أبحاث ورسائل أ كاديمية


رسالة دكتوراه (مقارنة بين توما الأكويني والأب متى المسكين) بين العقل والإيمان

+ في شهر يونية عام 2009م، وهو نفس الشهر الذي يحتفل فيه محبُّو الأب متى المسكين بالتذكار السنوي لنياحته، قُدِّمت أول رسالة دكتوراه في جامعة القاهرة (قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة القاهرة)؛ تعقد المقارنة بين القديس (الكاثوليكي) توما الأكويني في القرن الثالث عشر في الغرب، وبين الأب متى المسكين في مصر، باعتبارهما قادا – كلٌّ منهما في عصره – حركة تجديدية للفكر اللاهوتي الفلسفي في كنيسته.
+ وقد نالت (الباحثة) الدكتورة عايدة نصيف أيوب، عن هذه الرسالة، درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى (وهي أعلى درجة أكاديمية)، على أن تقوم الجامعة بطباعة الرسالة وتبادُلها مع الجامعات الأخرى. ونعرض في هذا العدد لبعض المعالم الرئيسية للرسالة.

الظروف التي نشأ فيها كلٌّ من

توما الأكويني والأب متى المسكين:

+ لقد نشأ القديس توما الأكويني في إيطاليا في كنف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في وقت كانت تنظر فيه إلى الفكر الفلسفي الأفلاطوني والأرسطالي على كونه مجرد خرافات. ولكن كان هناك آباء في كنيسة روما مَن حاول القضاء على هذا الاتجاه المنتشر في الكنيسة آنذاك، ولا سيما توما الأكويني الذي قاد حركة لنشر الفلسفة الأرسطوطالية، ليشرح ويُثبت بها عقائد الكنيسة الكاثوليكية.

+ بينما نشأ الأب متى المسكين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وقضى شبابه في خدمة الكنيسة، ثم تكرَّس راهباً، وتمرَّس في الحياة الرهبانية بدراسته العميقة المُركَّزة لكلمة الله، مُطيعاً لكل متطلباتها، وبالتالي مُستقبِلاً لكل المعونات والتعزيات الإلهية، ونائلاً الاستعلانات الروحية لِمَا يقرأه من كلمة الله طوال حياته الرهبانية. ومن هذه الحياة الزاخرة تكوَّن لديه الحسُّ الروحي في الحياة المقدسة أولاً، ثم المنطق الإلهي في التعبير عن هذه الحياة.

+ وهكذا تمثَّلت قضية التجديد عند الأب متى المسكين في تأصيل الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي، انطلاقاً من نصوص الكتاب المقدس أولاً، مع تأكيد السمة التاريخية للعقيدة المسيحية. ونتج عن ذلك لاهوت وفكر مسيحيان يجمعان بين التقليد الكنسي، والتجديد في لغة الفكر المُعبِّر عن هذا التقليد، وهو ما يمكن اعتباره بعثاً للتجديد الفكري اللاهوتي القائم على القديم، والمُعبِّر عنه بآليات الفكر في القرن العشرين.

+ وقد قام مشروع التجديد والإصلاح عند الأب متى المسكين على ركيزتين: أُولاهما: ركيزة عامة وتخصُّ التراث، وتتمثَّل في وضع منهجية جديدة لتفسير الكتاب المقدس، ولتأصيل الفكر الآبائي (القائم على تراث كتابات آباء الكنيسة القديسين)؛ وثانيتهما: تقوم على الركيزة الأولى وتتكون من عدة خطوات.

+ الركيزة الأولى وتتكون من:

1. منهج جديد لتفسير الكتاب المقدس،

ويقوم على:

أ – معرفة دقيقة باللغة اليونانية؛

ب – معرفة دقيقة بكاتب كل إنجيل والتوحُّد معه بروحه وفكره.

وهذا – حسب رأي الباحثة – ما برع فيهما الأب متى المسكين.

وهكذا بدأ الأب متى المسكين يُقدِّم شرحاً وتفسيراً للأناجيل الأربعة، بالإضافة إلى بعض رسائل الرسل، موظِّفاً إيمانه وعقله الثري في شرح العهد الجديد وتفسيره، بما فيه من لاهوت وعقيدة، وتاريخ الأحداث، وشخصية المسيح الإله.

+ كل هذا، بالإضافة إلى قدرة الأب متى المسكين الفائقة على إقامة علاقة قوية بين العهد القديم والعهد الجديد، والربط بين مفاهيمهما وأحداثهما، الأمر الذي يعجز عن تحقيقه كثير من اللاهوتيين، حسب تعبير الدكتورة الباحثة. فقضية الوحدة بين العهدَيْن القديم والجديد قضية أساسية عند الأب متى المسكين في دراسة الكتاب المقدس.

+ وتشرح الباحثة مسألة التأويل أو التفسير عند الأب متى المسكين، حيث يقول هو صراحةً: ”أنا لا أؤوِّل، أنا آخذ التأويل من صاحب النص (أي كاتب الإنجيل أو الرسالة)“.

أما شرح الإنجيل الذي يُقدِّمه الأب متى المسكين، فيستخدم فيه التقليد التفسيري لآباء الكنيسة، وهو منهج التفسير الرمزي لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية القديمة.

+ ومضمون التعليم اللاهوتي لهؤلاء الآباء، أنَّ علم اللاهوت المسيحي ليس هو المعرفة عن الله كمطلق، ولكن معرفة الله من جهة علاقته بنا نحن البشر. فاللاهوت المسيحي هو إعلان ”محبة الله“ للعالم أجمع؛ ليس ”المحبة“ كصفة من صفاته، بل بالتأكيد على أنها طبيعة جوهره. فـ «الله محبة»، وقد أفاض بمحبته على العالم، وأدخل النور والحب إلى الحياة. فاللاهوت المسيحي، ليس نظرية تُدرَّس، بل حياة تُعاش.

2. تأصيل الفكر الآبائي:

+ وهو مُكمِّل لمنهجية تفسير الكتاب المقدس. ويرى الأب متى المسكين أن آباء الكنيسة القدامى هم أكثر معاصرة لنا من كثير من التعاليم والآراء والأفكار الروحية واللاهوتية السائدة، والتي لا تتفق مع بشارة المسيح وكرازة الرسل. فمواجهة الكنيسة اليوم للتحديات، لا يكون بالاجتهاد الفكري الشخصي، بل استناداً إلى تقليد آباء الكنيسة الملتزم بكلمة الإنجيل واستعلان الروح القدس. وفي رأي الأب متى المسكين، أنَّ أي خروج عن اتجاه آباء الكنيسة العام، يُخرجنا عن مفهوم الأرثوذكسية وعن حياة الكنيسة بوجهٍ عام.

+ والروح القدس له سلطان في الكنيسة من حيث هي جسد المسيح، وقد سلَّمها المسيح الروح القدس لنموِّها وتكميلها، ولكن يظل الرب يُدبِّرها بنفسه كرأس لها بواسطة عمل الروح القدس، ليكون الكل واحداً بمواهب متعدِّدة في المسيح.

+ ويرى الأب متى المسكين أن خضوع الكنيسة لأية سلطة كهنوتية إنسانية، يعني بالأساس أن الكنيسة ورجال الدين عليهم الخضوع للقوة الإلهية اعتماداً على التقليد الكنسي وعلى نصوص الكتاب المقدَّس؛ حيث إن الإنسان مادي وعقله محدود، ومِن ثمَّ يجب عليه أن يخضع للقوة الإلهية اللامتناهية المتمثِّلة في الروح القدس المُفاض على الخدَّام، وذلك من خلال الكتاب المقدس ومن خلال الشرح والتفسير الصحيحَيْن لآباء الكنيسة.

+ وتشرح الرسالة الركيزة الثانية التي تقوم على الركيزة السابقة، والتي تتكوَّن من عدة خطوات هي:

- وضع تصوُّر جديد للعلاقة بين العقل والنقل (الوحي)،

- وثنائية علاقة النفس بالجسد،

- ومعالجة الانقسام العقائدي بهدف تحقيق الوحدة المسيحية،

- وأخيراً، وضع صيغة جديدة لعلاقة الدين بالسياسة.

وسنقتصر في هذا المقال – لضيق المقام – على عرض الخطوة الأولى من هذه الركيزة الثانية:

تصوُّر جديد للعلاقة بين

العقل والنقل (الوحي الإلهي):

نرى الأب متى المسكين – من واقع كتاباته وتفاسيره وشروحه – يستخدم العقل لتأييد ”النقل“ (أي الوحي)، وهو يرى أن أحدهما لا يُعارض الآخر. فعند تناوله لأية قضية لاهوتية وعقائدية، يُقدِّم النقل (أي الوحي) على العقل. فيبدأ بنصوص الكتاب المقدس كمفتاح لأية قضية، ثم يُدلِّل على صِدْق هذه القضية بالاستدلال العقلي الذي لا يتعارض مع العقيدة.

+ ولكنه عندما يتناول القضايا المعاصرة، فهو يُناقش القضية أولاً، ومصدرها عنده الواقع والعقل؛ أما الخطوة الثانية فهي الرجوع إلى النصوص الدينية، ويتضح ذلك بصورة جلية عند تناول مفهومَي الاشتراكية والديموقراطية.

الفرق بين رؤية توما الأكويني

ورؤية الأب متى المسكين في استخدام العقل:

+ فالقديس توما الأكويني وظَّف الفلسفة الأرسطوطالية في العصور الوسطى للبرهنة على العقائـد الإيمانية وإثباتها، وكانت هـذه هي البداية الحقيقية لِمَا يُسمَّى ”الفلسفة المدرسية scholastic“. وهكذا أصبح شرح الإيمان كما يُعلِّم به توما الأكويني ذا صبغة أرسطوطالية.

+ أما بالنسبة للأب متى المسكين، فقد تمثَّلت قضية التجديد عنده في تأصيل الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي. وقد اعتمد في ذلك على نصوص الكتاب المقدس أولاً. وقد نتج عن ذلك لاهوت وفكر مسيحيان يجمعان بين التقليد والتجديد، مُعتمداً على تفسير الآباء الكنسيين القدامى، ولكن باستخدام آليات وأدوات الفكر الحديث.

+ والقديس توما الأكويني، ذهب إلى أنه لكي يردَّ على المُخالفين للإيمان المسيحي، لا يستطيع أن يُدافع عن المسيحية بواسطة نصوص الكتاب المقدس، لأن كل مَن لا يؤمن بالمسيحية لا يعترف بالنص الإنجيلي؛ ولذلك لابد من الرجوع إلى العقل للنظر في الأمور الإلهية.

ويرجع السبب في هذا الاتجاه إلى غزو الفلسفة الأرسطوطالية للعالم الغربي من خلال الترجمات لكتاب هــذا الفيلسوف الإغريقي القديم ”أرسطو“ التي انتشرت في الغرب في هذه الفترة.

+ أما الأب متى المسكين، فهو يقوم بشرح وتفسير القضايا اللاهوتية (مثل التوحيد، التثليث، صفات الله)، مرتكزاً أولاً على الكتاب المقدس، ثم يـأتي دور العقل بعد ذلك. فــالإيمان أولاً ثم العقل، متأثِّراً بـالمبدأ الأوغسطيني: ”أومن كي أتعقَّل“.

+ ويقول الأب متى المسكين في كتاب: ”المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا“:

[فلما دخل الإيمان المسيحي في الصراع مع منطق الفلاسفة، كان الإيمان هو القوة الفعَّالة، تستمدها الكنيسة من حياة المسيح. فإزاء آلهة الفلاسفة، ظهرت الحاجة أشد ما تكون إلى ”اللوغوس“ أي ”كلمة الله“ النازل من السماء باسم الآب، والصاعد إليها بمجد الله.

ففي محنة الصراع الفلسفي، كان يعوز الكنيسة التعبير عن الحق، لا بالمنطق الفلسفي الأرضي؛ بل بالمنطق والإقناع الإلهي بحسب فكر المسيح].

وكما قيل عن الآباء القديسين إنهم كانوا يكرزون بالمسيح ”ليس بحسب منطق أرسطو، بل بحسب كرازة الرسل“.

+ + +

وهذا جزء قليل من الرسالة التي قضت الباحثة في إعدادها أربع سنوات ونصف، كرَّست السنة الأولى منها لقراءة كل كتابات الأب متى المسكين قبل أن تبدأ في إعداد الرسالة.

لذلك أتت الرسالة شاملة لمعظم فكر الأب متى المسكين، بتحليلات وربط بين المفاهيم والمعاني الواردة، منسَّقة بحسب الأنماط العلمية الأكاديمية الواجبة والمُتَّبعة في الرسائل الجامعية الأكاديمية، ما شهد به أعضاء اللجنة التي ناقشت الرسالة، ومن بينهم الأستاذة الدكتورة زينب محمود الخضيري المُشرفة على الرسالة. +

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis