أبحاث ودراسات


الإيمان الاستعلاني
لدى
الأب متى المسكين

+ الكلمة التي ألقاها الراهب باسيليوس المقاري تحت عنوان: "الإيمان والعقل لدى الأب متى المسكين" في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى للثقافة تحت شعار: "الأب الروحاني" مساء يوم الثلاثاء 31/10/ 2006م. والمقال مزيد على الجزء الأول فقط من الكلمة التي أُلقيت.

يُعتبر أبونا متى المسكين هو رجل الإيمان والعقل، والفلسفة هي من العقل. وكِلاَ الكلمتين: الإيمان والعقل لهما مدلولان عند الأب متى المسكين جديران بالبحث، وسنقتصر في هذا المقال على عرض الجزء الأول: الإيمان عند الأب متى المسكين.
والإيمان ليس هو فقط تصديق المعتقدات الدينية كما في كل الأديان. هذه مرحلة أولى وهي موجودة فعلاً لدى الأب متى المسكين. ولكن إذا توقَّف الإيمان عند هذه المرحلة تكون هناك خطورة. أما المرحلة الثانية الأعلى فهي الإيمان كشركة واختبار مع شخص الله في شخص المسيح، إذ أن المسيح هو الذي قرَّبنا إلي الله بعد أن كانت هناك هوَّة وفجوة بين الإله المحتجِب غير المنظور وبين البشر، وإذا بالله يُظهِر نفسه لنا في ابنه يسوع المسيح. ولكن الإيمان الذي عرفه وعاش به أبونا متى المسكين هو مرحلة أعلى من هذه أيضاً، إنه: الإيمان الاستعلاني.

فإيمان الأب متى المسكين وصل ليس فقط إلى إيمان تصديق المعتقدات الدينية، وليس فقط إلى إيمان الشركة مع الله؛ ولكنه تَلقَّى من الله استعلانات، ليس من أجل نفسه، بل أذكر يوم أن تقابلنا مع الأب متى المسكين لأول مرة في دير السريان عام 1953، وكنَّا ضمن مجموعتين من خدَّام مدارس الأحد في كنيستين في القاهرة، فقد ذكر لنا اختباراً خاصاً به: إنه وهو يُصلِّي أو يقرأ ويتأمل في كلمة الله، كان ينال من الله الكثير من الاستعلانات.

وقال: "كنتُ أفرح بهذه الاستعلانات وأتعزَّى وأندهش بها جداً. ولكن حينما كنتُ أجلس مع الآخرين، كنتُ أحبس هذه المعرفة عنهم مُعتبراً أنَّ هذا الاستعلان شيء اختصَّني به الله فلا أُفصح عنه، إذ كنتُ أخشى أن أبوح به لأحد. وإذا بي بعد مرور الوقت أكتشف أنَّ هذه النِّعَم والاستعلانات من الله قد بدأت تخفُّ وتقلُّ. فلما صلَّيتُ إلي الله سائلاً: لماذا منع عني هذه الاستعلانات، أعلن لي الله أنَّ هذه الاستعلانات التي أُعطيها لك ليست هي لك فقط، لتتلذَّذ أنت بها، فأنا لا أُعطيها لك لنفسك، بل أنا أُعطيها لغيرك، ولكن من خلالك. فعرِفتُ خطئي، وابتدأتُ أتكلَّم للآخرين عن كل استعلان أناله. ومن ذلك الوقت صرتُ أتلقَّى مرة أخرى المزيد من الاستعلانات".

ومرةً قال أبونا متى اختباراً بأنه كان كمثل إنسان يجلس تحت مائدة أعدَّها الله للناس، وهو يأكل من الفتات الساقط من تحت هذه المائدة. فهذا هو الإيمان الذي عاش به الأب متى المسكين منذ 60 سنة وإلى أن انتقل من هذا العالم؛ إذ كان ما يزال يستعلِن له الله، فيكتب ويُقدِّم لنا المزيد من المقالات والعظات وإلى آخر نسمة من حياته، كما قال المسيح: «كل كاتب متعلِّم في ملكوت السموات يُشبه رجلاً ربَّ بيت يُخرج من كنزه جُدداً وعُتَقاء» (مت 13: 52).

فإيمان الاستعلان هو درجة عالية نالها الأب متى المسكين. ونحن لا نمجِّده لأنه أخذ، ولكن نحن نمجدِّ الله ونعظِّمه على رحمته على الكنيسة وعلى العالم، لأنه أعطي لمثل هذا الإنسان أن يُعرِّفنا أسرار الله ما لم نكن نعرفه.

ما هو "الاستعلان" في كتابات

الأب متى المسكين؟

يقول الأب متى المسكين في كتاب "مع المسيح": "المقصود بالاستعلان هو كشف المستور، أو الدخول إلى جوهر المعنى أو جوهر الكلمة، وهي حاسة فائقة على الفهم والعقل".

ويُعطي الأب متى المسكين مثلاً للاستعلان لدى القديس بولس الرسول الذي استعلن حقائق كثيرة عن أسرار الخلاص الذي أتمَّه المسيح ما يسميه القديس بولس: «...حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح» (أف 3: 4). فيتساءل الأب متى المسكين: "من أين أتى بولس بدرايته الفائقة للمسيح والحق بينما كان هو مضطهِداً الكنيسة وقتَّالاً للرجال والنساء عندما كان يُجبرهم على التجديف وإلاَّ يُرجموا. ونحن نعلم أن بولس الرسول لم يكن تلميذاً للرب ولا عاش مع التلاميذ، فمِن أين جاء بدرايته بسرِّ المسيح الذي هو أعلى صورة للإيمان؟". ويردُّ الأب متى المسكين بكلام بولس الرسول نفسه: «لأني لم أَقبله من عند إنسان ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح» (غل 1: 12). ويُعلِّق الأب متى المسكين: "وهكذا يتبيَّن لنا أنَّ الاستعلان أرفع من مستوى التعليم والقراءة والفهم".

وبناءً على هذا الفهم يقول الأب متى المسكين:

[وأنا أقول هنا بإخلاص إن آلاف المؤمنين الأتقياء لا يعرفون القراءة والكتابة ولم يتعلَّموا من أحد، ولكنهم أقوياء جداً في الإيمان، وثباتهم في الإيمان يفوق بمراحل الذين يقرأون والذين يتعلَّمون. ونسأل: من أين أتاهم هذا الإيمان القوي والفائق الحد؟ نقول: إن هذا هو الاستعلان، فمِن شدَّة حبهم للمسيح استعلَن المسيح نفسه لهم، وتمَّ فيهم قول المسيح: «الذي يُحبُّني يُحبُّه أبي، وأنا أُحبُّه، وأُظهِر له ذاتي» (يو 14: 21). هذا الظهور الذاتي هو هو الاستعلان في أعظم وأجلِّ معانيه، وهو في متناول الأُميين والذين لا يقرأون].

ويُعطي الأب متى المسكين مَثَلاً آخر هو صموئيل النبي حينما كان طفلاً صغيراً فقد "تربَّى داخل الهيكل تحت وصاية عالي الكاهن، وقد ظهر الله لصموئيل وتكلَّم معه، ولم يتكلَّم مع عالي الكاهن. فقامة الطفولة مُعدَّة أعظم إعداد لتقبُّل صوت الله".

ويخلص الأب متى المسكين في نهاية هذا المقال في كتاب "مع المسيح" إلى هذا التعميم: "هكذا فالاستعلان لا يتوقَّف على علم أو معرفة ولا على قامة. لهذا فالاستعلان مفتوحٌ على كل قامة وعلى كل مستوى، كل مَن يحب الحق أو يطلبه". وكأني به لا يحتكر لنفسه ما ناله من الله من استعلانات، بل يفتح الرجاء لكل واحد لينال ما ناله هو، بشرط أن يحب الحق أو يطلبه.

نموذج من استعلان معنى

الثالوث الأقدس في الله الواحد:

وكتابات الأب متى المسكين تزخر بالعديد من الاستعلانات عن أسرار الخلاص والإيمان والحياة المسيحية، ولكن نُقدِّم فيما يلي نموذجاً واحداً عن استعلان معنى "الثالوث الأقدس" كما ورد في كتابه: "الإيمان بالمسيح". وأعتقد أنه يُقدِّم معنًى بسيطاً وعملياً ومُطابقاً لاستعلان المسيح عن الآب أمام اليهود، وأيضاً لاستعلان المسيح عن نفسه أنه الابن، أي ابن الله. كما أنَّ هذا المعنى يتماشى مع الكلمتين اللتين وصف بهما القديس يوحنا الرسول الله الواحد الثالوث في رسالته هكذا: «الله محبة» (1يو 4: 8؛ 1 يو 4: 16). وهذا هو نص كتاب "الإيمان بالمسيح"(1):

[فإذا سأل سائل: ما معنى الأُبوَّة والبنوَّة في الله؟ نقول:

أيُّ إنسان في الدنيا يحمل الأُبوَّة والبُنوَّة معاً في كيانه البشري، هو أبٌ وابنٌ في واحد. ولكن الأُبوَّة الكائنة في الإنسان لا تظهر إلى الوجود الملموس إلاً إذا ظهرت البنوَّة التي فيه وذلك بأن يتزوَّج الإنسان وينسل ابناً. الله لا يحتاج إلى آخر (زوجة)، ولا إلى حَدَث زمني، لكيِ يُظهِر أُبوَّته إلى الوجود بالولادة في هيئة ابنٍ. البنوَّة في الله موجودة دائماً أزلية مع الأُبوَّة، الآب والابن كائنان معاً كينونة واحدة ذاتية لا يفصلهما زمان أو مكان، ليس فيهما سابق ولاحق، لا كبير ولا صغير، هما صفتان جوهريتان متلازمتان لذات واحدة هي ذات الله الكلِّية الكمال.

الأُبوَّة في الله صفة جوهرية في ذات الله، وهي صفة فعَّالة وليست جامدة في ذاتها، لأن منها تقوم كل أُبوَّة في الخليقة. والبنوَّة صفة جوهرية أيضاً في ذات الله، صفة فعَّالة، ومنها تقوم كل بُنوَّة. إنَّ تساوي الآب والابن في الذات الواحدة هو سرُّ الكمال المطلق في الذات الإلهية، وبالتالي هو أيضاً سرُّ كمال الخليقة، لأنها تستمد وجودها وكمالها ودوامها من الله الكلِّي الكمال.

الأُبوَّة في ذات الله قائمة قياماً جوهرياً وفعَّالاً، وذلك بسبب قيام البنوَّة في ذات الله قياماً جوهرياً أيضاً، وبسبب فعاليتها الدائمة بالنسبة للأُبوة: الآب يحب الابن، والابن يحب الآب. هنا الحب كناية عن الاكتفاء والكمال الكلِّي للذات الإلهية الواحدة.

هنا المحبة في الله كاملة ومطلقة وأزلية، لذلك فذات الله مكتفية بذاتها اكتفاءً كاملاً ومطلقاً، أي أنَّ الله لا يحتاج إلى حب آخر خارجاً عنه، لا حبّاً أبوياً ولا حبّاً بنوياً؛ بل بالعكس، فإنَّ محبة الأُبوَّة التي في ذات الله تفيض على الخليقة كلها! فالله هو آب الخليقة كلها، يحبها حبّاً أبوياً فعَّالاً، ذلك لأن حبَّه الذاتي لابنه غير محدود ولا محصور قط، فهو يشمل الخليقة كلها أيضاً.

وكذلك الابن، فهو بسبب لانهائية حبه الذاتي لأبيه، فإنه يجمع الخليقة كلها في حبه ويقدِّمها في طاعـة بنوَّ ته وخضوعه الفائق لأبيه. فالله يتبنَّى العالم كله في شخص يسوع المسيح!

ارتباط الأُبوَّة بالبنوَّة في ذات الله، هو بحدِّ ذاته "حياة" قائمة وفعَّالة تنبثق من الآب وتصُبُّ في الابن، نراها في حالة الإنسان على هيئة حياة أو روح ينتقل من الأب إلى الابن بالتزاوج. انتقال الحياة أو الروح في الإنسان من الأب إلى ابنه لا يمكن أن نراه أو نحصره أو نفهمه، ولكنه حقيقة موجودة. وانتقال هذه الروح من الأب إلى الابن هو الذي يكشف عن وجود الأُبوَّة ووجود البنوَّة في الإنسان، كما يكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط الأب بالابن.

هكذا أيضاً في ذات الله يوجد رُوحٌ قُدسٌ، وهو الحياة التي تنبثق باستمرار من الآب في الابن، هذه الحياة أو هذا الروح هو الذي يكشف عن حقيقة وجود الأُبوَّة ووجود البنوَّة في ذات الله، ويشهد لها. هذه الحياة أو هذا الروح القدس قائم قياماً جوهرياً في ذات الله، فهو صفة ذاتية لله غير صفة الأُبوَّة وغير صفة البنوَّة. هو "الحياة"، ولكنه ليس حياة منحصرة أو جامدة في ذات الله، بل حياة فعَّالة فعاليةَ ذات الله نفسها. فكما أن الأُبوَّة في ذات الله فعَّالة، وهي أصل كل أُبوَّة في الخليقة، وكما أن البنوَّة في ذات الله فعَّالة، وهي أصل كل بنوَّة في الخليقة؛ كذلك الروح القدس فهو الروح الفعَّال في الخليقة أصل كل الحياة فيها الذي ينقل الأُبوَّة إلى البنوَّة لدى كل مخلوق، جاعلاً الحياة على الأرض في ديمومة، ثم يربط كل أب بابنه مُعطياً كل ما للأب للابن في تسلسل رتيب منقطع النظير!

إن سرَّ الثالوث في ذات الله الواحد هو سرُّ الخليقة كلها، سر كل أب، سر كل ابن، سر كل حياة، أو سر الروح الذي ينتقل من كل أب إلى ابنه.

إن اكتشاف حقيقة الثالوث في طبيعة الله الواحد هو سرٌّ فائق أكثر تقدُّماً وعمقاً من اكتشاف وحدانية ذاته. فإنْ كان الإيمان بوحدانية ذات الله أمراً تعبُّدياً هاماً، لأنه يُخضِع العقل البشري للتعبُّد بالخشية والرهبة للخالق الوحيد المنفرد في ذاته وصفاته؛ فالإيمان بالثالوث في طبيعة الله الواحد، هو أمرٌ أكثر خطورة لأنه يختص بحياتنا. فهو يكشف لنا عن مدى العلاقة التي تربطنا بهذا الخالق الوحيد.

فالإيمان بأُبوَّة الله كما كشفها لنا المسيح ووهبها لنا بطاعته لأبيه تنقلنا من وضع العبيد إلى وضع البنين حسب تصريح إنجيل يوحنا: «وأما كل الذين قبلوه (قبلوا الابن يسوع المسيح)، فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو12:1).

أما إيماننا بالمسيح كابن لله، ثم اتحادنا به بجسده وبدمه وروحه، فهذا يجعلنا في وضع شركة مع المسيح فيما لله، شركة ميراث روحاني لحياة أبدية في الله: «فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله، ووارثون مع المسيح» (رو8: 17)، «أمينٌ هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا» (1كو9:1).

ثم إنَّ إيماننا بالروح القدس - أي روح الله - وقبولنا له بالعماد، يجعلنا خليقة جديدة روحانية مولودين فعلاً لله ومنه، برجاء حي لحياة أكثر سموّاً من حاضرنا، وهذا الروح يُدخِلنا في مجال أسرار الله: «لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله» (1كو10:2)، وبالتالي يهبنا كل إنعامات وعطايا الله المختصة بالحياة الأبدية].

هذا نموذج الاستعلان حول أهم المعتقدات المسيحية كما ورد في كتابات الأب متى المسكين. وهناك الكثير ما نرجو أن نبحثه في مقالات قادمة بإذن الله.

**** الفرح ثمرة الروح القدس *********************************************************

[في الساعة (التي رجع فيها التلاميذ من الإرسالية مغمورين بالفرح)، تهلَّل يسوع بالروح القدس وقال: «أشكرك، أيها الآب، رب السماء والأرض» (لو 10: 21)... رأى يسوع أنَّ كثيرين قد أُسِروا بفعل الروح القدس الذي منحه لأُناس كانوا مستحقين له، والذين ألزمهم بأن يشرعوا في العمل المقدس الذي للكرازة الإلهية. لقد رأى معجزات تتم بواسطتهم، ثم رأى بالتالي أنه بشخصه هو نفسه، قد بدأ الخلاص في العالم، الخلاص الذي بالإيمان. من أجل هذا فقد "تهلَّل بالروح القدس" بسبب قوة وأعمال الروح القدس.

حقّاً قد اختار الرب الاثني عشر تلميذاً وسمَّاهم رُسلاً، ثم عيَّن سبعين آخرين ليُعلنوا عنه وعن كل ما يختص به. لقد أرسلهم بعد أن زوَّدهم بكل السجايا الرسولية. لقد قدَّمهم بعد أن أنعم عليهم بموهبة العمل المستَمَدَّة من الروح القدس. لقد أعطاهم سلطاناً كاملاً على الأرواح النجسة لكي يُخرجوها...].

*************************************** [القديس كيرلس الكبير (377-444م) – عظة 56 على إنجيل لوقا]

(1) "الإيمان بالمسيح"، للأب متى المسكين، الطبعة السابعة 2009، ص 12-16.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis