أواخر الأيام


- 4 -
نهاية العالم وتاريخ البشرية
(رسالة بطرس الثانية - الأصحاح الثالث)

لقد كان من نتيجة سقوط الإنسان الأول، أنَّ كل الخليقة دخلت في ”عبودية الفساد“ أي الموت، ومنذ ذلك الوقت صارت «تئن وتتمخَّض معاً إلى الآن»، حتى - كما قال بولس الرسول - «نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا، متوقِّعين التبنِّي فداء أجسادنا» (رو 8: 21-23).
+ وهكذا سوف يأتي الوقت حينما يتطهَّر العالم المادي والبشري من آثار خطية الإنسان ويتجدَّد، تماماً كما سيتجدَّد العالم الروحي من خطية عالم الملائكة بسبب سقوط إبليس.

+ وبهذا، فإن تجديد العالم المادي سوف يتم في ”اليوم الأخير“، ذلك اليوم الذي فيه سوف تُقام أيضاً دينونة هذا العالم.

+ ولنتذكَّر أنَّ البشرية قبل الطوفان أُبيدت بغرقها في الماء، لكن القديس بطرس الرسول يُعلِّمنا أنه كما أن «العالم الكائن حينئذ فاض عليه الماء فهلك. وأما السموات والأرض الكائنة الآن، فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها، محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفُجَّار» (2بط 3: 7،6).

+ لذلك يُنذرنا القديس بطرس الرسول، مستخدماً كلمات المسيح: «ولكن سيأتي كلصٍّ في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحلُّ العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها... ولكننا بحسب وعده ننتظر سمواتٍ جديدة، وأرضاً جديدة، يسكن فيها البرُّ» (2بط 3: 13،10).

+ أما عن كون الخليقة الأرضية ليست أبدية، فهذا ما تنبَّأ به المُرنِّم حينما صرخ إلى الله:

+ «مِن قِدَم (منذ القِدَم) أسَّستَ الأرض، والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوبٍ تَبْلَى، كرداء تُغَيِّرُهُنَّ فتتغيَّر» (مز 102: 26،25).

+ وقد تنبَّأ الرب يسوع المسيح قائلاً: «السماء والأرض تزولان» (مت 24: 35).

عدم خراب العالم وفنائه:

إن نهاية هذا العالم الحاضر لن يكون بخرابه وفنائه، ولكن بتغيُّره وتجديده الشاملَيْن. وهذا يُعبِّر عنه القديس بولس بقوله: «هيئة هذا العالم تزول» (1كو 7: 31)، مُستخدِماً كلمة ”هيئة“ أي ”سماته الخارجية“، هي التي ستزول.

+ وهذا يُشبه ما سيحدث للذين سيكونون أحياء على الأرض حينما يأتي المسيح في مجيئه الثاني، أنهم في لحظة سوف يتغيَّرون؛ وتماماً مثل الأموات الذين سيقومون حينذاك، فهم سيتغيَّرون. وكذلك الطفل أو الإنسان الذي يتقدَّم إلى المعمودية لكي يلبس الإنسان الجديد الخارج من جُرن المعمودية، تاركاً الإنسان العتيق الذي يُدفَن ويموت في داخل مياه المعمودية المكني عنها بالقبر؛ فإنَّ هذا الإنسان لا يَفْنَى ولا يُباد، لكنه يتجدَّد ويتغيَّر فقط في داخله، وهو بنفس جسده، وإنما يتوشَّح بجوهر الطبيعة البشرية الجديدة في المسيح، كما يقول بولس الرسول:

+ «لا نرقد كُلُّنا، ولكننا كُلَّنا نتغيَّر، في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير. فإنه سيُبوَّق، فيُقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغيَّر. لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت (الخلود)» (1كو 15: 51-53).

- 5 -

القيامة العامة للأموات

إن الشخص البشري، حسب تعليم الكتاب المقدس، هو كيان واحد مُركَّب من طين مأخوذ من الأرض منفوخ فيه الروح القدس، وبهذا يكون قادراً على السموِّ والتسامي بسبب الروح الذي فيه، في نسيج متشابك معاً، بحيث لا يمكن تصوُّر إنسان روحاً بلا جسد (فهذا شَبَح)، ولا جسداً بدون روح (فهو جثة).

+ هذا الإنسان هو الذي يقول الإنجيل عنه في مواضع مختلفة عن ”قيامته من بين الأموات“ (مت 22: 31؛ لو 20: 35؛ أع 4: 2).

قيامة الأجساد:

في قانون الإيمان نعترف هكذا: ”وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي“:

+ ونحن ننتظر المسيح، في مجيئه الثاني، أن يُنادي على جميع الأموات للخروج من القبور ليقوموا بقوة الله، حيث يقول المسيح: «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون» (يو 5: 25). والقديس بولس كان يُبشِّر أهل أثينا «بيسوع والقيامة» (أع 17: 18).

+ أما إنكار القيامة فهو، بحسب كلمات المسيح، جهل بالأسفار المقدسة وقوة الله (مت 22: 29). وقد كان إنكار القيامة من بين الأموات هو الخطأ الذي وقع فيه أتباع شيعة ”الصدُّوقيين“ ضد ما كان يُعلِّم به الرب يسوع (مر 12: 18-23؛ لو 20: 27-33؛ أع 23: 6-8).

+ القيامة هي الأناستاسيس anastasis، إنها القيام وقوفاً، وهي الاستيقاظ من بعد الرُّقاد، وهي العمل الذي يتم بقوة الله القادر على كل شيء، حيث تعود النفوس إلى أجسادها، فتعود الحياة إلى الإنسان، حيث تُدعى لكي تكون روحانية غير مائتة، أي خالدة. لأنه إن كان الموت هو انفصال النفس عن الجسد، فالقيامة هي عودة اتحاد النفس بالجسد.

+ القيامة هي عمل الله الذي به تقوم الأجساد في كل الأزمان والأماكن، الأبرار وغير الأبرار على السواء، بالرغم من انحلالها السابق بالموت وتحلُّلها إلى التراب؛ فتعود النفوس إلى أجسادها التي انفصلت عنها بالموت، ليتحدا معاً إلى الأبد، إما ليكونوا بالقُرب من الله، أو بالبُعد عنه.

هل القيامة هي للأبرار وغير الأبرار؟

النص القاطع في هذا الأمر هو في إنجيل القديس يوحنا، فيقول الرب يسوع:

+ «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذي عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 29،28).

ولكن بعض النصوص في الكتاب المقدس تبدو وكأنها تتحدث عن قيامة للأبرار فقط (كما في نبوَّة إشعياء النبي 26: 19؛ لو 14: 14). إلاَّ أن دانيال النبي توقَّع قيامة للأبرار وغير الأبرار: «وكثيرون (أي الجميع) من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للإزدراء الأبدي» (دا 12: 2).

+ وفي دفاع القديس بولس أمام ”فيلكس“ الوالي، لم يتردَّد عن الإشارة إلى أن الكلَّ سيعطون حساباً أمام الديَّان السماوي، لأنه سوف تكون هناك «قيامة للأموات، الأبرار والأَثَمَة» (أع 24: 15).

+ ومن وثائق الكنيسة الأولى نقرأ فيما يُسمَّى ”قانون إيمان القديس أثناسيوس“: ”حيث سيأتي ليدين الأحياء والأموات، الذي عند مجيئه سوف يقوم كل الناس بأجسادهم، وسوف يؤدُّون حساباً عن أعمالهم؛ والذين سلكوا حسناً سيذهبون إلى الحياة الأبدية، بينما الذين سلكوا رديئاً فإلى النار الأبدية“(1).

شمولية حَدَث القيامة العامة:

يقول القديس غريغوريوس النيصي في كتابه ”التعليم المسيحي الكبير“: ”حينما يأتي هذا الصوت (صوت ابن الله)، سيسمعه الجميع حتى ولو كانوا أمواتاً“(2)، وذلك تحقيقاً لِمَا قاله رب المجد في إنجيل يوحنا (5: 29،28)، وسيشمل هذا الصوت كل الأمم والشعوب «ويجتمع أمامه جميع الشعوب» (مت 25: 32)، «صغاراً وكباراً» (رؤ 20: 19)، كلهم واقفون أمام الله. أما كلمات المزمور الأول - العدد 5: «لا يقوم الأشرار في الدِّين (الدينونة)»، فهي لا تعني عدم حضورهم الدينونة، بل عدم قيامهم قيامة الأبرار بعد الدينونة(3) (القديس آفراهات).

«أنا هو القيامة»:

الرب يسوع المسيح ليس فقط علَّم عن القيامة، بل وأيضاً كان هو ”القيامة“. ومن قيامته التي تمَّت في اليوم الثالث من موته على الصليب، تعلَّم التلاميذ عمَّا سيحدث في نهاية التاريخ. والقيامة الآتية التي نرجوها وننتظرها، نحن نختبرها مُسْبقاً الآن إذا كُنَّا نعيش ونستتر في المسيح. ومن أمام قبر لعازر الذي أقامه المسيح من الموت، قال: «أنا هو القيامة والحياة. مَن آمـن بي ولـو مات فسيحيا. وكـلُّ مَن كان حيّاً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 26،25).

فالقيامة، كحَدَث فعلي، لا تقتصر على قيامة المسيح، بل تشمل أيضاً قيامتنا، أي كل مَن ذاق ”القيامة الأولى“ من موت الخطية (المُعطاة لنا في سرِّ المعمودية) إلى حياة البرِّ، وكذلك ”القيامة الثانية“ التي هي استرجاعنا من الموت الجسدي في القبر إلى الحياة في الدهر الآتي؛ فهذان هما القيامة: «مُبارَكٌ ومُقدَّس مَن له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني (الأبدي) سلطان عليهم» (رؤ 20: 6).

+ إن قيامة المؤمن بالمسيح هي مشاركة في قيامة المسيح: «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة (أول) الراقدين (الذين سيقومون من بين الأموات)» (1كو 15: 19)، «وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» (رو 8: 11).

النماذج الأولى في العهد القديم

السابقة للقيامة:

بالرغم من أن القيامة ”الأناستاسيس anastasis“ هي تعليم أسفار العهد الجديد، فقد سبق حدوثها بصور متنوعة في العهد القديم لإظهار قوة الله في تجديد الحياة واسترجاع الحياة المفقودة بالموت، وذلك بحسب شرح آباء الكنيسة القدامى.

فإسحق أُقيم من موتٍ كان سيتحقق فعلاً ونال الحياة بتدبير الله، بعد أن صمَّم إبراهيم أن يُنفِّذ أَمر الله بالتضحية بابنه (تك 22: 1-13)؛ ويوسف أُقيم (أُخرِج) من البئر الذي ألقاه فيه إخوته ليموت (تك 37: 23-28)؛ ورجوع شعب الله من سَبْي بابل (حز 37)؛ وأَخْذ أخنوخ إلى السماء (تك 5: 24)؛ وشفاء إيليا لابن الأرملة في صرفة صيدا وإرجاعه حيّاً بعد الموت (1مل 17: 21)؛ وأليشع أقام ابن المرأة الشونمية (2مل 4: 34). كل هذه أمثلة رآها آباء الكنيسة الشارحون للكتاب المقدس كنماذج مُسْبقة لقيامة ابن الله المتجسِّد من الموت، وبالتالي قيامة الجميع(4).

كما أن هناك أحداثاً عن النجاة من الطوفان العظيم، كمثال ونموذج للمعمودية والقيامة. هذه الروايات القديمة تُشكِّل خلفية لتفسير إقامة المسيح لابنة يايرس (مر 5: 41)، وابن أرملة نايين (لو 7: 15)، ولعازر (يو 11)، والراقدين الذين قاموا أثناء دفن الرب يسوع في أورشليم (مت 27: 52).

التعليم المسيحي المُميَّز عن قيامة الجسد:

إن موت المسيح حقيقة تاريخية اعترف بها الوثنيون وأعداء المسيحية، أما قيامة المسيح من بين الأموات فهي الإيمان المُميَّز المقصور على المسيحية. كما أن انتظار القيامة العامة للأجساد، هو تعليم مُميَّز يُفرِّق بين اليهودية والمسيحية، كتعليم مختلف، وبين تعاليم أديان العالم الكبرى.

والتعليم بانتظار قيامة الأجساد يُقاوم الثنائية المرفوضة بين الجسد والنفس، إذ هو يُكرِّم الجسد كجزء أساسي لا يتجزَّأ في الطبيعة البشرية. وهذا التعليم يرى الموت لا كمجرد عملية فسيولوجية طبيعية، بل بالعكس باعتبار الموت عدوّاً للطبيعة البشرية. فالموت ليس مجرد حادثة طبيعية، بل هو نتيجة الخطية.

إن القيامة في أسفار العهد القديم كانت إعلاناً واضحاً وسط الآلام والمحن التي عاناها أيوب: «أما أنا فقد علمتُ أن وليِّي حيٌّ، والآخر على الأرض يقوم، وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر» (أي 19: 25-27).

القيامة تفترض الخلود:

في القيامة سيقوم الأموات مرة أخرى عند نهاية العالم ويصيرون غير مائتين، أي خالدين، وذلك بحسب عقيدة الكنيسة. فهناك ارتباط وثيق بين الحالتين: القيامة والخلود.

+ ولماذا لا يكون موت بعد القيامة العامة؟

لأن القيامة ستحدث لتتميم قصد الله من خلقة الإنسان، وهو الاتحاد بالله. وكمال قصد الله يتطلَّب أولاً رجوع الاتحاد بين النفس والجسد مرة أخرى. لأن الشخص البشري بدون الجسد يكون فاقداً شيئاً أساسياً في كيانه. لذلك فالرغبة الطبيعية في النفس البشرية هي أن تتحد مرة أخرى بالجسد، ولن يمكن أن تهدأ هذه الرغبة تماماً حتى يعود الاتحاد مع الجسد؛ وبكلمات أخرى، حتى يقوم الإنسان من الموت. ولأن النفس خالدة بنعمة من الله، فلابد أن تتحد مع الجسد.

ولأنه من طبيعة النفس أن لا تبقى بدون الجسد، لذلك فلن يدوم إلى الأبد هذا الوضع الذي هو ضد طبيعة النفس، ولابد أن تحدث قيامة الجسد.

والذين يقومون بنعمة قيامة المسيح لن يُعانوا الموت فيما بعد، لأن المسيح بآلامه قد أصلح ضعفات الطبيعة البشرية التي تسبَّبت فيها الخطية بالموت.

+ والإنسان تجرَّد من الحياة زمنياً بالموت الجسدي. والجسد في هذه الحياة أُعطِيَ للإنسان ليكون له مسكناً مؤقتاً بالخلقة الأولى (2كو 5: 1-5). أما في الدهر الآتي، فالحياة التي سينالها الإنسان بالقيامة ستصير غير مائتة بنعمة قيامة المسيح. والشخص البشري ستُعطَى له حياة جديدة باتحاد النفس بالجسد مرة أخرى في القيامة من بين الأموات. والجسد سينال شكلاً مُمجَّداً بالقيامة.

وبينما في الخلقة الأولى، أتت خلقة النفس بعد خلقة الجسد، فبدأت النفس تتلاءم مع الجسد؛ فإنه في القيامة المنتظرة سيحدث العكس، إذ سيتلاءم الجسد مع النفس التي نالت الخلود بنعمة القيامة بالروح القدس.

(يتبع)

(1) Creeds of the Churches, Ed. John Leith, Richmond, VA, John Knox Press 1979.

(2) Gregory of Nyssa, The Great Catechism XVI; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 489.

(3) Aphrahat, Demonstrations of Death; NPNF, 2nd Ser., Vol. XIII, p. 406.

(4) Methodius, Of the Resurrection; ANF, Vol. VI, pp. 373-76; Cf Ambrose, FC 44.