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحدٌ يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطانٌ أن أضعها ولي سلطانٌ أن آخذها أيضاً» (يو 10: 11، 15-18)؛ مما يدلُّ على أن المسيح قد جاء إلى العالم ليبذل نفسه عن رعيته، لأنه هو الراعي الصالح. وإذ لم يحتمل أن يرى الموت وقد صارت له سيادة علينا، بَذَل جسده للموت عن الجميع من أجل محبته للبشر، وطاعةً لأبيه الذي «هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية»، لذلك «الآب يُحِبُّ الابن وقد دفع كل شيء في يده» (يو 3: 35).

فالابن وضع نفسه بإرادته مُكمِّلاً مسرَّة أبيه، وهو وضعها ليأخذها أيضاً، فليس أحد يقدر أن يأخذها منه بل وضعها هو من ذاته، كما قال: «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً» (يو 10: 18)، لأنه هو "القيامة والحياة"، وقوة القيامة والحياة لم تُفارقه؛ لذلك لم يكن مُمكناً أن يُمسَك من الموت. ولم يكن في استطاعة البشر أن ينالوا من حياته إلاَّ بإرادته وتدبيره.

فكم من مرة حاول اليهود أن يقتلوا المسيح بأن يطرحوه من قمة الجبل أو يرجموه، فكان يجتاز في وسطهم ويمضي دون أن يمسّوه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. ولما جاءوا ليمسكوه في البستان وسألهم: «مَن تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم: أنا هو... فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض» (يو 18: 4-6). ولما قال له بيلاطس: «أَمَا تُكلِّمني؟ ألستَ تعلم أنَّ لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أُطلقك؟ أجاب يسوع: لم يكن لك عليَّ سلطانٌ البتَّة، لو لم تكن قد أُعطيتَ من فوق...» (يو 19: 11،10).

ومع ذلك فإنه يجب أن نتذكَّر دائماً أن المسيح قد أخلى ذاته بإرادته، واستمر إلى ساعة تسليمه ذاته خاضعاً لنواميس طبيعتنا البشرية كإنسانٍ ينمو في القامة والنعمة والحكمة، ويجوع ويعطش وينام ويقوم ويتعب ويتألَّم، وينزعج بالروح ويبكي ويحزن، ويتجوَّل بين الناس «يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس» (أع 10: 38). ولكنه بعد قيامته اختلف الأمر تماماً، فلم يَعُد يظهر إلاَّ للذين آمنوا به. ولم يَعُد خاضعاً لنواميس الطبيعة؛ بل كان طوال الأربعين يوماً قبل صعوده إلى السماء جسديّاً، يدخل ويخرج ويظهر ويغيب بأسلوب سرِّي لا يُستقصى، «إلى اليوم الذي ارتفع فيه بعد ما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم، الذين أراهم أيضاً نفسه حيّاً ببراهين كثيرة» (أع 1: 3،2).

وهكذا يتضح لنا أن الله الكلمة، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب "لَبِسَ الجسد لكي يُلاقي الموت في الجسد ويبيده"(3)، لأنه هو الحياة، وهو القيامة، وقـد صار جسـده حيّاً بسبب اتحاده بالكلمة.

وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[لمَّا قَصَدَ الخالق مقاصده الصالحة من نحونا، وشاء أن يُعيد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأولى، برَفْع الفساد منها؛ حينئذ هيَّأ لنا مثل أصلٍ ثانٍ (لجنسنا) غير قابل لأن يُمسَك من الموت، أعني الرب الواحد يسوع المسيح، الذي هو من جوهره الخاص، الإله الكلمة، وقد صار إنساناً مثلنا (مولوداً) من امرأة... فإن قيل إنه تألَّم تدبيريّاً بجسده الخاص حتى الموت، لكي يدوس الموت، ثم يقوم بصفته هو الحياة ومُعطي الحياة، فيحوِّل إلى عدم الفساد ما كان واقعاً تحت سطوة الموت، أعني الجسد. وهكذا انتقلت إلينا نحن أيضاً قوة ما حقَّقه، وانتشرت إلى سائر جنسنا... لأنه قام من بين الأموات حاملاً الجميع في نفسه](4).

كما يقول أيضاً في تفسيره لإنجيل القديس لوقا البشير:

[كيف كان يمكن للإنسان على الأرض الممسوك بالموت أن يعود إلى الخلود؟

كان لابد أن يصير جسده المائت شريكاً لقوة الله المُحيية. وأما قوة الله الآب المُحيية فهو اللوغس الابن الوحيد.

لذلك أرسله (الآب) إلينا مُخلِّصاً وفادياً وصار جسداً، لكي يزرع نفسه فينا باتحادٍ غير مفترق، ويجعلنا فوق الموت والفساد.

فقد اتَّخذ لنفسه جسدنا لكي يُقيمه من بين الأموات، فيفتح طريق العودة إلى الخلود للجسد الرازح تحت الموت، كما يقول بولس: «كما أنَّ الموت بإنسانٍ، بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات» (1كو 15: 21)

لأنه لما وحَّد بنفسه الجسد الممسوك بالموت، بينما هو الإله الكلمة والحياة، فقد زجر منه الفساد وجعله جسداً مُحيياً... لذلك فحينما نأكل هذا الجسد الذي للمسيح مُخلِّصنا كلنا ونشرب دمه الكريم، فإننا ننال منه الحياة في أنفسنا؛ إذ نصير واحداً معه، ونكون ثابتين فيه، ونقتنيه هو داخلنا](5).

(يتبع)

(1) تجسُّد الكلمة 20: 5،4.
(2) تجسُّد الكلمة 21: 7.
(3) تجسُّد الكلمة 44: 6.
(4) ضد نسطور 5: 1.
(5) تفسير لوقا 22: 19.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis