ذِ كْر الصدِّيق للبركة


الذكرى الرابعة لنياحة أبينا الطوباوي القمص متى المسكين

مهما مرَّ من السنين على نياحة قدس أبينا الطوباوي القمص متى المسكين، فلا يمكن أن تمحو الأيام والسنون تلك البصمة التي تركها فينا، وفي الرهبنة عامةً، وفي الكنيسة كلها، بل وعلى مستوى العالم كله؛ وذلك من خلال سيرته الفريدة العطرة، وبواسطة تراث كتاباته المتميِّزة التي أثـْرَت المكتبة المسيحية في كل مجالاتها، بطابع جديد من الانفتاح الذي شمل كل جوانب الحياة، بأسلوب روحاني وفكر متَّسع متطوِّر، تسنده الخبرة وتقديم الحقائق اللاهوتية العميقة بصورة حيَّة، تلمس شغاف القلوب، ويستسيغها كل مَن يبحث بإخلاص عن الحقيقة مهما كانت عقيدته.

فقد عَزمَ الأب متى المسكين، منذ بداية رهبنته، أن يكون أداة طيِّعة للروح القدس لكي يعمل به ويستريح فيه، فيُنفِّذ مشيئته، من أجل مُصالحة الكثيرين مع الله وربحهم للمسيح. فهو منذ فجر أعماله، وفي أول كتاباته، كتب في مقدِّمة كتاب: "حياة الصلاة الأرثوذكسية"(1)، أنَّ قصده من هذا الكتاب أن يكون "فيه كلمة مُصالحة ونقطة تقابُل، لا على صعيد الحوار الفكري أو الجدل اللاهوتي؛ بل على مستوى وحدة الحياة الروحية وتجلِّيات الإيمان، الذي يتجاوز العجز اللفظي إلى نور الحق الإلهي المُعاش...". ثم أردف قائلاً:

[لذلك نحن نتوسل لدى الله القدير أن يجعل هذا الكتاب "إسقيطاً" جديداً يجمع إليه الأقطار كما انجمعت فيه (أيام القديس مقاريوس الكبير)، تمهيداً لاستعلان عهد المصالحة].

ثم أضاف قائلاً:

[فالعالم اليوم مُتعطِّش لشهادة إيمان حيٍّ بشخص يسوع المسيح، لا ليسمعها ولكن ليعيشها. فالكتب التي تتكلَّم عن المسيح ما أكثرها، والمعلِّمون الذين يتكلَّمون عن المسيح ما أكثرهم أيضاً؛ ولكن الذين يعيشون مع المسيح ويتكلَّمون مع المسيح قليلون جداً... إن المسيح أعطانا، لا أن نعرفه أو نؤمن به فقط، بل أن نحيا به. وأعطانا الروح القدس، لا ليُعلِّمنا فقط، بل ليسكن في داخلنا، يُغيِّر شكلنا ويُجدِّد ذهننا ويأخذ كل يوم مِمَّا للمسيح ويُعطينا. فالحياة في المسيح حركة وخبرة وتجديد ونمو بالروح لا يتوقف].

ثم استطرد قائلاً:

[والمسيح حينما يُناشدنا أن نداوم على الصلاة باسمه لدى الآب، فهو إنما يكشف لنا تدخُّله العجيب كوسيط نتلقَّى من اتحادنا به في الصلاة قوة تدفعنا للدخول في مستويات عالم الروح الذي يفوق طاقتنا ويفوق إدراكنا وحواسنا وكل إمكانياتنا].

ثم اختتم المقدِّمة قائلاً:

[والنفس التي تحمل صليبها لا تنجذب وحدها للمسيح، ولكنها - دون أن تدري - ينجذب خلفها كثيرون: «اجذبني وراءك فنجري» (نش 1: 4)، لأن النفس البشرية ليست أبداً في عزلة عن النفوس الأخرى. فبلوغ أي نفس إلى ملكوت الله هو مكسب للعالم بصورةٍ سرِّية، والطريق المطروق يسهل السير فيه! ورجال الصلاة علامات ثابتة على الطريق تُنير إلى أبد الدهور].

كان هذا أول كتاب كتبه الأب متى المسكين، ولم يكن يُفكِّر قط في أنه سيُنشر يوماً ما، لأنه كان مجرد مذكرات يكتبها لنفسه، كتأمُّلات في أقوال الآباء النسَّاك الأوائل عن الصلاة، لكي يعيشها ويُطبِّقها في حياته. فقد كان هدفه منذ البداية أن يتبع المسيح ويُنفِّذ وصيته التي استهوته وملكت كل كيانه. وكان أميناً جداً في تنفيذ الوصية وفي الحياة بها، لأنه أحبَّ الله الذي نطق بها، فأنشأَت فيه المثال الرهباني الإنجيلي الذي استطاع أن يشعَّ قوةَ نور الوصية ذاتها مُكمَّلةً في تجربةٍ حيَّة ناطقة تستهوي قلب كل مَن يطلب أن يحيا الإنجيل. وأثبت أن الرهبنة في حقيقتها الإنسانية شهوة تشتهيها النفس المُحبَّة جداً لله، ولكنها في حقيقتها الإلهية دعوة إنجيلية صامتة وجذبٌ إلهي مستتر، خضع لها آباؤنا القديسون الأوائل: أنطونيوس ومقاريوس وباخوميوس، كما خضع لها الأب متى المسكين، فأوجدوا في البرية نموذجاً ناجحاً لتحقيق الشهوة الروحانية والدعوة الإنجيلية.

لذلك جاءت حياته وكلماته نوراً مُضيئاً بزيت النعمة، فطفق يكتب ويعمل ويشرح من فيض غِنَى الرب الذي ملأ كل كيانه.

لقد عانى الأب متى المسكين في حياته الرهبانية الكثير من التجارب والضيقات، لأنه سلك الطريق الضيِّق، وحرص كل الحرص أن يتبع المسيح بكل أمانة حاملاً الصليب ومُنكراً لذاته، ومُتجنِّباً لكل كرامةٍ ومجدٍ أرضيَّيْن يُلهيانه عن هدفه الكبير الذي خرج من العالم من أجله. فقد كتب في إحدى مقالاته عن الشروط التي تضمن صحة الرهبنة ونجاحها قائلاً:

[أن يكون دافعها إنجيليّاً صرفاً، فيكون الخروج للرهبنة، لا عن مجرَّد شهوةٍ أو غيَّة، أو عن تجربة للطريق، أو عن يأس من العالم، أو عن شجاعة بطولية، أو عن محاكاة وتقليد، أو عن خدمة ووظيفة؛ فهذا كله يحكم على هذه الرهبنة من أول خطوة أنها نموذج بشري يظل فاقداً للعنصر الإلهي الذي يجعلها إلهية يضمن لها الطريق حتى نهايته. فهي قد تكون رهبنة ناجحة من المنظور البشري حينما يُحقِّق الراهب أعمالاً وخدماتٍ كبيرة، ولكن هذه الأعمال عينها يستطيع أن يعملها ويعمل أعظم منها مَن هو ليس براهبٍ. ولكن الرهبنة الإلهية لا تُقاس بالأعمال والخدمات، بل تُقاس بمقدار تحقيق وجود الله في حياة الراهب، حيث يُحقِّق الراهب برهبنته كياناً بشرياً إلهيّاً قائماً بذاته. وإلى هنا يكمل منتهى قصد الرهبنة الإلهية. فالرهبنة الإلهية (التي هي حسب قصد الله ومسرَّته)، هي شهادة حيَّة وسط العالم لوجود الله فعَّالاً وعاملاً في إنسان تمسَّك بكلام الله، حيث يصبح بذاته كنيسة، ويصبح سنداً للكنيسة واستعلاناً لمضمونها.

وعلامات نجاح الرهبنة الإلهية المستندة بقوة على كلمة الله ووعوده، هي على وجه الاختصار: الفرح الدائم، انفتاح الوعي القلبي والفكري لكلمة الإنجيل، إدراك كل أسرار الخلاص الذي هو مضمون الإنجيل، وتوصيل رسالة الخلاص كما يعيشها ويحسُّها الراهب لكل مَن يطلبها](2).

وقد بَدَت هذه العلامات واضحة وجليَّة في كل نواحي حياة آباء البرية القديسين، الذين تبع أبونا الطوباوي نهجهم وسار على هدي كلمة الله كما ساروا. واكتشف أن الصفة الأولى والعظمى السائدة على كل نشاطهم وحياتهم، هي انقيادهم بروح الله. لذلك فقد استطاع الروح أن يُحقِّق في حياتهم كل مواهب المسيح وعطاياه الخلاصية الفائقة. فحياتهم ترجمة واقعية لمعنى الفداء، وعمل الخلاص، والإيمان العامل بالمحبة، والخليقة الجديدة، والرجاء الحار الذي يعيش ملء المستقبل في صميم الحاضر.

لذلك فقد كان تركيز الأب متى المسكين الأكبر في كتاباته على أمرَيْن أساسيَّيْن في الحياة المسيحية، وهما: الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرِّ وقداسة الحق، وشركة وعطية وموهبة الروح القدس.

فيقول عن الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة، إنها هي الصورة الحيَّة لحبِّ الله الفائق ورحمته المطلقة. لأنه إن كان الله قد خلق الخليقة الأولى من العدم كبرهان على قدرته على كل شيء، فإنه خلق الخليقة الثانية من عمق الخطية والموت كفعل حبٍّ لرحمةٍ فائقة: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

فالخليقة الأولى ورثناها بالجسد، ومعها لعنة الموت كائنة في أعضائنا؛ والخليقة الثانية ورثناها بالمعمودية، عندما دُفنَّا مع المسيح للموت، وقمنا أيضاً معه، وفينا قوة القيامة ومجد الحياة الأبدية كائنَيْن في صميم الخليقة الجديدة.

ثم يتكلَّم ويُسهب في كتاباته عن الروح القدس وعمله داخل النفس وفي الكنيسة وفي الأسرار وفي جهادنا الروحي اليومي؛ فيؤكِّد أنه حسب كلمة الله والتقليد الكنسي وكتابات الآباء، فإنَّ العنصر الأساسي المشترك فيها جميعاً، من جهة عمل الروح القدس، هو القوة التقديسية في الثالوث القدوس، بحيث إن التقديس له صفة جوهرية، وإنه يؤهِّلنا لأن نصير بالابن بنيناً لله في بنوَّة الكنيسة. وهكذا يستعيد عمل الآب فينا، ويجعل الذين يسكن فيهم أبناء لله وشركاء الطبيعة الإلهية، حتى يمكننا باتحادنا به أن نصرخ بإيمان: "يا أبا الآب".

والروح القدس هو العامل في كل الأسرار، وهو الذي يجتاز بالنفس كل الاختبارات اللازمة لخلاصها، ويُعدُّها لاحتمال التجارب بصبرٍ وطول أناة، ويُزكِّيها ويُطهِّرها ويملأها بسلامه، ويضع على رأسها إكليل البرِّ؛ فتحسُّ النفس بنهايتها السعيدة، كما أحسَّ بولس الرسول، وتشهد الشهادة الأخيرة الحسنة، فلا تكفَّ عن التسبيح والشكر.

وفي استعراضه لِمَا كتبه القديس أنطونيوس في رسائله والقديس مقاريوس في عظاته، يُشير إلى هذا التأكيد المستمر على النار الإلهية التي انسكبت على الكنيسة في يوم الخمسين. هذه النار عند القديس أنطونيوس هي سرُّ الحياة الروحانية، وأساس كل سيرة في المسيح، ومبدأ كل فضيلة، وعلَّة كل عمل صالح. لذلك فإن القديس أنطونيوس يستحث أولاده جميعاً وكافة مَن يسمعه أو يقرأ له أن يقتني هذه النار، لأنها جوهر الحياة الروحية، والقوة الوحيدة التي تدفع النفس إلى السماء وسط محن الحياة وحقد الشيطان وكل أهوال الموت.

وكذلك القديس مقاريوس في عظاته الخمسين، فإنه يُشارك القديس أنطونيوس نفس الحماس والغيرة في حثِّ أولاده على اقتناء هذه النار الإلهية في داخلهم، بقوله:

[النفس إذا كان لها إقامة في شركة الروح القدس، فإن طول إقامتها في نار الروح ونوره الإلهي يُحصِّنها ضد أية مضرَّة من أيِّ روح شرير، لأنه إذا اقترب من النفس، فإنه يحترق من نار الروح السمائي] (العظة 30)(3).

ثم يستعرض الأب متى المسكين كتابات وتعاليم مار إسحق التي تبلغ قمتها عندما يتحدث عن الحبِّ الإلهي، فهو الثمرة الوحيدة التي تُثبت أن الجهاد صحيح، من صوم وصلاة ونُسك وخدمة وعبادة. ولكن لا يمكن اقتناء الحب الإلهي بالصلاة ولا بالصوم ولا بالنسك ولا بأيِّ عملٍ آخر، فهو من عمل الروح القدس مباشرة:

[حب الله، ليس هو عاطفة عابرة بدون إفراز، ولا هو يُقتَنَى من معرفة الكتب، ولا هو يتولَّد من الفضيلة وعمل مخافة الله، أو يُقتنى بالجهاد أو بتصوُّر حب الله، ولا يأتي من تأدية واجبات المحبة حسب الوصية؛ بل إذا قَبـِلَ الإنسان روح الاستعلانات، وتجدَّدت نفسه بحركات الروح وحكمة الله التي تفوق العالم، فإنه يحسُّ بعظمة الله جداً في نفسه. وبدون هذا الروح، لا يمكن أن يدنو أحد من مذاقة الحب الممدوحة] (الجزء الأول - الميمر الأول)(4).

وفي الختام، فإننا نعجز عن أن نُلمَّ بكل فكر أبينا الطوباوي المتنيح القمص متى المسكين، وتعاليمه التي أثرى بها فكر الكنيسة الروحي. فقد حاول الكثيرون وما زالوا، أن يَسْبروا أغوار حكمته وأعماق النعمة المتدفقة من كتاباته. ولا يسعنا إلاَّ أن نطلب من إلهنا الصالح أن ينفعنا ببركة صلواته، وأن يُضيء عيون قلوبنا لنستنير بتعاليمه، ويُعطينا أن نُكمِّل رسالته ونسير على هدي خُطاه وسيرته العطرة، بصلوات أبينا صاحب القداسة البابا شنوده الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. +

هيئة التحرير

(1) الأب متى المسكين، كتاب: "حياة الصلاة الأرثوذكسية"، الطبعة الثانية: 1968، من ص 9-15.
(2) من مقال كتبه الأب متى المسكين لمجلة: Le Monde de la Bible، إجابة على بعض الأسئلة التي تدور حول أحوال الرهبنة القبطية في أيامها الأولى وفي العصر الحاضر.
(3) الأب متى المسكين، كتاب: "الروح القدس وعمله داخل النفس"، الطبعة الخامسة: 2006.
(4) نفس المرجع السابق.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis