دراسة الكتاب المقدس
سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية
لبني إسرائيل
- 42 -


(تابع) تفاصيل العهد وشروطه
(12: 1 - 26: 19)
ثانياً: أحكام متعلقة بالأمور المدنية وعلاقتها بالعبادة
(16: 18-20: 22)

الأصحاح العشرون

ما يجب مراعاته في حالة الحرب:
كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض كنعان، الأرض التي طالما اشتاقت نفوسهم إلى امتلاكها. ولكن كان لابد لهم أن يواجهوا حروباً مع سكَّان الأرض حتى تؤول لهم ويمتلكونها. لذلك أعطاهم الرب هذه الشرائع والأحكام على لسان موسى النبي في توصياته الوداعية لهم، وهم على مشارف أرض الموعد، لكي يراعوها في حالة الحرب أو الدفاع عن النفس عند دخولهم أرض كنعان:

+ «إذا خرجتَ للحرب على عدوِّك ورأيتَ خيلاً ومراكب، قوماً أكثر منك، فلا تَخَفْ منهم، لأن معك الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر. وعندما تَقْرُبُون من الحرب يتقدَّم الكاهن ويُخاطب الشعب، ويقول لهم: اسمع يا إسرائيل، أنتم قَرُبتُم اليوم من الحرب على أعدائكم. لا تضعف قلوبكم. لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهكم سائرٌ معكم لكي يُحارب عنكم أعداءكم ليُخلِّصكم» (20: 1-4).

من الأمور التي تُثير الدهشة أن يُدعى الرب في العهد القديم: «الرب رجل الحرب، الرب اسمه» (خر 15: 3)، (انظر خر 17: 16 «للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور»). وفي سفر يشوع ظهر الرب ليشوع في هيئة رجل واقف قبالته وفي يده سيف مسلول. «فسار يشوع إليه وقال له: هل لنا أنت أو لأعدائنا؟ فقال: كلاَّ، بل أنا رئيس جند الرب، الآن أتيت. فسقط يشوع على وجهه إلى الأرض وسجد وقال له: بماذا يُكلِّم سيدي عبده؟ فقال رئيس جند الرب ليشوع: اخلع نعلك من رجلك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مُقدَّس» (يش 5: 13-15). فقد كان الرب هو رئيسهم وقائدهم الفعلي غير المنظور، وكان هو الذي ينصرهم في الحروب، ويمنحهم القوة والعون للتغلُّب على أعدائهم. فهو ”رب الجنود“، ولم يكن يمنحهم القوة للنصرة فقط، بل وعدهم عند عبورهم البحر الأحمر بأن يُقاتل عنهم وهم يصمتون (انظر خر 14: 14). وفي سفر إشعياء يقول: «الرب كالجبار يخرج، كرجل حروب يُنهض غيرته. يهتف ويصرخ ويَقوى على أعدائه» (إش 42: 13).

إذن، فقوة الرب ليست قوة مادية، بأسلحة ومدافع وجيوش محتشدة، بل هي قوة الله القادر على كل شيء، الذي في يده كل مقاليد الحياة، لذلك يقول الرب بفم زكريا النبي: «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود» (زك 4: 6). وقد فَهِمَ المرتِّل داود النبي هذه الحقيقة فصرخ قائلاً: «مبارك الرب صخرتي الذي يُعلِّم يديَّ القتال وأصابعي الحرب» (مز 144: 1). فلم تكن الحرب، إذن، مجرد قتالٍ بين جيشين، بل كانت الحرب للرب. لذلك كانت تستلزم استعداداً خاصاً من شعب الرب الذي يُحارب حروب الرب.

فكان يجب، أول كل شيء، أن يتم الرجوع إلى الرب قبل أية معركة (انظر قض 20: 18؛ 1صم 14: 37؛ 23: 2؛ 28: 6؛ 30: 8). وكانوا يصطحبون معهم تابوت العهد عادةً، إيماناً منهم بأنه يُعبِّر عن وجود يهوه في وسطهم. وهنا، في هذا الأصحاح (العشرون)، نُلاحظ مرافقة الكاهن للخارجين للحرب، حيث يلزم أن يتقدَّم الكاهن ويُخاطب الشعب مُذكِّراً إيـَّاهم بمواعيد الرب الصادقة، وأعماله السابقة معهم في جميع المعارك التي خاضوها قبلاً، وكيف نصرهم الرب لأنهم توكَّلوا عليه.

فقد كان للكهنة دور هام في توجيه الشعب وتنظيم صفوفه في الحروب. كما كان عليهم أن يُبوِّقوا بالأبواق إيذاناً ببدء الحرب ولاستدعاء المُحاربين، ولكي يُذكِّر الشعب بوجود الرب معهم، ووجودهم في حضرة الرب؛ إذ أنَّ سماعهم لصوت البوق يُذكِّرهم بصوت بوقه القوي حين كان يُبوَّق بشدة عند ظهور الرب لهم فوق جبل سيناء، ولكي يُذكِّرهم الرب بمراحمه ويُخلِّصهم من أعدائهم حسب وعده لهم: «وإذا ذهبتم إلى حربٍ في أرضكم على عدوٍّ يضرُّ بكم تهتفون بالأبواق فتُذكرون أمام الرب إلهكم وتُخلَّصون من أعدائكم» (عد 10: 9). وهذا هو ما حدث معهم عند افتتاحهم لأريحا. فقد «دعا يشوع بن نون الكهنة وقال لهم: احملوا تابوت العهد، وليحمل سبعة كهنة سبعة أبواق هتاف أمام تابوت الرب» (انظر يش 6)، وداروا حول المدينة ستة أيام وهم يهتفون مع الشعب بالأبواق، وفي اليوم السابع داروا حولها سبع مرات وهم يهتفون ويُبوِّقون، فسقطت أسوار أريحا المُحصنة من ذاتها بغير حرب.

وهكذا كانت الحرب للرب، وبناءً على أمر الرب، واعتماداً على أنه معهم وفي وسطهم، وأن النصرة ليست بقوتهم أو بتقواهم أو بما يتسلحون به، بل لأن الرب سائر معهم ويتقدَّمهم ويُحارب عنهم.

المعْفِيُّون من الحرب:

وكان هناك دور آخر لفئة مُعيَّنةٍ دعاها الكتاب ”العرفاء“، الذين هم المتقدمون في الشعب، الذين يمكن اعتبارهم بمثابة القادة في الحروب. فقد كان عليهم أن يُنادوا بين الشعب المتقدمين للحرب ويُعرِّفوهم بقواعد الإعفاء من الاشتراك في الحرب، هكذا:

+ «ثم تُخاطِب العرفاءُ الشعبَ قائلين: مَن هو الرجل الذي بنى بيتاً جديداً ولم يُدشِّنه، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيُدشِّنه رجلٌ آخر. ومَن هو الرجل الذي غرس كرماً ولم يبتكره، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيبتكره رجلٌ آخر. ومَن هو الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيأخذها رجلٌ آخر. ثم يعود العرفاء يُخاطبون الشعب ويقولون: مَن هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه. وعند فراغ العرفاء من مخاطبة الشعب يُقيمون رؤساء جنود على رأس الشعب» (20: 5-9).

يُلاحَظ هنا أن قواعد الإعفاء من الاشتراك في الحرب، تتأسَّس على أن النصرة في الحرب لا تعتمد على كثرة المُحاربين وقوة الجيش وتسليحه، بل على قوة الرب المُدافع عنهم والكائن في وسطهم. لذلك كانت الإعفاءات تعكس رقة الله ولطفه ومراعاته لنفسية المحاربين وظروفهم واحتياجاتهم، أكثر من اهتمامه باشتراكهم في الحرب.

من أجل هذا يُعلِّق القديس كليمندس الإسكندري على ذلك قائلاً:

[يقول الناموس لاعتباراتٍ إنسانية، إنه إذا كان رجل قد بنى بيتاً جديداً ولم يُدشِّنه بعد، أو غرس كرماً ولم يقطف من باكورات ثماره بعد، أو خطب امرأة ولم يتزوجها بعد، فليُعفَ من الاشتراك في الحرب. لأن هذه الأمور ستؤثـِّر على حماسه في الحرب وتضعفه؛ وذلك لكوننا كبشر نكون مشدودين نحو الاتجاه الذي نشتاق إليه، فلن يكون المرء منَّا مستعدّاً لأن يُعرِّض نفسه للمخاطر، إلاَّ إذا كان غير منجذب لأي فكر آخر سوى هذا الغرض الواحد الذي خرج إليه؛ وهكذا يكون مُتحرِّراً من كل دوافع بشرية. وإنه لهدفٌ إنساني أيضاً، بالنسبة لأولئك الذين يتقدَّمون للحرب، التي لا يُعرف مصير المشتركين فيها، فليس من العدل لمثل هؤلاء الذين لم يجنوا ثمرة ما بذلوه من جهدٍ، أن يأخذ شخص آخر ثمرة ما غرسوه، أو يمتلك آخر ما أعدَّه غيره لنفسه، أو يدخل آخر على تعب غيره](1).

كما كان عرفاء الشعب يعودون ويخاطبون الشعب قائلين: «مَن هو الرجل الخائف والضعيف القلب؟ فليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه».

فهذه فئة أخرى من الذين أمر الرب بأن يُعفَوا من الخدمة العسكرية، لأن هذه الفئة لا شكَّ أنها تُمثِّل تهديداً لروح ومعنويات الجيش بأكمله، لأنهم رغم تشجيع الكاهن لهم قبل دخول المعركة، بقوله: «لا تضعف قلوبكم، لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهكم سائر معكم لكي يُحارب عنكم أعداءكم ليُخلِّصكم»؛ فإنهم ما زالوا خائفين وضعيفي القلوب، مما يدلُّ على ضعف إيمانهم بالله وبقوته وقدرته، مع أن الإيمان هو ألزم اللزوميَّات بالنسبة لكل مَن يُحاربون ”حروب الرب“.

ولا شكَّ أن وجود مُحاربين خائفين وضعاف القلوب في وسط الجيش سوف يتسبَّب في إشاعة روح الانهزام والتراجُع في بقية المحاربين، كما حدث عندما أشاع الذين أرسلهم موسى من قبل لكي يتجسَّسوا أرض كنعان، فعادوا وأشاعوا كلاماً ألقى الرُّعب والخوف في قلوب الشعب بقولهم: «هي أرض تأكل سُكَّانها، وجميع الشعب الذي رأينا فيها أُناس طوال القامة. وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة، فكُنَّا في أعيننا كالجراد وهكذا كُنَّا في أعينهم» (عد 13: 33،32).

كان هذا هو نتيجة عدم الإيمان الذي ولَّد الخوف والفزع في قلوب الشعب كلِّه، مما أدَّى إلى حرمانهم من دخول أرض الموعد، كما أدَّى إلى تيههم في البرية وأجَّل دخول ذرِّيتهم حوالي أربعين سنة إلى أرض الموعد.

وبعد مناداة العرفاء في الشعب بأن ينصرف كل خائف من صفوف الخارجين للحرب، كان آخر عمل من أعمال الاستعداد للحرب هو تعيين رؤساء للجنود لكي يقوموا بتنظيم الصفوف والإشراف على احتياجات المحاربين حسب حاجة الحرب، والخطط الموضوعة للقتال.

مفاوضة المدن وعرض الصُّلح عليها قبل محاربتها:

+ «حين تقرُب من مدينة لكي تُحاربها اسْتَدْعِهَا إلى الصُّلح. فإن أجابتك إلى الصُّلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تُسالمك بل عَمِلَتْ معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كلُّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأُمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يُعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمةً ما. بل تُحرِّمها تحريماً: الحثيين والأموريين والكنعانيين والفِرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك، لكي لا يُعلِّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عَمِلوا لآلهتهم، فتُخطئوا إلى الرب إلهكم» (20: 10-18).

يتحدث الوحي هنا عن حالتين من الحصار:

أولاً: حصار مدينة تقع بعيداً عن أرض الموعد أو على أطرافها، وهي ما أشار إليها في الفقرة بين الأعداد 10-15.

ثانياً: حصار مدينة تقع في ذات أرض الموعد، وهي ما أشار إليها في الفقرة بين الأعداد 16-18.

فقد كان الوضع يختلف بالنسبة للمدينة البعيدة عن المدينة التي تقع في داخل أرض الموعد. فقد كانت هذه المدن هي محور اهتمامهم الأول. أما المدن التي على أطرافها، والتي مرُّوا عليها في طريقهم إلى أرض كنعان فكان لها تصرُّف آخر.

فأول ما ينبغي عمله بالنسبة للمدن البعيدة هو استدعاؤها للصُّلح. والمقصود هنا هو دعوتها لعقد معاهدة. فإذا استجابت المدينة لدعوى الصُّلح والسلام، عندئذ يُعفَى شعبها من حُكْم الإبادة والتحريم، ويصبحون خاضعين لإسرائيل، ويكون من حقِّ شعب إسرائيل تسخيرهم ومعاملتهم كعبيد.

أما إذا رفضت تلك المدينة نداء السلام المُقدَّم لها، وعملت مع إسرائيل حرباً، فلابد من محاصرتها، وضرب ذكورها بحدِّ السيف؛ أما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من ممتلكات يؤول غنيمة لهم. فقد فعل بنو إسرائيل ذلك عند محاربتهم لمديان على يد موسى قبل دخولهم أرض الموعد (عد 31: 25-30)، وكذلك بلدة عاي على يد يشوع (يش 8: 2). أما المدن المبنية فوق التلال التي صادفها يشوع، وكانت مُسالمة وقبلت الصُّلح، فلم يمسُّوها بسوء (يش 11: 13).

أما المدن الواقعة في نطاق أرض الموعد فقد أَمَرَ الرب بتحريمها تحريماً كاملاً، فيُباد أهلها دون رحمة، بما في ذلك الناس والبهائم. وحتى الغنيمة والأملاك التي فيها كان الأمر بإحراقها بالنار.

أما لماذا كان أَمْر الله هكذا شديداً وصادماً وقاطعاً مع تلك الشعوب التي كانت تسكن أرض كنعان، بل وكانت مخالفة أمر الله لبني إسرائيل والتساهُل مع هذه الشعوب واستبقاؤها، فكان يؤدِّي بهم أيضاً إلى غضب الرب عليهم، فيمكن إدراك قصده من ذلك من تحذير الرب لهم هكذا: «وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم، يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخس في جوانبكم، ويُضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها. فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم» (عد 33: 56،55).

فقد كانت تلك الشعوب الكنعانية في أحط المستويات الأخلاقية بسبب عباداتهم الوثنية، فقد «أبدلوا مجد الله الذي لا يَفْنَى بشِبه صورة الإنسان الذي يَفْنَى والطيور والدواب والزحَّافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم... وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق، مملوئين من كل إثم وزنا وشرٍّ وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً... الذين إذ عرفوا حُكْم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضاً يُسرُّون بالذين يفعلون» (رو 1: 23-32).

وهكذا كان قد امتلأ كأس غضب الرب على تلك الشعوب. وكان بنو إسرائيل أضعف جداً من أن يُخالطوهم ويُعاشروهم لئلا يتمثَّلوا بهم، بينما كان الرب يُحوِّط حولهم لكي يصنع من خلالهم خطة خلاصه للعالم كله بمجيء المسيح مخلِّص العالم من نسلهم.

(يتبع)